بينما تستعد جامعة القاهرة لاحتضان مؤتمر الشباب السادس برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي من المفترض أن يناقش العديد من الملفات الخاصة بالارتقاء بمنظومة الشباب وتحسين مستوى معيشته، إذ بمئات الصحفيين والإعلاميين الشبان ينضمون إلى قائمة العاطلين، إثر غلق قناتي “ON E” و”DMS sport” الفضائيتين.
مجموعة “إعلام المصريين” الإعلامية المملوكة للاستخبارات المصرية والمالكة للقناتين، أعلنت بالأمس وبشكل مفاجئ إغلاقهما وتوقف بثهما، بذريعة إعادة هيكلة القنوات التابعة لها، دون مراعاة لجموع الصحفيين والإعلاميين العاملين بداخلهما، أو حتى تعويضهم عن فترة العمل التي قضوها، ليفترشوا بين ليلة وضحاها سلالم البطالة المكتظة بما يقرب من 3.4 مليون مصري حسب آخر إحصاء للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) مايو/آيار الماضي.
تساؤلات عدة فرضها هذا القرار الذي لم يبد مفاجئًا للكثيرين كونه يأتي في إطار تلك السياسة الجديدة التي تنتهجها السلطات المصرية – قبل أكثر من عام تقريبًا – نحو تقليص النوافذ الإعلامية والإبقاء على عدد ضئيل منها يمثل وجهة النظر الرسمية، إلا أن مصير مئات الأسر المتضررة من مثل هذه التحركات الفردية بات السؤال الأكثر حرجًا للنظام في الوقت الذي ينفق فيه ما يقرب من 30 مليون جنيه لتنظيم مؤتمر يرفع شعار الشباب ويدعي العمل على طمأنتهم واحتوائهم.
كنت في الجامعة اليوم بعد غياب 10 أيام الحركة داخل الحرم صعبة جدا بسبب مؤتمر اسأل الرئيس. ثلاثة أطقم تعمل بهمة كبيرة طقم لتهذيب الأشجار وأخر للرصف وثالث لنصب خيام وبناء قاعات خشبية مكيفة. سألت خبير عن التكلفة فقال 30 مليون جنيه على الأقل. هل هذا سلوك دولة فقيرة تعيش أزمة اقتصادية؟
— Hassan Nafaa (@hassanafaa) July 24, 2018
السيطرة على الإعلام
بالعودة قليلاً إلى مساء الـ11 من فبراير 2011، وتحديدًا في قلب ميدان التحرير، حين أذاع رئيس المخابرات الراحل عمر سليمان، بيان تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، حينها كان الإعلام اللاعب الأبرز في المشهد، استطاع وبشكل جيد أن يكشف المستور عن الممارسات والانتهاكات التي قامت بها السلطات الأمنية ضد المتظاهرين من تعذيب وكشف عذرية واعتقالات.
وقتها كثف المجلس العسكري والمتعاونون معه من جهودهم لطمس تلك الحقائق، لكن صوت الإعلام كان أشد قوة، ما دفع المجلس للخروج للاعتذار للشعب عما بدر بحق المتظاهرين، إلا أنه وفي هذه اللحظة أيقن أن السيطرة على المشهد تبدأ من إحكام القبضة على الإعلام، وهنا وضع خطته.
بدأت الإرهاصات الأولى لتلك الخطة مع تولي الرئيس الأسبق محمد مرسي مقاليد الحكم، حين امتدت خيوط المؤسسات الأمنية للسيطرة على الإعلام وترويضه بشتى السبل، عبر العديد من الأذرع والإستراتيجيات المستخدمة التي نجحت في تحويل منظومة الإعلام من خصم كاشف لكل الانتهاكات والتجاوزات بحق المواطنين إلى بوق يدافع عن سياسات السلطة وتوجهاتها، معتمدًا في ذلك على عدد من الإستراتيجيات
كان زرع عسكريين سابقين في منظومة الإعلام، من خلال إشراكهم كملاك أو مديرين لبعض الوسائل الإعلامية، الإستراتيجية الثالثة للهيمنة على المنظومة الإعلامية
“نون بوست” في تقرير سابق، استعرض هذه الخطة بشيء من التفصيل، كاشفًا 4 إستراتيجيات و3 مجموعات كونت فيما بينها خطة السيطرة على الإعلام، الإستراتيجية الأولى التي اعتمد عليها النظام الحاليّ كانت تجنيد عدد من رجال الأعمال لتكريس حكمه والعزف على أوتار التمجيد والإشادة والمديح، وذلك بزرعهم في بستان الإعلام عبر شراء بعض القنوات والصحف والمواقع الإخبارية.
أما الإستراتيجية الثانية لإحكام الهيمنة على منظومة الإعلام في مصر كانت عن طريق إرهاب العاملين في مجال الإعلام وتضييق الخناق عليهم عبر حزمة من القوانين التي صدرت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، على رأسها قانون الإرهاب والإعلام الموحد وقانون الكيانات الإرهابية، وآخرها قانون الصحافة الجديد.
نحو 513 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في مصر في أثناء تأدية عملهم خلال عام واحد في الفترة من 3 من مايو 2016، إلى 3 من مايو 2017
فيما كان زرع عسكريين سابقين في منظومة الإعلام، من خلال إشراكهم كملاك أو مديرين لبعض الوسائل الإعلامية، الإستراتيجية الثالثة للهيمنة على المنظومة الإعلامية، على رأسهم المتحدث العسكري السابق للقوات المسلحة العميد محمد سمير الذي تولى إدارة قنوات “العاصمة” وبات أحد كتاب صحيفة “المصري اليوم”، فيما جاء التخلص من الإعلاميين المعارضين أو أصحاب أنصاف الولاء آخر تلك الإستراتيجيات المتبعة.
إستراتيجيات السيطرة على الإعلام تضمنت كذلك 3 مجموعات ساهمت بشكل كبير في تحقيق هذا الهدف، المجموعة الأولى يتصدرها رجال الأعمال الجدد الذين تم تجنيدهم من النظام لخدمة أهدافه وترسيخ كيانه في مواجهة المعارضين، وهم الواجهة الجديدة للمشروعات والاستثمارات الأمنية وإن تعددت مسمياتها.
المجموعة الثانية وهم العسكريون بزي إعلاميين، ممن اقتحموا مجال الإعلام بصورة ملفتة للنظر خلال الأعوام الثلاث الأخيرة، وباتوا كتابًا وملاكًا ومديري قنوات فضائية، على رأسهم العميد محمد سمير وطارق إسماعيل وياسر سليم وأحمد شعبان.
أما المجموعة الثالثة وهم رجال الأعمال القدامى إبان عهد مبارك وما بعده، وهم مجموعة مستأنسة من النظام، بعضهم مدعومين من الخارج لدعم السلطة الحاليّة، على رأسهم محمد الأمين وطارق نور ومحمد أبو العينين وهالة الكحكي والسيد البدوي.
غلق قناة “ON E” بدعوى إعادة الهيكلة
انتهاكات لا تتوقف
يعاني المشهد الإعلامي في مصر من ضبابية غير مسبوقة في تاريخه، حتى إبان فترة الستينيات، تلك الفترة التي طالما عبر السيسي عن أمنيته أن تعود مجددًا، حيث الصوت الواحد والنوافذ المحدودة والسيطرة الكاملة عن كل ما يقال أو يكتب أو يبث.
الأعوام الأخيرة على وجه التحديد شهدت الخريطة الإعلامية تمزقًا في شتى جوانبها حتى باتت ثوبًا مهلهلاً لا يسلم كل من يرتديه من سهام التنكيل والتوبيخ، حتى من بعض المؤيدين للنظام، وتشير التقارير إلى أن هناك ما يقرب من 92 صحفيًا وإعلاميًا داخل السجون والمعتقلات بتهم تتعلق بمهام وظيفتهم أو آرائهم السياسية، أبرزهم أحمد سبيع وحسن القباني وعمر عبد المقصود ومحمد صابر البطاوي وهشام جعفر وهاني صلاح الدين وإسماعيل الإسكندراني وسامحي مصطفى وعبد الله الفخراني والمصور محمود أبو زيد الشهير بـ”شوكان”.
مرصد “صحفيون ضد التعذيب” وهو مؤسسة مستقلة معنية بالدفاع عن حرية الصحفيين، رصد نحو 513 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في مصر في أثناء تأدية عملهم خلال عام واحد في الفترة من 3 من مايو 2016، إلى 3 من مايو 2017.
عضو مجلس نقابة الصحفيين المصرية: اقفل قنوات واحجب مواقع صحافية كل اللي شغالين فيها شباب، اخرب بيوت الشباب، وبعدين اطلع اعملهم مؤتمر شباب وقولهم مش مهم تأكلوا
مؤسسة حرية الفكر والتعبير المعنية بالدفاع عن حريات الصحافة، في تقرير لها كشفت أن عدد المواقع المحجوبة في مصر، منذ مايو 2017 حتى الآن، ارتفع إلى 497 موقع ويب على الأقل، ولا زال الحجب مستمرًا، أسفر عن تشريد الآلاف من العاملين فيها، صحفيين كانوا أو إداريين وفنيين.
تلك الضربات الموجعة التي تلقتها الصحافة المصرية أقبعتها في ذيل الدول فيما يتعلق بالحريات، إذ احتلت المرتبة الـ161 من أصل 180 دولة في الترتيب العالمي لحرية الصحافة خلال 2017، في التقرير الذي أعدته منظمة “مراسلون بلا حدود” التي ذكرت وجود 29 صحافيًا مسجونًا في مصر.
شيزوفرينيا تشرد آلاف الصحفيين
في بيانه الخاص بغلق القناتين، قال تامر مرسي رئيس مجلس إدارة مجموعة “إعلام المصريين”: “قرار المجموعة بشأن قناة ON Live جاء من أجل أداء أفضل ودعمًا للاتجاه المستقبلي للمجموعة من خلال قنواتها التليفزيونية، لتقديم ما يتناسب مع مكانة مصر الإعلامية”، مؤكدًا أن انطلاق قناة “أون سبورت 2” يدعم توجه مجموعة “إعلام المصريين” وإستراتيجيتها التوسعية التي تركز على التغطية الإعلامية الاحترافية للرياضات المختلفة بما يخدم توجه الدولة المصرية لدعم الرياضة والشباب”.
حالة من الغضب سيطرت على العاملين في القناتين بعد تسريحهما المفاجئ، وتشريد مئات الأسر التي كانت تمثل تلك الوظيفة العائل الأساسي لها، هذا بخلاف الحزن الذي خيم على البعض جراء إسدال الستار على هذه التجربة التي يراها البعض كانت ناجحة، وهو ما جاء على لسان، لمياء حمدين المراسلة في قناة “ON E” التي كتبت على صفحتها الشخصية بموقع “فيسبوك”، قائلة: “طب مشوني منها بس بلاش تقفولها.. حرام سنين الشقا والتعب تتدفن كده!”.
محمود كامل عضو مجلس نقابة الصحافيين، وجه عبر منشور له على صفحته على “فيسبوك”، رسالة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، قال فيها: “اقفل قنوات واحجب مواقع صحافية كل اللي شغالين فيها شباب.. اخرب بيوت الشباب.. وبعدين اطلع أعملهم مؤتمر شباب وقولهم مش مهم تأكلوا”، في إشارة منه إلى مؤتمر الشباب الذي ترعاه الرئاسة المصرية، وسينعقد على مدار يومي السبت والأحد بجامعة القاهرة.
الإعلامي يسري فوده علق على هذا القرار بقوله: “استيقظت هذا الصباح على صدور شهادة الوفاة الرسمية لقناة “أون تي في” الأم، كما هو الحال مع كل شيء تقريبًا في مصر الآن، سيرى كل طرف خبرًا كهذا من منظوره وستختلط المشاعر، أراه أنا تحصيل حاصل وأختار – أبعد من هذا – أن أرى فيه جانبًا إيجابيًا من زاويتين: أولًا، شهادة إفلاس رسمي لنظام أحكم سيطرته على كل شيء تقريبًا، لكنه لا يستطيع التعامل مع بارانويا 25 يناير بكل ما يتعلق بها من تفاصيل.
ثانيًا، إكرام جثة أحد أبرز شهداء ثورة لا تزال قيمها مغروسة في الوجدان رغم كل الألم والإحباط، انتظارًا ليوم آخر آتٍ لا ريب فيه”.
قوانين مكبلة للحريات وسياسات دمج وحجب تغلق عشرات النوافذ الإعلامية، مئات الصحفيين والعاملين باتوا في عداد العاطلين، آلاف الأسر تم تشريدها، كان هذا هو المقابل الذي يدفعه الشباب المصري ثمنًا للسياسات المتبعة من أجل الوصول إلى إعلام الصوت الواحد، هذا في الوقت الذي يجلس السيسي ورفاقه تحت قبة جامعة القاهرة يتحدثون عن مستقبل الشبان وسبل النهوض بهم، بينما يقبع ما يقرب من 30 مليون مواطن تحت مستوى خط الفقر.