ترجمة وتحرير: نون بوست
يبدو أن كاميرات المراقبة المزروعة في “مركز أبوظبي الوطني للمعارض” لها استعمالات أخرى سرية، ففي إحدى واجهات المركّب المحاذي للحي الدبلوماسي، تراقب هذه الكاميرات مداخل السفارة الإيرانية ومخارجها. وحسب دبلوماسي غربي، الذي كان بمثابة مرشد لنا لبعض الوقت، لا تشكل الممرات الأربعة في شارع الكرامة الفاصلة بين المبنيين ولا الغطاء النباتي الذي يخفي سفارة إيران عائقاً أمام عملية تحديد هوية الأشخاص والسيارات التي تخرج من مقر السفارة.
في هذا السياق، أفاد هذا الدبلوماسي الغربي بأن “الهاجس الجيوسياسي الذي يشغل بال ولي العهد ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، هو إيران وبصفة أقل قطر. لهذا السبب، تم تركيز نظام أمني متكامل من بين أهدافه الرئيسية التجسس”.
أصدرت محكمة الاستئناف أحكاما تتراوح مدتها بين عشر وثلاث سنوات سجن في حق رجلين آخرين، أحدهما إماراتي يبلغ من العمر 35 سنة، والآخر مواطن بحريني يبلغ من العمر 45 سنة، بتهمة التواطؤ مع إيران.
في الواقع، يشغل ملف إيران بال أبوظبي، ولا يعزى هذا الاهتمام إلى كثرة الزيارات التي يجريها رجال الأعمال والسياح الإيرانيين للإمارات وإنما لسبب آخر. يوم 26 كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2017، أصدر القضاء المحلي أحكاما بالسجن في حق عسكري إماراتي يبلغ من العمر 28 سنة، مدتها 15 سنة بتهمة تورطه في عملية تجسس لصالح إيران. وقد اكتشفت السلطات أن هذا العسكري الإماراتي قد سرب معلومات عن المراكز العسكرية الإماراتية لصالح عملاء إيرانيين يعملون داخل السفارة الإيرانية.
إلى جانب ذلك، أصدرت محكمة الاستئناف أحكاما تتراوح مدتها بين عشر وثلاث سنوات سجن في حق رجلين آخرين، أحدهما إماراتي يبلغ من العمر 35 سنة، والآخر مواطن بحريني يبلغ من العمر 45 سنة، بتهمة التواطؤ مع إيران. وقد أدين الرجلان بتهمة نشر معلومات على مواقع التواصل الاجتماعي، اعتبرتها المحكمة “مهينة” للقادة الإماراتيين، بالإضافة إلى نشرهم “أكاذيب” تخدم مصالح طهران.
“منطقة صيد” مثالية
بعد إطلاعنا على هذه الأحكام الصادرة في حق متهمين بالتخابر، أيقنا بأن التجسس لصالح دولة أخرى في الإمارات يعد أمرا صعبا. ومع ذلك، لم تفهم السلطات المحلية بعد كيف تم تصفية قيادي من حركة حماس على يد جندي كوماندو من الموساد الإسرائيلي في أحد الفنادق بدبي سنة 2010.
خلال تلك الفترة، نجحت الإمارات في تحديد هوية 26 عميلاً إسرائيلياً متورطاً في تنفيذ عملية الاغتيال، ولكن لم تتمكن من إيقافهم. وقد صرح حينها القائد العام لشرطة دبي، ضاحي خلفان تميم، بأن “كل الجواسيس الأجانب غادروا المدينة والمنطقة كلها في غضون أسبوع”.
تمثل دبي مركزاً مالياً ومحطة لتبييض الأموال، ويبدو أنها تفوقت على بيروت
حيال هذا الشأن، أكد ضابط تابع للقاعدة العسكرية الفرنسية في أبوظبي أن “هذه القضية تعد بمثابة نعمة حلت على الإمارات، لأنها تمثل رسالة من الإمارات مفادها أنه أي شخص يفكر في ارتكاب عملية مماثلة على ترابها، فلن يمر دون أن يلاحظه أحد”. وقد انتشرت هذه الرسالة بين مختلف السفارات الغربية في البلاد.
مما لا شك فيه، يتطلع الإماراتيون للمحافظة على سيادتهم الوطنية وحماية السياحة والأعمال، وأن تبقى بلادهم الملاذ الأكثر أماناً في العالم. وقد صرح ممثل عن قسم خدمات الاتصالات التابع لوزارة الداخلية، وكله فخر، بأن بلاده تخضع “لأمن شبه مطلق”. وعلى الرغم من أنه رفض التعليق عن الموضوع، إلا أنه لمح إلى أنه لن يُقتل شخص آخر في بلاده.
إن دبي من أكثر النقاط نشاطا في العالم فيما يتعلق بالقضايا “الكلاسيكية” لعمليات التجسس، لأنها تمثل محور النقل العالمي، ومركزاً يحتضن المؤتمرات الراقية، ووجهة سياحية جذابة، بالإضافة إلى أنها نقطة التقاء العالم الإسلامي والإفريقي والجنوب آسيوي لاسيما الهندي والأفغاني. كما تمثل دبي مركزاً مالياً ومحطة لتبييض الأموال، ويبدو أنها تفوقت على بيروت. وتجعل كل هذه الظروف من الإمارات “منطقة صيد” ملائمة للمخابرات.
تمثل كل من أبوظبي ودبي مجالاً خاصاً للجوسسة، الأمر الذي دفع القوى الكبرى في العالم إلى توظيف العديد من الموارد للتقرب منها، على غرار توقيع عقود التسلح، وعقود أخرى في مجالات الفضاء والملاحة الجوية
في شأن ذي صلة، نوه عميل سابق في المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي بأنه “يمكننا أن نتغلغل في هذه البلاد مثل أي مكان آخر ونعالج مواضيع تتجاوز قدراتهم”. ويتذكر هذا العميل الفرنسي السابق جيداً لقاءً عُقد في أحد فنادق مطار دبي جمعه بمصادر معلومات جاؤوا من جميع أنحاء المنطقة. وفي حديثه عن هذا اللقاء، قال العميل الفرنسي “لم يكن يتعين علينا استخراج جوازات السفر، كما أننا ننزل في غرف متصلة فيما بينها”. وفي سنة 2017، مر قرابة 100 مليون مسافر عبر هذا المطار، من بينهم 16 مليون مسافر في غضون أقل من ليلة.
عقود في التسلح، وفي مجالات الفضاء والملاحة الجوية
تمثل كل من أبوظبي ودبي مجالاً خاصاً للجوسسة، الأمر الذي دفع القوى الكبرى في العالم إلى توظيف العديد من الموارد للتقرب منها، على غرار توقيع عقود التسلح، وعقود أخرى في مجالات الفضاء والملاحة الجوية. وتتصدر الولايات المتحدة قائمة البلدان الموقعة على عدة صفقات مع الإمارات في هذه المجالات، تليها فرنسا، التي تفسد أحيانا على الولايات المتحدة صفقاتها مع هذا البلد الخليجي. وقد برز ذلك خلال السنوات الأخيرة، حيث باعت باريس للإمارات أقماراً صناعية معدة للمراقبة.
انطلقت عملية البيع برمتها سنة 2008، تحديدا عندما أعربت السلطات الإماراتية عن نيتها اقتناء هذا النوع من الأقمار الصناعية لحماية أراضيها. وقد عُقدت عدة مفاوضات طويلة، ظفر على إثرها العرض الفرنسي بالصفقة، نظرا لتفوق القمر الصناعي الفرنسي على مستوى الدقة بقرابة 50 سنتيمتر على مشروع رايثيون. وخلال شهر كانون الأول/ ديسمبر من سنة 2012، أعلن الجانب الإماراتي عن أفضلية العرض الفرنسي على حساب العرض الأمريكي.
مع ذلك، لا يمكن التعويل على القمر الصناعي الفرنسي دون الاستعانة بالثقل الذي تشكله الولايات المتحدة في المنطقة. وتتطلع واشنطن إلى استئناف المحادثات مع الإمارات مع الحرص على تقديم عرض جديد، سيكون هذه المرة عبر شركة “لوكهيد مارتن” التي تقدم قمرا صناعيا يتميز بدقة تصل إلى 34 سنتيمتر. وقد مثل ذلك خيبة أمل بالنسبة لباريس، خاصة بعد أن أيقنت بأن الصفقة الأمريكية قد تمت.
من خلال حسن استغلال العلاقة التي تربط وزير الدفاع الفرنسي السابق، جان إيف لودريان، بالشيخ محمد بن زايد، ضمنت فرنسا عودة قوية إلى الإمارات مع إتمامها لصفقات تسلح، بعد غياب دام ست سنوات.
يبدو أن أبوظبي استغلت فرصة التلاعب بهذه المنافسة لكسب كلا الموردين المحتملين، أي فرنسا والولايات المتحدة، باعتبار أنهما يستثمران في شراكة إستراتيجية تكتسي أهمية كبرى بالنسبة لهما أكثر من الإمارات. وبعد مضي ستة أشهر، نجح المصنعون الفرنسيون “تاس أستريوم وتاليس ألينيا سبايس” في إنهاء الصفقة.
بتاريخ 22 تموز/ يوليو من سنة 2013، وقعت باريس وأبوظبي رسمياً عملية بيع قمرين صناعيين معدين للمراقبة من نوع “بلياد”، بقيمة تفوق 700 مليون يورو. ومن خلال حسن استغلال العلاقة التي تربط وزير الدفاع الفرنسي السابق، جان إيف لودريان، بالشيخ محمد بن زايد، ضمنت فرنسا عودة قوية إلى الإمارات مع إتمامها لصفقات تسلح، بعد غياب دام ست سنوات.
التصدي بكل الوسائل
لكن السؤال المطروح هو: هل انتهت الحرب التجارية؟ كشف مسؤول سابق في مجموعة إيرباص للصناعات الفضائية والدفاعية، التي كانت لديها مصلحة من هذه الصفقة، أن الفرنسيين كانوا يخشون خلال تلك الفترة من إمكانية استخدام الأمريكيين لأسلحة أخرى متطورة من شأنها أن تبدد الصفقة الفرنسية مع الإمارات. وفي إطار احترام المعايير المنظمة لتجارة الأسلحة، يمكن للولايات المتحدة أن توقف سير أي صفقة في العالم إذا كانت المنتج يحتوي على مكون صنع في الولايات المتحدة.
في سياق متصل، أفاد المصدر ذاته “يبقى لنا أن نعرف ما إذا كانت أقمارنا الصناعية تضم مكونات أمريكية الصنع. صدقني، نحن أنفسنا لا نعرف إلى حد الآن أين صُنعت جميع مكونات أقمارنا الصناعية”. في مثل هذه الحالة، لن يتردد الأمريكيون في اللجوء إلى المناورة والتقنيات والطاقة البشرية والمخابرات. وقد علق هذا المسؤول السابق في مجموعة إيرباص للصناعات الفضائية والدفاعية “لا يمكنك تخيل الوسائل المتاحة لدى الخدمات أنجلوسكسونية أو الإماراتية”، وذلك في إطار تبرير سبب إخفاء الهواتف الذكية خلال المحادثة في حانة في أحد فنادق أبوظبي.
أكد مسؤول رفيع سابق في وزارة الدفاع الفرنسية أنهم “اكتشفوا توفر مكونات أمريكية الصنع بنسبة تقل عن 10 بالمائة، الأمر الذي أثار حملة صحفية في دولة الإمارات العربية المتحدة تتحدث عن اكتشاف أجهزة تجسس، ولكن ذلك غير صحيح”.
حسب ما أفاد به هذا المصدر، تعتمد المخابرات الأمريكية بشكل رئيسي على “مُخبريها” المندسين داخل حاشية الأمراء الإماراتيين ومكاتب الاستشارات الأنجلوسكسونية المكلفة بتقديم المساعدة. وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة لا تزال تشكل ثقلاً في دبي على ضوء ماضيها كقوة استعمارية سابقة، إلا أنه بإمكان الولايات المتحدة أن تسن القوانين في أبوظبي. وفي ملف الأقمار الصناعية الشهير، ساهمت شبكات النفوذ في ربح واشنطن للوقت من جهة، وإعاقة العدالة من جهة أخرى.
أكد مسؤول رفيع سابق في وزارة الدفاع الفرنسية أنهم “اكتشفوا توفر مكونات أمريكية الصنع بنسبة تقل عن 10 بالمائة، الأمر الذي أثار حملة صحفية في دولة الإمارات العربية المتحدة تتحدث عن اكتشاف أجهزة تجسس، ولكن ذلك غير صحيح”. ونتيجة لذلك، تم خلال شهر كانون الثاني/ يناير من سنة 2014 تجميد صفقة شراء القمرين الصناعيين الفرنسيين بحجة عدم الانتهاء من تجهيز القمرين في الوقت المحدد.
في كل مرحلة من مراحل عقد الصفقة، بدا جليا أن الجانب الأمريكي يعرف مسبقا الحجج التي ستقدمها فرنسا لزبونها الإماراتي. وقد علق المسؤول في وزارة الدفاع الفرنسية عن ذلك قائلاً “لقد كان بحوزتهم معلومات لا يجب أن يمتلكوها. ولكننا كنا موقنين في قرارة أنفسنا بأننا غير مهتمين بما يعرفه الأمريكيون عن دقة أقمارنا الصناعية التي تتفوق على منتجهم بقرابة 50 سنتيمتراً. ويجب أن نكون واقعيين، إذ تظل فرنسا قوة متوسطة لا يمكن أن تفرض نفسها إلا في حالة واحدة، إذا كان المشتري لا يريد أن يضع كل البيض في سلة واحدة”.
احتيال أمريكي
على الرغم من إبطال إجراءات الصفقة، واصلت باريس المقاومة والكفاح من أجل توقيع العقد. وقد تم تكليف المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي بمعرفة ما قاله الأمريكيون بالضبط للإماراتيين. كما تحركت وزارة الخارجية الفرنسية لتحفيز شركائها في الإمارات وفي المنطقة ككل. وداخل القاعدة العسكرية الفرنسية في أبوظبي، يعمل الجنود الفرنسيون، البالغ عددهم 800 جندي دون احتساب عائلاتهم، مع إدارة تابعة للاستخبارات الفرنسية الموجودة في القاعدة.
بحسب المستشار السابق في وزارة الدفاع الفرنسية، فإنه “كلما حققت فرنسا خطوة إلى الأمام في هذه المحادثات، زار أبوظبي ممثل أمريكي، سواء كان نائب الرئيس أو وفدا من مجلس الشيوخ”، وهو ما يؤكد أن قواعد اللعبة مع الولايات المتحدة لن تتغير على الأقل في وقت قريب
من جهتهم، يعتقد الفرنسيون أنه قد وصل الأمر بالأمريكيين، وعلى رأسهم وكالة المخابرات المركزية، إلى حد تعطيل سير الصفقة وتحذير الحكومة الإسرائيلية من أن الإمارات ستكون قادرة على التجسس عليها بفضل الأقمار الصناعية الفرنسية. وقد اعتبر الفرنسيون ذلك عملية احتيال، خاصة أن باريس قد سبق وضمنت لإسرائيل أن النظام التقني للأقمار الصناعية الفرنسية سيحمي أراضيها خلال مرور الأقمار الصناعية فوقها.
بفضل استبسال الفرنسيين وإرادة بن زايد، تم إبرام الصفقة مع باريس وتجاوز المنافس الأمريكي. وفي شهر تموز/ يوليو من سنة 2014، وقّعت شركة إيرباص للدفاع والفضاء عقدًا جديدًا مع طيران الإمارات، في لندن. وقد حققت هذه الصفقة نجاحاً لم تحققه صفقات تجارة مقاتلات رافال أو عملية تحديث أسطول ميراج 2000-9.
والجدير بالذكر أن المحادثات انطلقت خلال تولي جان إيف لودريان منصب وزير الدفاع سنة 2012، ولازالت متواصلة حتى مع توليه منصب وزير الخارجية، إلا أن هذه المحادثات “تخضع للضغط الأمريكي”. وحسب المستشار السابق في وزارة الدفاع الفرنسية، فإنه “كلما حققت فرنسا خطوة إلى الأمام في هذه المحادثات، زار أبوظبي ممثل أمريكي، سواء كان نائب الرئيس أو وفدا من مجلس الشيوخ”، وهو ما يؤكد أن قواعد اللعبة مع الولايات المتحدة لن تتغير على الأقل في وقت قريب.
الصحيفة: لوموند