تعيش الشيشان وضعًا جغرافيًا خانقًا، حيث تقع في السفوح الشمالية لجبال القوقاز، وبين داغستان من الشمال والشرق، وإنغوشيا وأوسيتيا الشمالية، وجورجيا من الغرب، وتعيش كذلك وضعًا سياسيًا مضطربًا، فهي مطوقة بالنفوذ الروسي من كل ناحية، ويتأثر سكانها – الذين يبلغ عددهم وفقًا لتعداد عام 2021 حوالي مليون ونصف نسمة – بالحروب والمواجهات المستمرة مع روسيا تأثرًا بالغًا.
تجمع البلد ما بين الطبيعة الجبلية في الجنوب والسهلية في الشمال، واليوم هناك حوالي 170 قبيلة في الشيشان يعيش أكثر من نصفها في الجبال والباقي يعيشون في السهول المتدحرجة التي تقع بين نهر سونزا والوجه الشمالي لجبال القوقاز، ويشكل الشيشانيون 96.4% من مجموع السكان. وبالشيشان نهر واحد، هو نهر تيريك الذي ينبع من الأنهار الجليدية في جبال القوقاز ويصل إلى بحر قزوين.
نستكشف هذه الجمهورية ضمن ملف “ديار الإسلام في روسيا” الذي يسرد تاريخ منطقة سيبيريا وجمهوريات شمال القوقاز التي تضم الشيشان وإنغوشيا وداغستان وقبردينو بلقاريا وقره شاي شركيسيا، وجمهوريتي تتارستان وبشكيريا، وهي أقاليم روسية تقطنها غالبية مسلمة، يقدر عددها بنحو 25 مليونًا، الأكثرية من سُنّة المذهبين الحنفي والشافعي، أما الشيعة فغالبيتهم في داغستان، وينحدر القسم الأكبر منهم من أصول أذربيجانية وطاجيكية.
نستعرض في كل جمهورية أهم خصائصها الاجتماعية والدينية، ونمر على التحديات والمنعطفات التي شكلت تاريخها وطبيعتها وموقعها في العالم على جميع الأصعدة، ونبين طبيعة العلاقات بينهم وبين أنظمتهم الحاكمة، وكل ذلك داخل إطار النفوذ الروسي.
الشيشان .. الجذور والبنية الاجتماعية
تُرجع معظم الروايات التاريخية أصول الشيشانيين إلى شعوب ناخ الذين عاشوا في القوقاز منذ آلاف السنين، وهم متجانسون إلى حد بعيد وتقوم علاقاتهم في الأساس على الروابط العائلية والعشائرية، وهما يشكلان ثقلًا اجتماعيًا واضحًا في المجتمع الشيشاني، فمن المعتاد أن تتدخل العشيرة لتحقيق العدالة في المسائل الخلافية.
كما يتمتع الشيشانيون بلغة فريدة مشتقة من لغات عائلة ناخ القوقازية، وقد استخدم الشيشانيون الأبجدية العربية حتى حظرها السوفيت عام 1924 ليتمَّ استبدالها بالأبجدية السيريلية، واليوم يتحدث معظمهم اللغتين الروسية والشيشانية.
تعد الزراعة وتربية الأغنام والماشية من أهم الحرف التي يزاولها نسبة كبيرة من الشيشانيين، وهناك أيضًا شيشانيون يعملون في صناعة السجاد والأقمشة والحرف الشعبية، وفي الوقت الحاضر يشكل البترول العمود الفقري للاقتصاد الشيشاني، بجانب بعض المعادن كالحديد والنحاس والفضة.
رغم الدعم المالي من الميزانية الفيدرالية الروسية، فإن الشيشان باتت ثاني أفقر بلد بعد إنغوشيا في الاتحاد الروسي من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ويطالب بعض الشيشانيين بمنح بلدهم وضع منطقة اقتصادية حرة وحصة في شركة نفط شيشانية محلية، إلا أنه من المستحيل أن تلبّي الإدارة الروسية هذا المطلب.
انتشار الإسلام
من الناحية الدينية، كان الشيشانيون وثنيين في عصور ما قبل التاريخ، ثم حين اقتربت المسيحية من جورجيا بعد القرن العاشر وانتشرت في المنطقة، تحول قلة منهم إلى المسيحية.
وبسبب طبيعة منطقة الشيشان الوعرة والبعيدة عن حواضر الإسلام، انتشر الإسلام فيها على مراحل مختلفة، يرجع غالبية المؤرخين الانتشار الكاسح للإسلام في الشيشان في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى المتصوفة، واحتفظ هذا الانتشار بدور قوي جدًا في توحيد الشيشان وجزء كبير من شمال القوقاز.
ولعلّ المصدر الأكثر قيمة عن تاريخ وتقاليد الشعب الشيشاني هو الفولكلور الشيشاني، إذ تلعب الأمثال والأقوال والأحاجي والأغاني والحكايات الشفوية التي تحكي متاعبهم وأفراحهم وأمنياتهم ورغباتهم، وقصص حياة الأبطال الذين قادوا النضال خاصة في عهد الإمام شامل، دورًا عاطفيًا في حياتهم الاجتماعية والثقافية، ومن الواضح أن تاريخ الحروب هو أهم تاريخ للشيشان.
ومن خلال حفظ اللغة والتقاليد والملاحم التي رواها القدماء وانتقالها من جيل إلى جيل، تمكّن المجتمع الشيشاني من التغلب على الإبادة وعملية التكيف مع الظروف الثقافية والسياسية التي فرضها الروس في مساحاتهم الخاصة، وظل تراثهم محفوظًا في الذاكرة العامة لقرون.
أما الفن الشيشاني فله سوابق تعود إلى قرون ماضية، خاصة العمارة الشيشانية التقليدية بالجبال، وهي ظاهرة فريدة من نوعها في الثقافة العالمية.
رقصة الليزجينكا، الرقصة التقليدية لشعوب شمال القوقاز
مخاضات المعاناة
عندما ننظر إلى العلاقات بين الشيشان وروسيا، نجد تاريخًا طويلًا وعميقًا للغاية، إذ كان منطق التوسع الروسي في القوقاز مدفوعًا بفكرة المنطقة العازلة على الحدود، بمعني استخدام القوقاز كحزام عازل بين روسيا وأي عدو، تحديدًا العثمانيين والفرس، كما كان الدافع أيضًا التنصير وإدخال الثقافة واللغة الروسية للمنطقة، ما يعني تنفيذ سياسة تتطلب خضوع شمال القوقاز بالكامل.
تراكمات تاريخية امتدت لأكثر من أربعة قرون، وخلالها اتجهت العلاقات إلى تعريف نفسها في أجواء الصراع والحرب المستمرة، ويمكن حصرها بالمراحل التاريخية التالية:
الغزو الروسي الأول
حين بدأت روسيا في التحول إلى إمبراطورية توسعية، كان انتشار الإسلام يحدث على نطاق واسع في منطقة القوقاز. وفي النصف الأول من القرن السادس عشر، كتب راهب روسي مغمور يدعى “فيلوثيوس” عددًا من الرسائل ذات الأهمية الكبيرة في التاريخ الروسي، فهي الأساس الأيديولوجي والتوجه السياسي للانتقال من “إمارة موسكو” الحبيسة، إلى روسيا التوسعية.
تحدث فيلوثيوس فيها عن موسكو باعتبارها “روما الثالثة” الوريثة الشرعية لروما الثانية، وأرسل ما يدور في فكره إلى أمير روسيا، وفيها أوضح “أن القياصرة الروس هم الورثة الشرعيون لبيزنطة وعليهم تنفيذ عالمية روما الثالثة”.
حسب فيلوثيوس فلم يكن حاكم روسيا إلهيًا ومقدسًا فحسب، بل أصبحت روسيا نفسها مقدسة أيضًا ومنتخبة من الله ولها مهمة خاصة في العالم، وعبّر فيلوثيوس عن ذلك بوضوح، حين وصف أمير موسكو إيفان الثالث بأنه القيصر الجديد لمدينة قسنطينة الجديدة موسكو، وفي رسالة للأخير قال له فيها: “فاعلم أيها الملك التقي أن كل الممالك المسيحية قد انتهت.. وسقطت الرومتان الأوليتان، والثالثة قائمة، والرابعة لن تحدث أبدًا.. موسكو هي روما الأخيرة ومركز التاريخ”.
بدأ نفوذ روسيا في التوسع منذ رسالة فيلوثيوس في القرن السادس عشر، ففي العام 1547م أعلن إيفان الرابع نفسه قيصرًا لروسيا، ثم أعلن الحرب ضد إمارة قازان المسلمة، وهذه الإمارة الواقعة على نهر الفولجا ظلت لزمن طويل سدًا منيعًا ضد التوسع الروسي نحو الجنوب، ومع سقوطها بيد الروس عام 1552، أصبح الطريق سهلًا أمام الروس للاستيلاء على بعض الأراضي التركية والوصول إلى بحر قزوين ثم إلى منطقة القوقاز فيما بعد.
لم يمض سوى وقت قصير جدًا حتى أعلن الروس الحرب على أستراخان عام 1556، وأدى استيلاء إيفان الرابع على خانية التتار في أستراخان إلى توسيع نطاق وصول موسكو إلى بحر قزوين وسواحل بلاد فارس وآسيا الوسطى.
نتيجة لخضوع قازان وأستراخان للحكم الروسي، تحول نهر الفولغا إلى نهر روسي، وأصبح بوابة الروس إلى مناطق آسيا الداخلية. وبعد سنوات قليلة من هزيمة خانات قازان وأستراخان، بنى الروس قلاعًا في جبال القوقاز، والسبب الوحيد الذي دفع الروس إلى بناء هذه القلاع لم يكن التصدي للجماعات الشيشانية، بل احتلال شمال القوقاز بأكمله.
حدث الغزو الروسي الأول للأراضي الشيشانية في عهد القيصر إيفان الذي ظل يُذكر بقسوته تجاه الشعب الشيشاني ويعتبر من أكثر الحكام دموية في التاريخ، وقد سعى إلى دمج القوقاز في إمبراطوريته، لكنه فشل، رغم سلسلة الحصون التي أمر ببنائها لتكون بمثابة مراكز القوة في المنطقة.
دُمرت هذه الحصون في حروبه مع الفرس، كما فشلت أيضًا محاولة القيصر بوريس غودونوف للسيطرة على الشيشان مرة آخرى عام 1604، ما مثل نهاية للجهود الروسية للسيطرة على المنطقة لما يقرب من قرن من الزمان، وبالتالي فشلت أول حملتين لروسيا لاحتلال الشيشان، لكن إيفان الذي لقب بـ”الرهيب” سينقل سياسات الكراهية والاضطهاد التي انتهجها ضد الأراضي الشيشانية ومنطقة القوقاز إلى القياصرة الذين سيأتون من بعده.
أبناء بطرس الأكبر والأئمة الثلاث
في القرنين الثامن والتاسع عشر، كانت منطقة القوقاز ساحة معركة بين القوى الثلاث الرئيسية المتفاعلة في المنطقة: تركيا العثمانية السنية، وإيران الصفوية الشيعية، وروسيا المسيحية الأرثوذكسية، وكان لكل منهم أسبابه الاستراتيجية الخاصة، لكن من بين الثلاثة، تأرجح ميزان القوى في القوقاز للروس.
في بداية القرن الثامن عشر دخلت سياسة روسيا حقبة جديدة من الصراع مع الشيشان، حيث واصلت روسيا القيصرية توسعها منذ أن أصبح بطرس الأكبر قيصرًا، لكن لم تتقدم الخطط الروسية بالشكل المطلوب، وفشلت محاولة بطرس في احتلال الشيشان عام 1722.
خلال الفترة ذاتها، سيحاول القياصرة تنفيذ إرشادات بطرس الأكبر بشأن أحقية روسيا في احتلال كامل القوقاز وتركيع الشعب الشيشاني بالقوة. وهذه المرحلة هي أصعب وقت مر به الشعب الشيشاني، حيث تعرضت أراضيهم لهجوم شامل من القياصرة الروس.
مع ذلك، واجهت روسيا صعوبات في السيطرة على شمال القوقاز، وحقيقة أن غالبية الشعوب في شمال القوقاز ينتمون إلى الإسلام رغم اختلافاتهم العرقية جعلت الوضع أصعب بالنسبة للروس، إذ تم اعتبارها جدارًا إسلاميًا يمنع توسع روسيا، لذا كتب المؤلف الروسي مارلينسكي في ذلك الوقت: “ستكون القوقاز ممتعة لولا ثلاثة أشياء: الطاعون والكوليرا والمحمدية”.
ساعد الشيشانيين بروز العلماء الذين دمجوا التقاليد والعادات مع الشريعة الإسلامية لتشكيل عمل سياسي وعسكري متماسك في معارك المواجهة مع الروس، يأتي في مقدمتهم، الأئمة الثلاث: منصور وغازي وشامل، وهما من مشايخ الطريقة الصوفية النقشبندية، الطريقة الأقدم في الشيشان، وأثبت الثلاثة قدرتهم على توحيد مختلف شعوب القوقاز ضد الروس وخاصة الشيشانيين الذين كانوا أكثر الشعوب حماسًا للمقاومة.
الإمام منصور.. إعادة بناء الأمة
على خطى أسلافها، بدأت يكاترينا الثانية التي اعتلت العرش عام 1762 خطة واسعة النطاق لتوسيع النفوذ الروسي في القوقاز شمالًا وجنوبًا، وابتداءً من عام 1777 احتل الجيش الروسي عدة مناطق في الشيشان، لكن خاض الشيشانيون مع شعوب جبال شمال القوقاز عام 1780 معركة دفاعية شرسة لوقف الغزو الروسي، وكان قائد المعارك في تلك الفترة شيخًا صوفيًا نقشبنديًا والإمام الأول للشيشان والقوقاز، الإمام منصور.
كانت تعبئة منصور مبنية على الإطار الأخلاقي الذي قدّمه الإسلام، وأول نجاح مبهر حققه ضد الروس كان عام 1785، حين حاصر مع قواته جيشًا روسيًا على ضفة نهر سونجا وألحق به خسائر فادحة، وهي أسوأ هزيمة لحقت بجيوش كاترين العظيمة، لكن الأهم هو تطهير منصور لجزء كبير من شمال القوقاز من الروس.
ثم في عام 1787 التقى منصور مع القوات الروسية مرة أخرى، ولم ينجح لأن الروس فاقوه عددًا، لكنه ظل يقاتل حتى أسرَته الجيوش القيصرية في 5 يوليو/تموز 1791 في أثناء دفاعه عن قلعة أنابا بعد حصار دام 3 سنوات، وتوفي في سجن شليسلبورغ في بطرسبرغ بعد 3 سنوات من أسره.
🔹في هذا المكان (سجن شليسلبورغ) او جزيرة الموتى كما كان يطلق عليه، انتقل إمام القوقاز الأول الشيخ منصور الشيشاني الى رحمة ربه في عام ١٧٩٤ بعد سنوات طويلة من الدعوة و القتال ضد المحتلين الروس. pic.twitter.com/9ggDYzU1pW
— شؤون قوقازية (@Chechen_History) June 7, 2024
من الممكن القول إن هزيمة منصور كانت بداية انهيار حائط الصدّ القوقازي أمام التوسع الروسي، فقد حُوّل شمال القوقاز إلى مقاطعة روسية وضُمّ إلى الاتحاد الإمبراطوري الثاني.
يرمولوف.. مؤسس الإرهاب الروسي
بمجرد أن أدرك الروس مدى صعوبة منطقة الشيشان، استخدموا تكتيكات قاسية جدًا، وكان الجنرال أليكسي يرمولوف، الذي عيّنه القيصر ألكسندر الأول حاكمًا عامًا للقوقاز عام 1816، مثالًا على ذلك.
اعتمدت استراتيجية يرمولوف على شقَّين: الأول دفع الشيشانيين إلى الفرار من قراهم، من خلال حرق أي محاصيل يزرعونها سعيًا منه لتجويعهم وإجبارهم على الخضوع، وقد كتب يرمولوف: “لقد أمرت بإبادة وحرق القرى التي احتجّ أهلها، وذبح النساء والأطفال، وتدمير البساتين وكروم العنب حتى جذورها”.
والثاني إنشاء مستوطنات للجنود الروس وعائلاتهم في جميع أنحاء الشيشان، وبعد أقل من 20 عامًا على أسر منصور، انتهى يرمولوف من بناء موقع استيطاني جديد على نهر سونجا في 10 يونيو/حزيران 1818 أُطلق عليه اسم “غروزني”، وكانت عبارة عن شبكة من الحصون العسكرية للقوات الروسية ضد الشيشانيين، ساهمت بالفعل في تراجع جهود تحرير الشيشان تراجعًا حادًا.
أصبح التهجير والتدمير الشامل للقرى الشيشانية سمة أساسية لتكتيكات الجيش الروسي، واعتقد يرمولوف أن أي رحمة يظهرها ستكون علامة ضعف، كما اعترف بطبيعة أساليبه المتطرفة في قوله الشهير: “أتمنى أن يحرس الرعب الذي يحمل اسمي حدودنا بشكل أقوى من الحصون والقلاع، وأن تكون كلمتي بالنسبة للسكان الأصليين قانونًا أكثر حتمية من الموت”.
غازي مولا.. طموحات مبتورة
رغم اعتقاد يرمولوف أن سياساته ستبثّ الخوف في قلب كل شيشاني، فإنه عزز من حركة المقاومة، فرفع إمام آخر راية المقاومة ويُدعى غازي مولا، وهو من أصل آفاري، أتقن العلوم الإسلامية واللغة العربية، وكانت له علاقات وثيقة بالطريقة النقشبندية، وخاطب عددًا كبيرًا من سكان شمال القوقاز في المساجد بخطبه المرتكزة على الجهاد والحرية السياسية، وأثبت أن الإسلام هو القوة الموحدة لشعوب الجبال.
كان هدف غازي توحيد شعوب القوقاز وإقامة دولة قوية، لذا نظم اتحادًا مع زعماء القبائل في المنطقة، لكنه لم يحصل على ولاء جميع الشخصيات الرئيسية في داغستان والشيشان، وفي فترة 1829-1832، حقق بعض الانتصارات التي جاءت بشكل رئيسي في صد القوات الروسية، وتدمير الحصون وقتل العديد من الجنرالات الروس الكبار.
في المقابل، أطلق القائد الروسي الجديد غريغوري روزين حملة عقابية واسعة تهدف إلى قطع شرايين المقاومة، فدمّر القرى التي كان من الممكن أن تؤوي المقاتلين، وأمر بذبح وسرقة قطعان الأبقار والأغنام والماعز، وإحراق المحاصيل التي كانت تقدّم الإمدادات لجيش غازي مولا.
مع الوقت بدأت المقاومة تنهار، ووجد غازي نفسه معزولًا بشكل متزايد حتى حاصرت القوات الروسية معقله في غيمري واقتحمته في أكتوبر/تشرين الأول 1832، وقُتل غازي مع العديد من أقاربه والمقاتلين في أثناء الدفاع عن مسقط رأسه، ولم ينج من حصار غيمري سوى اثنين فقط، كان أحدهما صديق عمره شامل.
ربما اعتقد الروس أن مشكلاتهم قد انتهت لأن غازي مولا قد مات، لكن هذا لم يكن الحال بسبب أسطورة وفاته، فقد قيل إن جسده بدا وكأنه مات بسلام وكان في وضع يسمح له بالصلاة، وإصبعه يشير نحو السماء، وهذا أعطى القوات المتبقية الثقة لمواصلة القتال ضد الروس.
الإمام شامل.. انتصارات متتالية
بعد فترة وجيزة من معركة غيمري، أصبح شامل هو الأكثر شهرة والقائد الأكثر إلهامًا من بين الأئمة الثلاث، إذ لقي حشدًا ودعمًا واسعَي النطاق من الشيشانيين، تمامًا كما كان الحال مع منصور قبل حوالي 50 عامًا، لذا لجأ شامل إلى الشيشان، وهي رحلة قارنها أتباعه بهجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة، ومن هناك بسط سلطته على العشائر الشيشانية، مثلما فعل في موطنه داغستان.
صاغ شامل كيانًا سياسيًا يشبه الدولة الحديثة في الأراضي التي سيطر عليها، وبفضل إصلاحاته الناجحة وتميُّزه في الجمع ما بين الدين والسياسية والعسكرية، ألحق بالروس هزائم كثيرة واسترجع معظم داغستان وأجزاء من الشيشان، وبحلول نهاية عام 1843 كان شامل قد سيطر على معظم شمال شرق القوقاز.
مما يدل على صمود شامل وقدرته على تعبئة القبائل في شمال القوقاز، هو استمراره في المقاومة لمدة 25 عامًا، والتي تمحورت حول ثلاثة مبادئ: توحيد شمال القوقاز وطرد الروس وإقامة الشريعة، واجتذبت حركته المزيد من الناس وشهدت قدرًا كبيرًا من النجاح.
جدير بالذكر أن شامل ساعد القوات العثمانية التي كانت تقاتل القوات الروسية خلال فترة حرب القرم التي استمرت ثلاث سنوات، وبعد الانتهاء مباشرة من حرب القرم في عام 1856، واصلت روسيا الضغط على شامل بشكل غير مسبوق.
ونتيجة لفشل يرمولوف في التصدي لشامل، أعفاه القيصر من منصبه، وبدأت سلسلة من القادة الروس في القتال ضد شامل، حتى جاء يوم 6 سبتمبر/أيلول 1859، يوم وقع شامل محاصرًا في معقله جونيب من قبل الجيش الروسي المكوّن من 70 ألف شخص بقيادة بارياتينسكي.
لذا بدأ أحد القادة الروس، وهو الأمير ميخائيل سيمينوفيتش في التدمير المنهجي للغابات الشيشانية وجميع القرى والحقول والماشية الموجودة من أجل إجبار المتمردين على الخروج إلى العراء أو تجويعهم حتى الموت في الجبال.
ومن أجل سلامة الأطفال والنساء، تفاوض شامل مع الروس، ورغم أنهم وعدوه بمغادرة البلاد، فإنهم أجبروه على الإقامة الجبرية لسنوات في بطرسبورغ. وبعد هزيمة شامل، كانت لا تزال هناك جيوب للمقاومة، لكنها بدأت تنحصر، وفي الواقع وفّر أسر شامل فرصة عظيمة لروسيا، إذ استطاعت الاستيلاء على الشيشان بالكامل عام 1861، وكان رد روسيا ساعتها قاسيًا، والذي شمل عادة الانتقام من أئمة الصوفية وتدمير القرى الشيشانية، والتطهير العرقي من خلال طرد الشيشانيين إلى الدولة العثمانية.
ثلاثة عوامل أدت إلى هزيمة حركة شامل: أولًا، القوة التراكمية للجيوش الروسية التي تركزت في القوقاز مع نهاية حرب القرم، ثانيًا، تعيين الأمير بارياتينسكي قائدًا أعلى للقوات في القوقاز، وثالثًا، الخلافات الداخلية التي بدأت تؤثر سلبًا على حركة شامل.
وفي نهاية كل حرب خاضتها المقاومة الشيشانية، كان عدد الشيشانيين يتقلص بسبب التهجير، على سبيل المثال قبل حرب شامل كان هناك ما يقرب من مليون شيشاني يعيشون في المنطقة، وبنهاية عام 1861 هجّر الروس ما يقرب من 500 ألف من القوقازيين الشماليين إلى تركيا، منهم 81 ألفًا من أتباع شامل.
مع ذلك، من اللافت أن المجتمع لم ينكسر تمامًا، فسرعان ما استغل الشيشانيون الحرب العثمانية الروسية في 1877- 1878، وثاروا مرة أخرى، لكن بعد عام سحقت الفرق الروسية انتفاضتهم، واستمر مسلسل تهجير الشيشانيين إلى تركيا والأردن والعراق. ورغم قمع الروس لكل جيوب المقاومة واستمرار سياسات الترهيب المعتادة، فإن الشيشانيين رفضوا ترك القتال كما فعلت بعض الجماعات الداغستانية، وواصلوا المقاومة تحت قيادة عدد من الأئمة.
نهاية الإمبراطورية
في نفس العام الذي اندلعت فيه ثورة البلاشفة عام 1917، استغل الشيشانيون وغيرهم من سكان شمال القوقاز الفرصة للاستقلال، وحدث تمرُّد جديد بقيادة رجل الدين المشهور أوزن حاجي، والذي تمّ اعتقاله عدة مرات بسبب مقاومته التي بدأت منذ شبابه ضد روسيا القيصرية.
خطط أوزن حاجي لتنظيم شعوب القوقاز تحت راية واحدة، ودخل التاريخ عندما هزم جيش الجنرال دينيكين، كما أعلن عن إنشاء “جمهورية شعوب شمال القوقاز”، وأعلنت استقلالها عن روسيا في أبريل/نيسان 1918، واعترفت بها تركيا، وتشير الوثيقة التأسيسية في 11 مايو/أيار 1918 إلى ما يلي: “جمهورية شمال القوقاز تغطي مناطق الشيشان وإنغوشيا وأوسيتيا الشمالية وجمهورية قبردين بلقار وداغستان وجمهورية قراتشاي الشركسية”.
ومع اجتماع شعوب شمال القوقاز معًا في عام 1918، وإعلان انفصالهم عن روسيا القيصرية، عارض الجنرال دينيكين إنشاء جمهورية شمال القوقاز، وتحت شعار روسيا غير القابلة للتجزئة، حارب القوات التي جمعها أوزن حاجي عام 1919.
ورغم أنه كانت هناك اتفاقية بين شعوب شمال القوقاز والسوفيت وُقّعت في فبراير/شباط 1918، ونصّت على عدم تدخل موسكو في إدارة شؤون شعوب شمال القوقاز، وتركهم تحت كيان واحد مثلما يريدون مقابل مساعدة البلاشفة في هزيمة قوات القيصر، فإن البلاشفة نكثوا وعودهم، ولم تدم جمهورية شمال القوقاز طويلًا، إذ سرعان ما رأى جوزيف ستالين أنه من المناسب إخضاع المنطقة بالكامل تحت السيطرة البلشفية، وتقسيم شعوب القوقاز إلى قطع صغيرة، وقضى فعليًا عام 1924 على حلم جمهورية شمال القوقاز.
وعندما أصبح واضحًا أن السوفيتيين لا يرغبون في الوفاء بوعودهم، تمرد الشيشانيون مرة أخرى تحت قيادة أحد أحفاد الإمام شمال وهو سعيد بك، الذي أعطى اسمه مصداقية للحركة بين الناس، وتمكن من قيادة المقاومة ضد الجيش الأحمر حتى مايو/أيار 1921.
ثم حمل قادة آخرون راية المقاومة على مدى العقدين التاليين، وضربت الثورة الشيشان في الأعوام 1922 و1924 و1925 و1928 و1929 واستمرت حتى الثلاثينيات، وخلال تلك الفترة الطويلة، هاجم الشيشانيون بشكل متزايد السكك الحديدية، وقتلوا أفرادًا من الجيش الأحمر، وكثّفوا هجماتهم على المنشآت الصناعية، خاصة مواقع إنتاج النفط في غروزني.
لكن لم يكن لأي حدث في التاريخ الدموي للعلاقات بين الشيشان والروس تأثير دائم على النفسية الجماعية للشيشانيين، مثل تهجيرهم الجماعي في شتاء 1944. ولم يُسمح للشيشانيين بالعودة إلى ديارهم إلا بعد وفاة ستالين، وحتى اليوم لا تزال جراح سنوات التهجير تؤثر على الشيشانيين.
الهولوكوست الشيشاني: كيف قام الروس بأكبر هجوم إرهابي في تاريخ البشرية؟
ما بعد العهد السوفيتي
بحلول ثمانينيات القرن الماضي، كانت الشيشان تشهد صحوة دينية، وكان الجيل الذي بدأ في قيادة الشيشان في ذلك الوقت، يحمل ذكريات عن القمع السوفيتي وعمليات التطهير العرقي والاضطهاد الديني مثل الأجيال السابقة.
ثم في عام 1991، أطاح دوداييف بالسلطة التي كانت تسيطر عليها موسكو في الشيشان، وفاز برئاسة البلد في الانتخابات التي أُجريت، وأدّى اليمين الدستورية وهو يحمل القرآن، وبعد سلسلة من الاستفتاءات أعلن استقلال الشيشان عن كل من روسيا والاتحاد السوفيتي.
لكن موسكو لم تعترف بانفصال الشيشان، وقررت شنّ الحرب الأولى في 11 ديسمبر/كانون الأول 1994، عندها نقل دوداييف الحرب إلى سفوح الجبال، وقاتل الشيشانيون بفعالية ومهنية إلى أن تعرضت روسيا لهزيمة قاسية، وبسبب عدم قدرتها على الانتصار اضطرت للانسحاب، ووقّعت في أغسطس/آب 1996 اتفاق خاسافيورت مع القادة الشيشانيين، وبموجب هذه الاتفاقية اعترفت روسيا باستقلال الشيشان بحكم الأمر الواقع.
اغتيال التاريخ وسحق الحضارة.. كيف أباد الروس تراث وذاكرة الشعب الشيشاني؟
وبين عامي 1996 و1999 لم تحدث أي أعمال مسلحة كبيرة بين القوات الشيشانية والروسية، وأجرى الشيشانيون انتخابات نزيهة وحرّة وانتخبوا مسخادوف، وكان المجتمع يتطلع إلى إعادة بناء دولته.
مع ذلك، كانت السنوات الثلاثة من “شبه الاستقلال” مصحوبة بتفشي الإجرام، ولم تقدم موسكو المساعدة الاقتصادية للشيشان أو إجراء أعمال الترميم وفقًا للالتزام الذي تمّ التعهد به. كما فشل مشروع مسخادوف في بناء الشيشان، ولم يستطع السيطرة على الجماعات شبه العسكرية.
ثم في عام 1999 شنّت القوات الروسية حربها الثانية على الشيشان، وشارك جيش روسي أكثر استعدادًا وخبرة من الحرب الأولى، في المقابل كانت الشيشان في أسوأ حالاتها نظرًا إلى اقتصادها الضعيف وجيشها المدمَّر وشعبها المنهَك، وانتهى هذا الاجتياح القصير والعنيف للغاية بإعادة السيطرة الروسية على الشيشان.
الصمت الاستراتيجي
كانت تكلفة الحربين الأخيرتين (الأولى بين عامي 1994 و1996، والثانية بين عامي 1999 و2000) اللتين شنّتهما روسيا على الشيشان وحشية على كل الأصعدة، تقلّص عدد السكان بشكل مهول، وفرَّ عشرات الآلاف إلى مناطق مختلفة من العالم، ونشأ جيل كامل من الشيشانيين في الشتات وفي ظل ظروف الحرب.
رغم فرض الصمت ومنع ذكريات الحربين الأخيرتين من الانتشار في المجال العام وتفكيك المقاومة الشيشانية، بجانب تنفيذ روسيا لسياسات لا تسمح لنار الاستقلال أن تشتعل، فإن حالة الاستقرار الحالية محكومة بالحديد والنار تحت إدارة رمضان قديروف.
نظام قديروف لا يترك مجالًا لأي شكل من أشكال التعبير العام، لكن الخوف لا يحكم المجتمع الشيشاني فحسب، بل النخبة الحاكمة أيضًا، والتي تشعر بالافتقار إلى الشرعية، فإذا سحب الكرملين دعمه لآل قاديروف، فمن المرجح أن تنهار الشيشان، لذلك ينظر العديد من الشيشانيين إلى قديروف باعتباره “أهون الشرَّين” بين الخيارات المتاحة، رغم أن المناخ السياسي اليوم لا يقل سوءًا عمّا كان عليه خلال الحرب.
أما بالنسبة إلى البيئة الدينية فقد تحسنت بشكل ملحوظ، إذ تشهد الشيشان زيادة كبيرة في التديُّن بين سكانها، لدرجة أن كل قرية شيشانية فيها أشخاص يعلّمون القرآن واللغة العربية، ولا تزال الصوفية منتشرة على نطاق واسع رغم الخلاف بين القوى السياسية حول نوع “الأسلمة” المرغوب فيه، لكن الاتجاهات الدينية الأخرى كالسلفية محظورة تمامًا.
في النهاية، وبالنظر إلى الخطوات التي تتخذها موسكو اليوم، سندرك أنها لا تحاكي عصر الإمبراطورية فحسب، بل تحتفظ أيضًا بإطارها الفكري، لذا يبقى الحال أنه مهما كانت الترتيبات التي يمكن تصميمها لتنظيم العلاقة بين موسكو والشيشان، فإنها ستكون مقيدة بذاكرة تاريخية مريرة.