لم تكن مقالة الأستاذ يزيد صايغ بعنوان “نظرة سوداوية بشأن سوريا” لتصدر في وقت أفضل من هذا، في وقت انهمك فيه كتاب الصحف الغربية في تبرير عدم أهمية سوريا استراتيجيا بالنسبة للغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، الأمر الذي وصل إلى تبرير مؤكّد ومغلّظ لإهمال سوريا بشكل مقصود دون أي تردد أو ندم. كما غرق كتاب في صحف عربية في التحليلات المتحيزة بشكل واضح باتجاه هذا المحور الإقليمي أو ذاك.
ولا يخفى على المتابعين للأزمات السياسية السابقة والمرافقة لسوريا أن الاهتمام الذي أولته الولايات المتحدة لسوريا لم يتجاوز عددا من الخطابات وفتات الفتات من الأموال عبر وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية والتي في معظمها ليست مفروزة أصلا للملف السوري وإنما لبرامج التنمية السياسية في الدول النامية وكجزء من التزامات الولايات المتحدة تجاه الأمم المتحدة (المفارقة أن ذلك كان على عكس توصيات الكونغرس المتضمنة في تقرير صدر في مستهل العام ٢٠١٣).
امتلأت حواسيب السوريين وهواتفهم بالتحليلات التي تفيد بوضع بلادهم في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط وموقعها من المحاور الإقليمية، وموقعها وموقع نظام الأسد في العلاقات الدولية، والقراءات في الديموغرافيا والتوزيع الإثني والطائفي السوري، وقرارات مجلس الأمن وتقارير لجنة تقصي الحقائق وقرارات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. والتي تخلص جميعها إلى ما كان يمكن عمله وما الذي ينبغي فعله. وفي النهاية يظل كثير من السوريين في موقع المراقب الذي يتلهف للوصول إلى نهاية المقالة المنبئة بسيناريو قريب تلتقي فيه مصالح الدول العظمى التي ستنوي حينها الإطاحة بنظام الأسد.
هذه الصورة البائسة تدل على حالة من اليأس وفقدان الأمل ولكن،
في هذه الصورة المختلطة هناك من فهم المعادلة منذ البداية، معادلة الثورة السورية “ما النا غيرك يا الله”!
ما يميّز مقالة الأستاذ يزيد صايغ هو تناوله للوضع السوري بصورة واقعية من زاوية أكاديمي قارئ لحقيقة الوضع في سوريا، وليس من زاوية باحث في خيارات السياسة الخارجية الأمريكية أو سياسة أحد المحاور الإقليمية تجاهها، ولا من زاوية كاتب عاطفي يلقي باللوم على هذه الدولة أو تلك. فكرة المقالة واضحة من عنوانها، فقد قرأ الكاتب فيها متغيرات الوضع السوري من عدة زوايا لإثبات فرضيته، كما مرّ فيها على المحاور الإقليمية والدولية المتداخلة في سوريا.
جرائم لا تسقط بالتقادم
نقلت الجزيرة نت خبرا عن رفع أرامل وأمهات شرقي البوسنة دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد الحكومة الهولندية لفشل قواتها في حماية المدنيين. من تتبع تفاصيل المجزرة يعرف أن إعدام الأطفال وتمزيق بطون النساء كان يجري أمام أعين المراقبين الهولنديين المسلحين، في مدينة سربرنيتسا التي أعلنتها الأمم المتحدة منطقة مدنية آمنة. والشاهد هنا أنه على الرغم من تحمّل المجرم رادوفان كاراديتش وراتكو مالاديتش مسؤولية الجريمة التي اقترفتها القوات الصربية إلا أن السكوت على الجريمة هو جريمة أكبر منها.
كذلك فإن الصمت المقيت – إذا تناسينا فريق الدّابي – لفريق الأمم المتحدة برئاسة روبرت مود عن رصاص قوات الأسد الذي أصاب أحد سيارات وفده لهو جريمة بحد ذاتها. وإذا نسينا مُود وأخلينا مسؤوليته بالنظر إلى أنه أدى مهمته وقدم تقريره إلى مجلس الأمن، فإنّنا لا يمكن أن ننسى الصمت العالمي عن جرائم نظام الأسد وفشله في حماية الشعب السوري.
الإنسانية قبل التحليل السياسي
على الرغم من حديث التحليلات والمقالات عن أهمية سوريا الاستراتيجية في المحيط الجغرافي، وعن حقيقة تعرض أي من مصالح الولايات الأمريكية للخطر. فإنه يجب التذكير بأن التحرك لوقف الظلم الواقع في سوريا يجب أن يكون من منطلق إنساني أولا قبل أن يكون من منطلق سياسي. والحديث هنا ليس عن القتل والاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري مع الإفلات من العقاب فقط، ولكن عن حقّ السوريين في حياة أفضل وفي دولة تعنى بشؤونهم وتقدم الخدمات لهم ويشاركون في إدارتها ويعبرون عن أنفسهم فيها بأصواتهم.
إذا كان التحليل السياسي بوصلة مهمة السياسيين، فإن الإنسانية هي البوصلة الأهم لكل البشر.
وفي ظل هذا الانكفاء على التحليل السياسي من قبل الزعماء والقادة، والتجاهل لإنسانية الشعوب المظلومة في سوريا ومصر وبورما وأفريقيا الوسطى وغيرها، أذكّر بالمادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق. وقد وهبوا عقلاً وضميرًا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء”، وبالمادة الثامنة والعشرين “لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاما”.
يصل الأستاذ يزيد صايغ في مقالته إلى نتيجة مفادها أن المجتمع الدولي يفتقر لأي نية في نصر الثورة السورية، ويرى أن على السوريين إيجاد بديل عن المعارضة الموجودة بشقيها العسكري والسياسي، وفي ذلك يقول: “تبقى الثورة الديمقراطية حقيقة واقعة يستمر الكثير من السوريين في النضال من أجلها. ومع ذلك، فقد لا يتحقق أي بديل جديد إلى أن تخسر المعارضة السياسية القائمة والتمرد المسلح الحالي المعركة. هذه بالطبع نظرة سوداوية. غير أن الوقت الذي كان يمكن فيه إلحاق الهزيمة بالأسد بواسطة قيادة معارضة غير كفؤة وحركة تمرد ممزقة، قد انتهى”.