بينما كان من المفترض أن يتبجّح رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو كعادته في كل استعادة لجثث الأسرى، وأن يتفاخر بعمليته العسكرية على قطاع غزة، التي أنقذت جثامين هؤلاء الأسرى من الدخول في دوامة التفاوض مع المقاومة الفلسطينية، بينما كان من المفترض أن يحدث ذلك كله، انقلبت الموازين، وكانت جثامين 6 أسرى أعلن الاحتلال صباح الأول من سبتمبر/ أيلول 2024 عن إعادتهم، وقودًا لحراك جديد لم يشهده المجتمع الإسرائيلي منذ بدء معركة “طوفان الأقصى”: الإضراب الشامل والدعوة إلى العصيان المدني.
وعلى خلاف الأشهر العشر الأولى من معركة “طوفان الأقصى”، حيث لم تفلح عائلات الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة وحدها بالضغط على الحكومة، لإنجاز صفقة تبادل والإفراج عن أبنائها، تبدو الأمور هذه المرة أكثر ضغطًا على نتنياهو، لدفعه لإنجاز صفقة تبادل خاصة مع ما نقلته صحيفة “يديعوت أحرنوت” عن مسؤول إسرائيلي، أن “ثلاثة من الأسرى المستعادة جثثهم من قطاع غزة، كانوا على القائمة التي وافقت عليها حماس في 2 يوليو/ تموز، وكان يمكن استعادتهم أحياء لو وافق نتنياهو على الصفقة حينها”.
تبدو الاحتجاجات هذه المرة أكثر زخمًا في الشارع الإسرائيلي، مع انضمام مؤسسات وبلديات إلى الإضراب الشامل، لكنها بدت أكثر خطورة بالنسبة إلى نتنياهو مع انضمام الهستدروت إلى هذه الخطوات.
الهستدروت: حكومة إسرائيلية ثانية
تأسّست الهستدروت في عام 1920، وهي منظمة عمالية عبرية كان لها دور كبير في دعم الحركة الصهيونية، وهدفت إلى تشكيل اتحاد للعمال والفلاحين دون التدخل في شؤون الآخرين، وتعمل المنظمة على دعم الاستيطان وبناء مجتمع عمال، ودعم الهجرة اليهودية وتوطين المهاجرين والسيطرة على فلسطين وإقامة اقتصاد مزدهر فيها، وتعمّقت قوة الهستدروت في الأوساط العمالية اليهودية، وغدت من أقوى الهيئات الداعمة للمشروع الصهيوني.
وتتألف الهستدروت من نقابات عمالية ومهنية متنوعة تمثل قطاعات واسعة من العمال والموظفين والفلاحين وغيرهم، وتتصارع الأحزاب على القيادة في هذه النقابات والاتحادات العمالية، وتوصف بأنها حكومة ثانية داخل دولة الاحتلال، فلها هيئاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وشكّلت الهستدروت قوة اقتصادية واجتماعية، وسيطر عليها حزب العمل حتى عام 1994، ثم حزب عمال أرض إسرائيل (مباي) المنشق عن حزب العمل، وحاولت في كثير من الأحيان أن تنأى عن القضايا السياسية.
يرأسها حاليًا أرنون بار دافيد بعد فوزه في انتخاباتها عام 2019، ثم فاز بولاية ثانية عام 2022، وكان بار دافيد في معظم حياته عضوًا في حزب العمل اليساري، لكن في يناير/ كانون الثاني 2021 أبلغ الحزب رسميًا باستقالته، وفي رسالته إلى الأمين العام للحزب، برر القرار بالقول إن الهستدروت لم تعد منظمة تتأثر لهجتها المهيمنة بحزب واحد أو جانب واحد من الخريطة السياسية، وأن العمال من جميع جوانب الطيف السياسي يعملون، وأنه يعتزم تعزيز تعاون المنظمة مع شركائها في كافة الأطراف.
الدعوات إلى الإضراب
بعد اجتماعه مع عائلات الأسرى في 1 سبتمبر/ أيلول 2024، أعلن رئيس الهستدروت الإضراب، وقال إنه “لن يتسامح مع التخلي عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة”، مشيرًا إلى أنه ابتداءً من صباح اليوم الاثنين 2 سبتمبر/ أيلول 2024، من الساعة 6 صباحًا سيتوقف الاقتصاد الإسرائيلي، وفي الساعة 8 صباحًا سيتم إغلاق مطار بن غوريون، وتوقف الإقلاع والهبوط.
وبعد أن تظاهر أكثر من 300 ألف إسرائيلي في شوارع تل أبيب عقب الإعلان عن استعادة جثامين الأسرى الستة من غزة، قال عضو الهستدروت، يانيف ليفي، في مقابلة إذاعية: “قد رأينا نصف مليون شخص يخرجون إلى الشوارع، وإذا لزم الأمر فسوف نخرج نصف مليون آخرين. ومن المحتمل جدًا أن نمدد الإضراب لأكثر من يوم واحد، وندخل المزيد من القطاعات فيه، ونحن لا نستمتع بالإضراب، لكننا بحاجة إلى فرض النظام في البلاد”.
ومع إعلان رئيس الهستدروت عن إغلاق الاقتصاد، دفع عددًا غير قليل من الهيئات والمنظمات إلى الإعلان عن انضمامها إلى الإضراب، وسينضم منتدى الأعمال، الذي يضم 200 شركة من أكبر الشركات في دولة الاحتلال، إلى الإضراب.
ومن الشركات البارزة في المنتدى، بالإضافة إلى البنوك، مجموعة فوكس، وشركات بطاقات الائتمان ماكس، وشركة الشحن، وقال هاريل ويزل الذي يسيطر على فوكس: “لقد طالبنا الحكومة بإبرام صفقة الأسرى ولم يحدث شيء، واليوم نرفع مستوى القتال. ويدعو المنتدى الشركات إلى الانضمام إلى الإضراب”.
وأعلنت عشرات المطاعم والمقاهي والمسرح الوطني الإضراب احتجاجًا على عدم التوصل لصفقة أسرى، كما انضمت إليهم نقابة الأطباء والمعلمين، وقسم الطب النفسي في مشفى “شيبا”، وبلديات تل أبيب ويافا ورعنانا وكفار سابا وأشكول وجفعاتيم وهرتسيليا وموديعين.
فيما دعا رئيس وزراء الاحتلال السابق إيهود باراك إلى العصيان المدني، وطالب عضو الحرب المستقيل بيني غانتس الجمهور أن يخرج إلى الشارع، وأنه حان الوقت لاستبدال حكومة الفشل المطلق بالخروج والتظاهر.
لكن هناك من أعلن عدم مشاركته، فأعلن الهستدروت الوطني، وهي مؤسسة أنشأتها الصهيونية الدينية كجسم مضاد للهستدروت، أنه لن يشارك في الإضراب، معلقًا: ” إن إغلاق الاقتصاد هو خطوة خطيرة ستضرّ بالاقتصاد وصمود وأمن دولة إسرائيل. وأعداؤنا يفركون أيديهم بينما يراقبوننا، ولن نساعدهم”.
وقدّمت حكومة الاحتلال التماسًا ضد الإضراب بناءً على طلب وزير مالية الاحتلال والزعيم في تيار الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريش، وعلى إثره، قضت محكمة العمل الإسرائيلية بوقف الإضراب العام الذي بدأ صباح اليوم عند الساعة 2:30 بعد الظهر بالتوقيت المحلي، فيما أفادت صحيفة يديعوت أحرونوت بأن النقابات الإسرائيلية أبلغت محكمة العمل أن الإضراب سينتهي الليلة.
وعدّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإضراب دعم لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار.
قوة إضراب الهستدروت
وفي فبراير/ شباط 2024، انتقد بار دافيد بشدة حكومة الاحتلال ونتنياهو فيما يتعلق بطريقة إدارة الحرب وقضية الأسرى، ودعا إلى تقديم موعد الانتخابات، وأعلن انضمام الهستدروت إلى الاحتجاجات والمظاهرات المناهضة للحكومة.
وبحسب قوله، تجلب الحكومة الكارثة للبلاد، ويتجنّب أعضاؤها حل الحكومة بسبب شهوتهم إلى السلطة، وأشار أيضًا إلى أن نتنياهو يتصرف انطلاقًا من اعتبارات الائتلاف فقط، وهو مسؤول عن خفض التصنيف الائتماني لـ”إسرائيل”، لكن بار دافيد لم يتخذ حينها إجراءات حقيقة كما هذه المرة.
ووصلت تكلفة الحرب لدى الاحتلال إلى أرقام كبيرة، بلغت ما يزيد عن 60 مليار دولار حتى الآن، وهذه التكلفة تشمل النفقات العسكرية والمدنية، التي تتضمن عمليات التجهيز العسكري والنفقات اللوجستية وإعادة الإعمار في المناطق المتضررة داخل الاحتلال، كما أثّر “طوفان الأقصى” أيضًا على التصنيف الائتماني لـ”إسرائيل”، فقد خفضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لدولة الاحتلال إلى “إيه 2″ مع نظرة مستقبلية سلبية.
أما انضمام النقابات إلى الإضراب، فيراه مدير مركز القدس للدراسات الإسرائيلية، عماد أبو عواد، إحداث شلل في الاقتصاد الإسرائيلي، وتراجعًا في النمو الاقتصادي الإسرائيلي بنسب مهولة، مقابل ارتفاع في عجز الميزانية الإسرائيلية بشكل كبير، وشلل في عجلة الإنتاج، والبدء الفعلي لتفكك الاقتصاد الإسرائيلي إذا ما استمر إضراب النقابات فترة طويلة.
ويشير أبو عواد في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن إضراب الهستدروت يمكن وصفه بأقوى بطاقة حمراء من الممكن أن يوجّه إلى بنيامين نتنياهو، وهو السيناريو الأخطر الذي كان نتنياهو لا يريد الوصول إليه، وفي ظل إعلان الهستدروت تعطيل وشلّ الحياة الاقتصادية في دولة الاحتلال، سيكون لهذا تأثير كبير على مسيرة بنيامين نتنياهو في اتخاذ القرارات المرتبطة بقطاع غزة.
وعلى غرار أبو عواد، يشدد الباحث في الشأن الإسرائيلي عادل شديد على أن انضمام الهستدروت إلى الفعاليات، وإعلان الإضراب العام والشامل في مرافق دولة الاحتلال، يعني أن هناك 800 ألف عامل وموظف لن يتوجهوا إلى أماكن عملهم، وهذا تطور مهم جدًا لا يمكن إنكاره ولاإغفاله، وستكون له بالتأكيد تأثيرات هامة.
يضيف شديد في تعقيبه لـ”نون بوست”: “لا بدَّ من الإشارة إلى أن نسبة من العمال أعلنوا أنهم لن يلتزموا بالإضراب كونه لدوافع سياسية، وأن جزءًا من المجتمع الإسرائيلي يقفون إلى جانب بنيامين نتنياهو ومع الحكومة، لكن بكل الأحوال السؤال الأهم هل هو فقط ليوم واحد وسينتهي؟ أم سنكون أمام إضراب مفتوح؟ إذا كنا أمام إضراب مفتوح ومستمر يعني سنرى تغييرًا في مواقف بنيامين نتنياهو”.
وكانت قوة الهستدروت الواضحة خلال التعديلات القضائية، حين أعلن بالاشتراك مع رؤساء قطاع الأعمال إضرابًا فوريًا في كافة قطاعات الاقتصاد، مطالبًا بوقف الإصلاح القانوني وتعزيز الإصلاح بتوافق واسع، واستمر الإضراب يومًا واحدًا وانتهى بإعلان نتنياهو تأخير عمليات التعديلات القضائية.
ليلة غالانت 2
تعلّق صحيفة “هاآرتس” العبرية على نتنياهو ساخرة: “هذا الرجل المظلم الساخر عديم القلب لم يلِن ولم يصبح إنسانًا بين عشية وضحاها، لكن جهاز قياس الزلازل السياسي الخاص به لا يزال حادًا. لقد أدرك تحولًا كبيرًا في الصفائح التكتونية – المظاهرات التي تم تنظيمها في جميع أنحاء البلاد، وأبرزها تلك التي أمام مبنى الكرياه في تل أبيب، والتي كان يُنظر إليها على أنها ” ليلة غالانت 2″ محتملة”.
وتضيف الصحيفة: “مع قرار رئيس الهستدروت بالإعلان عن إضراب عام في الاقتصاد، والمبادرات العفوية للشركات الخاصة التي تخلت عن الأرباح وأغلقت أبوابها في اللحظة التي كان يخشى فيها الكثير، سيتحول الألم إلى غضب، وستحل محل التعب طاقة، وستختفي اللامبالاة، ولكن إذا استمر الإضراب والمظاهرات لمرة واحدة، فإن الحكومة الدموية ستستمر في حد ذاتها”.
و”ليلة غالانت 2″ هو مصطلح يشير إلى الترقب لآثار إعلان وزير الحرب يؤاف غالانت عقد اجتماع فوري للكابينت، لإلغاء القرار الذي اتُّخذ يوم الخميس 29 أغسطس/ آب 2024، حول عدم الانسحاب من محور فيلادلفيا، مشيرًا إلى أن هذا سيكون متأخرًا بالنسبة إلى الأسرى الذين قُتلوا، ويجب إعادة المتبقين منهم في غزة.
وتوصف بأنها ليلة غالانت الثانية، بعدما كانت ليلة غالانت الأولى في أبريل/ نيسان 2023 مع أزمة التعديلات القضائية، بعد إقالة نتنياهو لوزير حربه غالانت، فاستجاب الغضب الشعبي إلى دعوات الأخير بالنزول إلى الشوارع والاحتجاج، ما دفع نتنياهو إلى التراجع عن الإقالة.
لكن “هاآرتس” تبدو غير متفائلة بالمطلق من حجم الغضب الشعبي الإسرائيلي هذه المرة، فتقول لقرائها: “من الأفضل عدم رفع آمالك. الغضب الشعبي الذي عبّر عنه “ليل غالانت” العام الماضي (مع ضغوط أمريكية كثيفة) أدّى إلى إلغاء إقالة وزير الحرب، لكن بعد ذلك لم يكن مصير حكومة نتنياهو على المحك، “وليل غالانت 2″ لن يدفع نتنياهو إلى صفقة، لأن بقاءه الشخصي والسياسي أهم بالنسبة إليه بألف مرة من حياة الأسرى”.
بينما ينذر الإضراب الاقتصادي بفرص تغيير حقيقية لصالح إنجاز صفقة تبادل أسرى، خاصة مع مشاركة الهستدروت في الحراك، لكن الجانب الآخر من القصة هو أن تحرُّك القطاعات الاقتصادية لم يكن مرهونًا فحسب باستعادة الأسرى الستة جثامين من قطاع غزة، بقدر ما هو أيضًا ارتبط بتطور غير مسبوق في جبهة الضفة الغربية وعودة رعب “العمليات الاستشهادية”، التي يدرك الإسرائيليون جيدًا أنهم سيدفعون ثمنًا كبيرًا عايشوا مثله في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والعاقل في دولة الاحتلال من يستدرك مآل الأحداث ويوقف نتنياهو عن جنونه.