يقول الرحالة جاك دو فيلامونت، في كتابه “رحلات السيد فيلامونت”: “ذهبت إلى خانة تركية (موضع سكن الضيوف والمسافرين في بلاد المسلمين آنذاك)، أكلت وجلست لمدة ثلاثة أيام مجانًا، وتعامل الأتراك -اعتاد الأوربيون استخدام لفظ “ترك” للإشارة إلى المسلمين- بكل رحمة مع المسيحيين”، كما يضيف المؤلف الهولندي كورنيل لو بروين في كتابه “رحلة إلى بلاد الشام”: “لا يمكن الإنكار بأن العثمانيين قاموا بأعمالٍ خيرية أكثر من المسيحيين، ليستفيد منها الجميع من المسلمين واليهود والمسيحيين”، ويكمل قائلًا “كنت ذاهبًا للقدس، فدعا لي أحد الأتراك، فتفاجأت وفهمت أن في الدين العثماني -يقصد الإسلام- لا يوجد تفرقة أو تمييز”.
لعل هذه الكتابات والبراهين التاريخية تُعرفنا قليلًا على واقع غير المسلمين وبالأخص المسيحيين في زمن الدولة العثمانية التي اشتهرت بالتسامح الديني، وهو الطابع الأكثر شيوعًا في البلاد من السلطات إلى العامة، إذ تؤكد المصادر التاريخية أن السلاطين العثمانيين لم يكونوا يعتبرون الديانة المسيحية عائقًا أمام قرارات زواجهم، فلقد تزوج السلطان العثماني غازي أورهان الثاني بالأميرة ثيودورا ابنة الإمبراطور جون السادس كانتاكوزينوس من بلدة بيزنطية بالقرب من مدينة بورصة.
لم يقتصر هذا الفعل على سلطانٍ واحد، بل مشى على هذه الخطى السلطان يووزن سليم الذي تزوج من بنت ملك القرم، إضافة إلى السلطان بايزيد الذي عقد قرانه بابنة الملك الصربي، وغالبًا ما كانت تعقد هذه الارتباطات بهدف توطيد العلاقات السياسية والدبلوماسية مع الدول المجاورة.
كيف تعاملت الإمبراطورية العثمانية مع الطوائف المسيحية؟
أشهر عائلة مسيحية أرمينية زمن حكم الدولة العثمانية
ضمت الدولة العثمانية على مر سنين حكمها قوميات وطوائف دينية عديدة، شكل المسيحيون الأرثوذكس من بلغاريا واليونان وأرمينيا وبعض دول البلقان أكبر هذه المجموعات، فلقد سمحت السلطات العثمانية في زمن السلطان محمد الفاتح لهذه الجماعات التمتع بالعديد من الحقوق التي لم يعتادوا عليها إبان حكم الدولة البيزنطية.
ومن أبرز مواقف الدولة العثمانية في ذاك الوقت، دعوة السلطان محمد الفاتح بطريك الأرمن إلى إسطنبول ليكون ممثلًا للمسيحيين في البلاط السلطاني، ولا سيما بعد هجرة أعداد كبيرة من الأرمن إلى إسطنبول خلال القرن التاسع عشر، لتصبح بذلك واحدة من أكبر الأقليات الدينية في إسطنبول واعتبارًا لذلك أقرت الإمبراطورية مجموعة من القرارات على مبدأ “أهل الذمة” لحماية الطوائف الدينية غير المسلمة، وكان منها: حرية العبادة وممارسة شعائرهم، عدم تحويل أماكن عبادتهم إلى مساجد، دفع الجزية المستحقة سنويًا.
تتضح أعمال الأرمن من خلال أطلالهم العمرانية التي مازالت تحافظ على توقيعهم في أكثر الأماكن مركزية في البلاد، وأشهرهم عائلة أو الأخوة باليان التي قادت العمارة العثمانية لعقود طويلة
ونتيجة لذلك، حظي المسيحيين، وتحديدًا الأرمن، بمكانة رفيعة بالبلاد من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، فلقد عرفوا بقوة إمكانياتهم الفكرية والجسدية، ويؤكد لنا ذلك المؤلف مايكل كرتوفوليوس عندما فسر سبب اهتمام السلطان محمد الثاني بالأرمن، فقال: “اهتم بجلب الأرمن ووضعهم تحت رعايته لحيازتهم على كفاءات ومهارات استثنائية في شؤون المال والصناعة والمعرفة والبناء والقدرة على التعامل مع تحركات السوق”.
حيث تتضح آثار هذه المميزات من خلال أطلالهم العمرانية التي مازالت تحافظ على توقيعهم منذ القرن الثامن عشر في أكثر الأماكن مركزية في البلاد، وأشهرهم عائلة أو الأخوة باليان التي قادت العمارة العثمانية لعقود طويلة بعد أن اقتبسوا خبراتهم من الحضارة الغربية، لتجمع هذه الآثار بين الجمال الشرقي والغربي، ومن أبرزها:
قصر دولمة بهجة
مدخل القصر
واحد من أهم أعمال هذه العائلة الأرمنية والتي اختارت تأسيسه بالقرب من مضيق البوسفور ليحظى بإطلالة خلابة وفريدة. استغرق الأخوة 13 عامًا في بناء هذه التحفة الفنية، معتمدين على فن العمارة الباروكي، حيث يحتوي القصر على 285 غرفة و6 حمامات تركية و43 صالون مطلي بعضها بالذهب والفضة.
مسجد أورتاكوي أو “مجيديا الكبرى”
يقع المسجد في منطقة أورتاكوي بالقرب من جسر البوسفور
بنا الأخوة باليان هذا المسجد بأمر من السلطان عبد المجيد عام 1853 على الطراز الباروكي الحديث، باتت أناقته المعمارية وموقعه الساحر مقصدًا سياحيًا يذكر بتاريخ الأرمن في هذه الدولة، حيث يتميز هذا المسجد بنوافذه الكبيرة والواسعة التي تعكس ضوء النهار، بالجانب إلى اللوحات المعلقة على جدرانه وتحمل نصوص مكتوبة من قبل السلطان عبد المجيد الأول.
قصر النور أو جيراغان بالفارسية
يقع هذا القصر في منطقة “بيشكتاش”
يعد من أكبر القصور التاريخية في تركيا، بُني بناءً على طلب السلطان عبد العزيز، واستغرق الأخوة باليان 8 سنوات لإنشائه، وتم إنفاق حوالي 2.5 مليون طن من الذهب لتصميم بعض الديكورات الداخلية، تعرضت أجزاء كبيرة من مبانيه للاحتراق ما أدى إلى خسارة مجموعة من التحف والكتب القيمة، لكن تم ترميمه مرارًا حتى أصبح حاليًا واحدًا من أكثر الفنادق فخامة في مدينة إسطنبول. هذا الإنجاز المعماري لم يكن الأخير بالنسبة للأخوة الثلاثة فلقد تركوا بصماتهم أيضًا على برج الساعة في دولمة بهجة والمسجد وقصر بيلير بيه وبرج بايزيد وقصر كوجوك سو ومركز السليمية العسكري.
جدير بالذكر أن دور أصحاب هذه الطائفة لم ينحصر في الهندسة العمرانية، بل تولوا مراتب رفيعة الشأن في إدارة الضرائب والصناعات العسكرية وتمتعوا بعلاقات قوية تجمعهم مع السلاطين بشكلٍ مباشر مثل عائلة داديان التي حافظت على علاقة وطيدة مع البلاط العثماني لثلاثة قرون من الزمن.
كاتدرائية القديس جرجس في منطقة الفنار موطن الكثير من اليونانيين المسيحيين
شملت هذه الحرية الجماعات العرقية الأخرى مثل اليونانيين الذين أيضًا برز دورهم في المناصب الدبلوماسية والعسكرية، لذلك يعتقد بعض المؤرخين أن للمسيحية دورًا أساسيًا في نجاحات الإمبراطورية المبكرة، فلم تعاني هذه الفئات من الاستعباد أو الاضطهاد باختلاف جنسياتها، وإنما حاولت الحكومة باستمرار دمجهم في دوائر الحكم والمجتمع للاستفادة من خبراتهم ومعارفهم في مجالات مختلفة.
شكل معظم اليونانيين العمود الفقري للقوة البحرية العثمانية، ويعود الفضل بذلك إلى خبرتهم التقنية في الأسلحة والمدافع التي نقلوها من الدول الأوروبية
على سبيل المثال، شكل معظم اليونانيين العمود الفقري للقوة البحرية العثمانية، ويعود الفضل بذلك إلى خبرتهم التقنية في الأسلحة والمدافع التي نقلوها من الدول الأوروبية، وهذا بالإضافة إلى خبراء في قطاعات أخرى مثل العلوم الجغرافية والفنية واللغوية، ومن أبرز هذه الشخصيات التي اعتنى السلطان محمد الثاني بإنجازاتها، العالم الجغرافي جيورجيوس أميروتز وابنه محمد بيك والرسام جنتيلي بيليني والنحات ماتيو دي باستي.
وفيما يخص دور العبادة التابعة لهم، فبحسب المصادر، هناك نحو 94 كنيسة أرثوذكسية يونانية في إسطنبول اليوم، تم بناء معظمها في القرن التاسع عشر، وبدأت أعدادها بالتزايد في عهد التنظيمات والإصلاح.
تدلل المشاركة المسيحية الواسعة في البلاد على شكل العلاقة التي اتسمت بين الطرفين وهي رابطة مبنية على السلام والمنفعة المتبادلة، إذ كان من المهم أن تعي الدولة العثمانية أن تمددها نحو الولايات والمناطق ذات الأغلبية المسيحية يلعب دورًا مهمًا في تشكيل تحالفات دبلوماسية وعسكرية واتفاقيات تجارية مع جارتها أوروبا، والتي بدورها أيضًا فتحت لها أبوابها لاكتساب العلوم والسلع والتقنيات المختلفة.