يشكل الأمنُ بالنسبة للكيان الصهيونيٍّ عامل وجودٍ وتمكينٍ واستقرارٍ؛ فللأمن مفهومُه الخاص والمختلف لدى “إسرائيل”؛ إذ تمتلكُ إرادةً متجدّدةً لتجنيد جميع الطاقات لتطويره، مُعتمدةً على كلِّ ما يمكنُ أن يدعم أمنَها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ورقمياً، وذلك لن يكون إلّا من خلال اختراق كمٍّ كبيرٍ من مصادر المعلومات في المنطقة والعالم.
فيما أتاحت لها قدراتها التكنولوجية أن تكون نواة سوقٍ شرق أوسطيةٍ تتوسّع بالتدريج، إضافةً لكونها قوةً جاذبةً ومُهيمنةً اقتصادياً وتكنولوجياً وأمنياً. سمح ذلك كلّه بتقدُّمها وفق إستراتيجيةٍ مُتكاملة تبحثُ فيها عن سلامٍ مشروطٍ، مُتسلّحةً بغلبتين؛ غلبةٍ أمنيةٍ رادعةٍ، ودولةٍ “ديمقراطيةٍ”! وتفوُّقٍ إقتصاديٍّ وتكنولوجيٍّ متقدّمٍ في شرقٍ عربيٍّ ليس كذلك. [65] سهّل لها الأخير نسْجَ علاقاتٍ ثُنائيةٍ مع دولٍ كثيرةٍ في العالم من خلال شركات التكنولوجيا الاستثمارية بتلك الدول، أو حتّى من خلال الصفقات التى قامت بها، أو من خلال الشركات الإسرائيلية التي اندمجت في الشركات الكبيرة.
في هذا الجزء من المادّة، يعطي الكاتب مدخلاً للتكنولوجيا ودورها في جمع المعلومات، ومنحها قوّةً سياسيةً للدول والكيانات، تُقدّمُ للتكنولوجيا “الإسرائيلية” والتطبيع العربي في جزئيها اللاحقين.
أوْلت “إسرائيل” القطاعات التكنولوجية والّتقنية بشكلٍ عامٍ، وتلك العسكريةِ والأمنيةِ والمعلوماتيةِ منها على وجه التّحديد، اهتماماً كبيراً منذُ مطلع خمسينيات القرن الماضي
تسيرُ التطوراتُ التكنولوجيةُ بسرعةٍ كبيرةٍ، وهو ما يُعطي فُرصاً أكبر للدول المتقدمة -وإن كانت هذا الدول صغيرةً- للتأثير في العلاقات الدولية وأن تحقّق أهدافها الاستراتيجية. يعتمد هذا على قدراتها في مواكبة التطور السريع في مجال التكنولوجيا، والمعلومات التنافسية، وذلك بخلاف التقليد السائد الذي يفترض أن مقدرة الدولة في التأثير يُعزى إلى واقعها “الجيوبولتيكي” ومواردها وحجمها وموقعها الجغرافي وعدد السكان. فالعالم انتقل من التفاوت الكمِّي إلى التفاوت النوعي، وأصبحت المعلومة/التقنية هي المصدر الأساسي للتفوق.
وتفرضُ هذه التطورات التكنولوجية على الحكومات أن تطوّر من أسلوبها وتكون أكثر ذكاءً في تقديم خدماتها للأفراد من خلال الحكومات الذكية، وسعيِها لتحسين مستوى معيشتهم، وتسهيل امتلاكهم للتكنولوجيا المتقدّمة وتوفير بُناها التحتية، وكذلك قدرتها على توفير الأمن لمجتمعاتها. فسُرعة الإنترنت العملاقة، وحجم التخزين غير المسبوق قياساً بحجم أدوات التخزين، سيجعل المعلومات أكثر انتشاراً، ويصعّبُ السيطرة عليها، ولن تتمكّن المجتمعاتُ المغلقةُ من وقف الأفكار المُتدفّقة إليها والأخطار المُحدِقة بها من خلال أدواتها التقليدية فقط.
وتتمثّل أبرزُ التداعيات في ظهور أنواعٍ جديدةٍ من الجرائم، وتطوُّر أدوات التخفّي وعدم القدرة على التعقب، هذا ما يتطلّبُ من الدول أن تكون أكثر قُدرةً على حماية حدودها وأمن مجتمعاتها من التهديدات التي تطرحها التطوّراتُ التكنولوجية، من خلال السَّبق في امتلاك هذه الأدوات وتطويرها، فيُصبح بالوُسع تنظيم استخدامها، وتلافي سلبياتها، وتقنين تداوُلها، وأن تُطوِّر من أجهزتها الأمنية لكي تتعامل كل المخاطر المختلفة والآخذة في التطوّر.
“إسرائيل” لم تعمل لتكون حاضنةً لغالبية الصناعات التكنولوجية والإلكترونيات العسكرية في العالم وحسب، بل تسعى جاهدةً لتكون بنك المعلومات الأمنية في المنطقة
وقد أوْلت “إسرائيل” القطاعات التكنولوجية والّتقنية بشكلٍ عامٍ، وتلك العسكريةِ والأمنيةِ والمعلوماتيةِ منها على وجه التّحديد، اهتماماً كبيراً منذُ مطلع خمسينيات القرن الماضي؛ فهي تشكّلُ أحد أهمّ مرتكزات الأمن الإسرائيلي. فهي على علمٍ أن تمتُّعها بنظامٍ أمنيٍّ داخليٍّ لا يكفي لحِفظِ أمنها، أو حتّى اعتمادها على علاقاتها الخارجية، والدور الوظيفي والاستثماري لهذه العلاقات على حفظ أمنها في المنطقة، خاصةً بالنظر إلى مساحتها الجغرافية البسيطة مقارنةً بجاراتِها. لذلك عملت على أن تمتلك منظومةً أمنيةً ذات دلالاتٍ معلوماتيةٍ قادرةٍ على حُسْن توجيه إمكانياتها وشُخوصِها بشكلٍ يُبقيها في طليعة مجال الاستخبارات التي تجري من حولها وفي العالم، وكيفية توظيفها بصورةٍ تخدمُ وجودَها وتعزّزُ نفوذها وعلاقاتها.
لذلك فإنّها لم تعمل لتكون حاضنةً لغالبية الصناعات التكنولوجية والإلكترونيات العسكرية في العالم وحسب، بل تسعى جاهدةً لتكون بنك المعلومات الأمنية في المنطقة، من خلال ما تُتيحه لها قدراتها البرمجية وتفوّقها في مجال التكنولوجيا الذي تُوظّفه في مجالاتٍ مختلفةٍ، وخاصّةً في مجال الأمن وتحليل البيانات الكبيرة. إذ يوحي المشهدُ التكنولوجيُّ والمعلوماتيُّ الإسرائيليُّ بأنه سلاحٌ يهدفُ إلى استمرارية التفوق الّتقنيِّ والرقميِّ الإسرائيليِّ، بحيثُ تبقى إسرائيل مُهيمنةً كقوةٍ عسكريةٍ في المنطقة، وأن تكون مركز جذبٍ تكنولوجيٍّ، ومُصدّرةً للتكنولوجيا لكافة بقاع العالم، والذي يعود عليها بمردوداتٍ ماليةٍ وأمنيةٍ وسياسيةٍ كثيرةٍ.
العالم يعيش مرحلة (Big Data)
يعيش العالم الآن في مرحلة البيانات الكبيرة (Big Data) وهي مجموعةٌ من البيانات في الفضاء الإلكتروني، وهي الصورة الخام للمعلومات قبل عمليات الفرز والترتيب والتي لا يُمكن الاستفادة منها بصورتها الأولية قبل المعالجة. وتمتاز تلك البيانات بالتعقيد؛ وحجمها الذي يفوق قدرة الأدوات التقليدية على تحليلها وتخزينها، وتمتلك خصائصَ فريدةً مثل (الحجم، والتنوّع، والسرعة، والمصداقية). ولقد وصل حجم تلك البيانات إلى 4.4 زيتابايت عام 2013؛ أي (4.4 تريليون جيجابايت، كل 1 زيتابايت = 2110 بايت أي 21 صفراً)، ويزداد مُعدّل البيانات كلّ عامٍ حوالي 10*12 زيتا بايت، ومتوقعٌ أن يصل عام 2020 إلى 44 زيتابايت، وسيصل في عام 2025م إلى ما يقارب 180 زيتابايت، ولك أن تتخيل أن توقّعات هذا العام 2018 تتنبّأ بأن كلّ هاتفٍ ذكيٍّ سيُوَلّدُ 2 جيجابايت من البيانات شهرياً، وإذا ما علمنا أنّه بحلول عام 2020، سيكون هناك 6.1 مليار مستخدمٍ للهواتف الذكية في جميع أنحاء العالم.
يقول إسماعيل أبو شميس: أنّ المعرفة البشرية تتضاعفُ بشكلٍ أُسّيٍّ (2X)؛ فقبل عصر التدوين، كانت المعرفةُ البشريةُ تتضاعفُ كلّ 500 عامٍ مرةً واحدةً، وعندما بدأ الإنسانُ بالتدوين أصبحت المعرفةُ البشريةُ تتضاعفُ مرةً كلّّ 250 عاماً، واليوم تتضاعف مرّةً كلَّ 12 عام، ومن المُتوقّع في السنوات القادمة أن تتضاعف كلّ 12 ساعة
وتتنوّعُ البيانات المُستخرَجة والتي تُساعدُ المستخدمين -سواءً كانوا باحثين أو مُحلِّلين- على اختيار البيانات المناسبة لمجال بحثهم؛ وتتضمّنُ بياناتٍ مُهيكَلةٍ (Structured Data) مثل تلك التي في خوادم شركات الاتصالات والخوادم الحكومية؛ وبياناتٍ غيرِ مُهيكَلةٍ (UnStructured Data) مثل: الصور وتسجيلات الصوت ومقاطع الفيديو والرسائل القصيرة وسِجلّاتِ المكالمات وبيانات الخرائط (GPS)، وتتطلّبُ وقتاً وجُهداً لتهيئتها في شكلٍ مُناسبٍ للتجهيز والتحليل.
خصوصاً وأنّ تحدي حجم وتسارُع إنتاجها مُستمرٌّ بشكلٍ مَهُولٍ. فعلى سبيل المثال تمتلكُ واتس آب أكثر من مليار مُستخدمٍ، يتمّ فيه تداولُ أكثر من 42 مليار رسالةٍ وحوالي 1.6 مليار صورةٍ بشكلٍ يوميٍّ، وفيسبوك تتعامل مع أكثر من 50 مليار صورةٍ من مستخدميها. و(Google) تتعامل مع حوالي 100 مليار عملية بحثٍ في الشهر الواحد. إضافةً إلى أنّ ثمّة شخصٍ جديدٍ يدخلُ كلّ 11 ثانية إلى شبكة الإنترنت العالمية، هذا إلى جانب انتشار استخدام الهواتف الذكية بشكلٍ واسعٍ.
وكل ثانيةٍ يبدأ 7 أشخاص حول العالم بإستخدام الهواتف المحمولة 6 منهم تكون هواتف ذكية، وقد بلغ عدد من بحوزتهم هواتف محمولة 4.9 مليار مستخدم. وكل يوم يستخدم الشبكات الاجتماعية عبر الهواتف الذكية 1.5 مليون شخص لأول مرة. وقد بلَغَ عددُ مستخدمي الإنترنت للعام 2017 حوالي 3.7 مليار شخصٍ، أي أنّ نصف البشرية تواجدت على الإنترنت، منهم حوالي 2.7 مليار يستخدم الشبكات.
ويتّضحُ ممّا سبق أنّ البيانات الضخمة تنشأُ عن طريق كلّ شيءٍ من حولنا وفي كلّ الأوقات؛ كلُّ عمليةٍ رقميةٍ سواءً كانت برنامجاً حكومياً أو غير حكوميِّ، كالسجلّات الطبية الإلكترونية وزيارات المستشفيات وسجلات التأمين والسجلات المصرفية وبنوك الطعام، وتَطالُ كذلك التبادلات التجارية أو ذات الصلة بالمُعاملات كالبطاقات الائتمانية، أي كلّ مصادر الشبكات المُغذّية للأجهزة.
وفي هذا الصّدد، يقول إسماعيل أبو شميس: أنّ المعرفة البشرية تتضاعفُ بشكلٍ أُسّيٍّ (2X)؛ فقبل عصر التدوين، كانت المعرفةُ البشريةُ تتضاعفُ كلّ 500 عامٍ مرةً واحدةً، وعندما بدأ الإنسانُ بالتدوين أصبحت المعرفةُ البشريةُ تتضاعفُ مرةً كلّّ 250 عاماً، واليوم تتضاعف مرّةً كلَّ 12 عام، ومن المُتوقّع في السنوات القادمة أن تتضاعف كلّ 12 ساعة، ولك أن تتخيّل حجم البيانات الذي لا يُمكن أن يُدرِكه العقلُ البشريُّ!
تُعتَبرُ السرعةُ عنصراً حاسماً في اتّخاذ القرار بناءً على عملية التحليل تلك، فإذا ما استغرقت عمليةُ المعالجة والتحليل ساعاتٍ أو أياماً، تفقد المعلوماتُ قيمتَها، وفي الحقيقة أنّ إدارة البيانات بشكلٍ مُجْدٍ أمرٌ عسيرٌ
ذلك كلّه جعل للبيانات الكبيرة خصائصَ لا يُمكن مُعالجتها بكفاءةٍ عاليةٍ إلا بإستخدام تكنولوجيا غير تقليديةٍ؛ بحيث تكون ذات تقنياتٍ هندسيةٍ برمجيةٍ فريدةٍ، قادرةٍ على التعامل مع ذلك التعقيد وتحدّيات حجمها والتقاطها، ومشاركتها ونقلها، وتخزينها، وإدارتها وتحليلها في غضون فترةٍ زمنيةٍ مقبولةٍ لتلك البيانات.
تحدّي استخلاص أدقّ المعلومات
يفرضُ، ما ذُكِر آنِفاً، تحدّياً على الشركات والحكومات لتنتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ أخرى وهي مرحلة (Tiny Data)؛ العملية اللاحقة لتحليل البيانات الكبيرة، والتي تستهدفُ الحصول على أهمِّ المعلومات المطلوبة (The Most Important Data) بسُرعةٍ ودقّةٍ عاليتين، وهي في الحقيقة بياناتٌ غيرُ جاهزةٍ، بل يتمُّ استنباطُها والتوصُّل إليها من خلال عملية تحليل البيانات العِملاقة، عبر برامجَ متطورةٍ مثل (HADOOP) تعملُ على إعادة تصنيف هذه المعلومات، وإنشاء روابطَ بينها وبين بعضها البعض، بهدف المُساعدة في فهم جميع أبعاد الظاهرة المنشودة، وفهم المستقبل بصورةٍ أفضل، واتّخاذ قراراتٍ في الوقت المُناسب بحيث يكونُ لها تأثيراتٌ في المستقبل القريب.
وتُعتَبرُ السرعةُ عنصراً حاسماً في اتّخاذ القرار بناءً على عملية التحليل تلك، فإذا ما استغرقت عمليةُ المعالجة والتحليل ساعاتٍ أو أياماً، تفقد المعلوماتُ قيمتَها، وفي الحقيقة أنّ إدارة البيانات بشكلٍ مُجْدٍ أمرٌ عسيرٌ. وهناك فكرةٌ مغلوطةٌ ربّما تخطُرُ للبعض بما في ذلك الشركات؛ أنَّه لمُجرّد وجود البيانات فإنّ ذلك ببساطةٍ يُتيحُ لهم الحصول على نتائجَ مُثمرةٍ. لكنّ السرّ لا يكمُنُ في تجميع البيانات؛ حيثُ أنّ ذلك يُغرِقُ مُتّخذي القرار بمزيدٍ من البيانات، ولكنّه يكمُنُ في (البيانات ذات الصلة- Relevant Data).
هذا ما حدث مثلاً مع الجيش الإسرائيلي بعد حرب عام 2014، فمِمّا زاد على تقرير إخفاقات الجيش في الحرب، تقديرٌ يشيرُ أن ثمّة كمٍّ كبيرٍ جداً من البيانات كانت مُتاحة، ولكن المُعضِلة كانت في القدرة على ترشيح أدقّها، في عملي لاستهداف .
القدرة على إجراء مسحٍ لكمياتٍ كبيرةٍ من البيانات، والجمع بين تلك المأخوذة من عدّةِ مصادر للتوصُّل إلى تحليلٍ أكثر شمولاً يُعطي مزايا واضحةً لا تخفى على أحد
بمعنى أنّ الشركة أو الجهة المعنية لا بُدّ وأن تُقرّرَ أولاً نوعية البيانات التي تريد أن تجمعها بما يتّفقُ وأهدافها الاستراتيجية، والأسئلة التي تبحثُ عن إجابةٍ لها حتّى يكون تحليلُ البيانات ذا إجاباتٍ دالّةٍ على مؤشّرات نجاح، حينها ستكونُ القيمة من وراء تحليلها ذات فوائد قُصوى وملموسة. فالتزايد المستمر للبيانات يتيح فرصًا لم تكن موجودة من قبل للعلم والتجارة وللمجتمع وللأمن ككُلٍّ. فهي تساعد على رؤية الصورة الكبيرة، والفهم العميق، وتحسين آليات اتخاذ القرارات، وتقليل المخاطر، وتفادي الجرائم، والتواصل بكفاءةٍ مع الموظفين والمستهلكين على حدِّ السواء… إلخ.
إنّ القدرة على إجراء مسحٍ لكمياتٍ كبيرةٍ من البيانات، والجمع بين تلك المأخوذة من عدّةِ مصادر للتوصُّل إلى تحليلٍ أكثر شمولاً يُعطي مزايا واضحةً لا تخفى على أحد. لذلك لا خلاف على كوْن الشركات القادرة على تحليل البيانات العملاقة والخروج بالجوهر منها والذي يُمكّن التنبؤ بتوقعاتٍ أدقّ وبوقتٍ أسرع، هي الأقدرُ على جلب انتباه المُستثمرين في كافّة المجالات. وهُنا تكمُن مُعضلة الموثوقية والصحة (Veracity) بقدرات الشركات التحليلية، ويُقصد بها “موثوقية مصدر البيانات”، ومدى دقّتها وصحّتها وحداثة تلك البيانات. حيثُ أنّ ثُلث التنفيذيين لا يثقون في المعلومات الناتجة عن تحليل البيانات التي تُعرض عليهم لاتّخاذ القرار. كما أنّ هناك دراساتٌ تُقدّرُ حجم ضرر المعلومات غير الجيدة الناتجة عن تحليل البيانات على الاقتصاد الأمريكي بما يعادِل 3.1 تريليون دولار سنوياً.
العالم مندفعاً خارج سيطرة التوقع
ومع استمرار تدفُّق البيانات الضخمة وتقنيات الحوسبة، وتعقيد البيانات وتحليليها، بالإضافة إلى سُرعة التحوّلات والتغيرات في المناطق والمناخ السياسي، وهو ما يؤثّر على شكل ونوعية وسُرعة المعلومات، المُتعلّقة بكافّة المجالات، خصوصاً وأنّنا دخلنا في مرحلة عدم القدرة على التحليل دون الآلة والتكنولوجيا في كافة المجالات بما فيها السياسية والأمن. فمهما قيل، في المجال العام وأوساط الأكاديميين أو صناعة القرار، من أنه يمكن الاكتفاء بوصف الأحداث أو تحليلها، وإنتاج تقديراتٍ بشأنها، ستظلُّ هناك مشكلةٌ حقيقيةٌ ما لم يتمّ التوصُّل إلى حلٍّ لمسألة “التوقُّع”، فكلّ مراكز التفكير تُدرك – من دون أن تقرّر ذلك أحياناً- أنه إذا لم تَقُدْ أساليبُ البحث المتبعة فيها إلى الاقتراب من توقع التطورات التى قد تحدث، فإن مهامها في التقدير قد لا تكون مُجدية.
في الماضي كانت هناك قدرةٌ للدول والفاعلين المؤثرين على السيطرة على سلوك الناس، وكانت الابتكارات التكنولوجية ووسائل الاتصال محدودةً والعالم يتقدّمُ ببُطءٍ، اليوم تغيّر ذلك كلُّه بسرعةٍ
ويُعزى ذلك إلى زيادة مُعدّل حدوث ما يسمّيه الخبراء بالنظام اللاخطي وتشابك المعلومات وحجمها ومدى مصداقيتها، أو التغيرات المفاجئة غير المتوقعة في نظام العالم، مثل الأزمة الاقتصادية التي وقعت عام 2008، أو صعود داعش، أو فوز دونالد ترامب في الانتخابات.
إذ إنّ أيَّ خطرٍ قادمٍ أو انهيارٍ قد لا يكون مقصوراً على عاملٍ واحدٍ، كما هو المشهود في الحالة السورية مثلاً، والذي تداخلت فيه عواملُ داخليةٌ وخارجيةٌ مختلفةٌ ومعقّدةٌ، أو كما هو الحال مع الانهيارات الاجتماعية الأخرى في التاريخ، وإنما ينتج عن عدد كبير من العوامل التي يساهم في حدوثه. ويشبه هومر ديكسون رئيس الأنظمة العالمية بكلية بالسيلي للشؤون الدولية في ووترلو كندا، ومؤلف كتاب (The Upside of Down) “العوامل المركبة بالضغوط التكتونية، وذلك بسبب الطريقة التي تنبني بها بهدوء ثم تنفجر فجأة، كاسحة في طريقها كل آليات الاستقرار التي لا غنى عنها لمنع المجتمع من الانفلات”.
في الماضي كانت هناك قدرةٌ للدول والفاعلين المؤثرين على السيطرة على سلوك الناس، وكانت الابتكارات التكنولوجية ووسائل الاتصال محدودةً والعالم يتقدّمُ ببُطءٍ، اليوم تغيّر ذلك كلُّه بسرعةٍ، كانت هناك ثقةٌ في البحث العلمي، إلى درجةٍ قيل معها أنه إذا استخدم باحثان الخطواتِ نفسَها يُمكِنهما أن يصلا إلى النتائج نفسها، وكأنّها عمليةٌ حسابيةٌ. وعلى الرغم من أنّ ذلك لم يكن يحدُثُ بالطبع، فإن الثقة في العلم كانت كبيرةً. ويعبّرُ عن ذلك كله الدكتور محمد عبد السلام مدير مركز المستقبل للدراسات بجملةٍ واحدةٍ: “إنّ أيّ شيءٍ يُسمّى “علماً” يعاني حالياً من مُشكلة؛ أحدُ أهمّ ملامحها انفصالٌ غير طبيعيٍّ بين الأكاديميا وصُنع القرار، أو بين النظرية والواقع، مع عدم قدرة الجانبين أحياناً على الإدراك السريع لتأثيرات التكنولوجيا، أو ما يُسمّى مجازاً (طائراتٍ بدون طيار).
يعجزُ الجهاز الذهنيُّ البشريُّ عن تفهّم العالم الحديث، دون النّظُم الآلية للمساعدة في معالجة الكمّ الهائل من المعلومات، إذ إنّ الحوادث تبقى بعيدةً، إلى أن نُدرِك كيف تؤثّرُ البيئة انتقائياً على الذهن البشري. والمطلوبُ إعادة التفكير في كلِّ ما هو قائمٌ، إذ إنّ سرعة وقوع الأشياء أكبر بكثيرٍ من سرعة اكتشاف الأسباب التي أدّت إليها مُسبقاً، مثل وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت السبب في الثورات العربية، أو صعود الشعبوية مثلاً، وتجنيد “الإرهابين” من خلال مواقع التواصل.
تظلُّ المشكلة العامة في الحالات كلّها هي عدم التمكن من إدراك الواقع، أو رؤية الحقائق التي تتشكل، أو تشكلت فعلاً على الأرض
وهذا ما أدّى إلى النظر باهتمامٍ شديدٍ إلى تشغيل الحدس الأكاديمي بناءً على تحليل البيانات الكبيرة، ويكون بذلك أحد أهمّ الأدوات المُستخدمة في التحليلات السياسية والأمنية، لاستخلاص أدقّ المعلومات في محاولةٍ لتجنُّب الأخطار المُحدِقة بالدول نتيجةً للتطوُّر والمعلومات والتحليلات المُتضاربة، وغياب التنسيق، وتأثيرات الخُصُوم على مُدرّكات مؤسسات الأمن بالخداع، وتأثيراتٍ مُحدّدةٍ للعلاقة بين صانعي القرار وجماعة الاستخبارات، كعدم الاقتناع أو التوقعات المبالغ فيها، أو الاستنفار الكاذب عندما يتعلق الأمر بتهديدٍ مُحدّدٍ، بإرهابيٍ مثلاً، تضافُ أبعادٌ، كصعوبة الاعتماد على المصادر البشرية وغيرها.
لكن تظلُّ المشكلة العامة في الحالات كلّها هي عدم التمكن من إدراك الواقع، أو رؤية الحقائق التي تتشكل، أو تشكلت فعلاً على الأرض. فإن الإشكالية الأساسية التي تتجاوز قدرات الجميع، هي أنّ البيئة الاستراتيجية بكلّ ما تتضمّنه من تغيّراتٍ وبياناتٍ ومخاطرَ، تشهدُ تحولاتٍ جوهريةً مستمرةً، إلى درجةٍ قال معها أحدُ مُحلّلي التهديدات في إحدى الدول الكُبرى: “لا جدوى من وجود مناهج لتحليل التهديدات لدينا، دولُتنا كبيرةٌ، مساحةً وسكاناً، عندما يظهر التهديد، نتحرّكُ على الفور بقوةٍ قاتلةٍ، لإنهائه، هذا هو منهجُنا”.
واقعياً يمكن أن يجدي ذلك نفعاً مع دولة كبيرة المساحة، إذ إنّ الأضرار تتناسبُ عكسياً مع المساحة. لكن ذلك لا يناسب “إسرائيل” صاحبة المساحة الجغرافية المحدودة. لذلك هي تُسوّقُ نفسَها بأنها قادرةٌ على تغيير هذه المنظومة من خلال اعتمادها على تكنولوجيا تحليل البيانات والتي تحتاجُ إلى برامج فائقة الذكاء، تكون ذات وجهةٍ أمنيةٍ تستطيعُ أن تربطَ أحداثاً متراكمةً ومعلوماتٍ هائلةً تتراءى لنا بفوضويةٍ لا يُمكن تتبّعها، برامج قادرةٌ على أن تُفسّر المعلومات المُعقدة بردّها إلى سلوكٍ ونمطٍ من التصرف المشترك في ما بينها. ذات حساسيةٍ مُعيّنةٍ، برامج لديها قدرةٌ وعينٌ ثاقبةٌ تلتقط النمط، وخصوصاً النمط الذي يُعاوِد الظهور، ولو مُختلفاً قليلاً، عبر مراحل زمنيةٍ مُستقلةٍ وتقاطعت ميولهم عند التنبُّه للعشوائي والمُعقّد وللحدود المتعرّجة والمتخبّطة والقفزات المُفاجئة.
“إسرائيل” تطمحُ من خلال تلك التطورات أن تُتاح لها الفرصة لكي تلعب دوراً أكبر من حجمها الجغرافيِّ في السياسة الدولية، بصورةٍ قد تغيّرُ من المفاهيم التقليدية لمُمارسة النفوذ في العلاقات الدولية،
وهو ما جعل موقع “إسرائيل” في المجتمع الدولي يتغيرُ بشكلٍ دراماتيكيٍّ؛ بسبب حاجة العالم للتكنولوجيا والمعلومات التحليلية التى توفّرها خبرتهم في تتبّع المقاومة ومنعها. إذ تولي “إسرائيل” أهميةً كبيرةً لصناعة التكنولوجيا، ومعالجة البيانات. وقد أحرزت الشركاتُ الإسرائيلية، المرفودةُ بخبراتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ تقدّماً ملموساً في هذا المجال.
فهي تطمحُ من خلال تلك التطورات أن تُتاح لها الفرصة لكي تلعب دوراً أكبر من حجمها الجغرافيِّ في السياسة الدولية، بصورةٍ قد تغيّرُ من المفاهيم التقليدية لمُمارسة النفوذ في العلاقات الدولية، بحيثُ تُصبح الدول “الأكثر تقدّماً” صاحبة الدور الرئيسي في العلاقات الدولية بدلاً من الدول “الأكبر”، وما يتبع ذلك من علاقاتٍ مع الدول المجاورة.
المصدر: باب الواد