بدأ الاحتلال الإسرائيلي واستمر في انطلاقه نحو الاقتصاد العالمي بعد موجة الإصلاح الداخلي في الثمانينيات بعد عملية السلام العربية، معتمدًا على الشركات الناشئة Start-Up Nation، ويحمل المصطلح دلالة الشركات الصاعدة الناشئة ضمن سياسة الابتكار والتقانة العالية، فحجم شركات الاحتلال الإسرائيلي المسجلة في البورصة الأمريكية أكبر من حجم الشركات الأوروبية مجتمعة.
وقد وركز الاحتلال الإسرائيلي على مؤسسة الجيش كمخزن أساسي للأفكار البذرية لتلبية حاجة دول كثيرة في التقانة العالية، وقد فاق بذلك مستوى الابتكار في الجيش الأمريكي الذي رفع تكلفة التطوير والبحث في الذكاء الاصطناعي قبل عامين في الجيش الأمريكي لتصل إلى 1.75 مليار دولار خلال السنوات القادمة، ولكنها لا تستثني التعاون المشترك بين الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية.
الشركات الناشئة العمود الفقري للاقتصاد العابر والعلاقات السياسية
“مستقبل المنطقة يعتمد على تعليمنا لشعبنا الشاب كيف يخرج وينشئ الشركات” هذه المقولة التي يبني عليها الاحتلال إستراتيجيته في إدارة علاقاته الاقتصادية العالية بينه وبين الدول، لذلك لا عجب أن ترى أكبر رواد الأعمال المجازفين يهودًا ابتدأوا شركاتهم البسيطة من نواة إبداعية تمت داخل الكيان ثم تحولت داخل النظام العالمي، وكل النجاحات بدأت من إنشاء شركات إبداعية خاضت في المغامرة العالمية والنظام الاقتصادي التقني برأس مال مغامر، وبوسائل أقل تكلفة لأداء الأعمال التجارية وإنشائها، وحداثة التقانة المنتجة.
يمكننا الاستدلال بما قاله سيرجي برين أحد مؤسسي شركة google: “لو كان هناك فقاعة إنترنت في “إسرائيل”، فعندئذ يكون يوسي فاردي هو الفقاعة”، فاردي الذي ساهم في إحياء الاحتلال الإسرائيلي من ركام صدمة سوق التكنولوجيا عام 2000 أصبح اسمه مرادفًا لعالم شركات الإنترنت الناشئة داخل الاحتلال الإسرائيلي، عبر برنامج ICQ برنامج التراسل الفوري على الإنترنت الذي أسسه ابنه آريك فاردي وثلاثة من زملائه في أوائل العشرينيات من عمرهم.
لقد كان البرنامج واحدًا من أشهر برامج الدردشة العالمية وأصبح فيما بعد واحدًا من مجموعة الشركات التي غيرت وجه التكنولوجيا للأبد، انطلق عام 1996، وتم بيع البرنامج في منتصف العام 1998 بعد أن حقق 12 مليون مستخدم حيث اشترته شركة AOL بمبلغ 407 ملايين دولار كأكبر مبلغ يدفع وقتها لشركة تقنية داخل الاحتلال الإسرائيلي.
يقوم نشاط المنطقة العربية الأساسي على إنتاج وتقنية الهيدروكربونات – في إشارة للنفط والغاز – حيث تنتج ثلث إنتاج العالم من النفط و15% من إنتاج العالم للغاز
وقد ألهم البرنامج بعد أن أصبح ظاهرة وطنية داخل الاحتلال الإسرائيلي الشباب ليصبحوا روادًا للأعمال، حاجة العالم الجديد للتقانة يعني حاجته للشركات الناشئة التي بنى الاحتلال عليها إستراتيجيته الاقتصادية خصوصًا في مجالي التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بتقاطعاته الطبية والزراعية والعسكرية.
تقاطعات مهمة مع الاقتصاديات العربية
يقوم نشاط المنطقة العربية الأساسي على إنتاج وتقنية الهيدروكربونات – في إشارة للنفط والغاز – حيث تنتج ثلث إنتاج العالم من النفط و15% من إنتاج العالم للغاز، وإجمالي الصادرات غير النفطية بالنسبة لعدد سكان المنطقة العربية المقدر بـ225 مليون فرد هو أقل من فنلندا التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين فرد، وتكمن الإشكالية العربية في الانفجار الديمغرافي أو القنبلة السكانية الموقوتة، فنحو 70% من سكان المجتمع العربي تحت سن الخامسة والعشرين ما يعنى حاجتهم لـ80 مليون وظيفة بحلول عام 2020 لا يستطيع القطاع العام خلق هذه الفرص.
هناك نماذج عربية حققت نجاحًا من رواد أعمال وأذكياء كشركة آراميكس في الأردن وأوراسكوم في مصر وهي شركات عائلية في أساسها، لكن هناك أسباب مهمة يجب فهمها مقارنة بالاحتلال الإسرائيلي، أولها اقتصاديات العالم العربي النفطي أعاق تحقيق نمو عال للعمل الريادي، ثانيها قوة الحكومات الاستبدادية دون الدخول في إصلاحات لازمة ينتج عنها الحق بإمكانية الوصول إلى البيانات الاقتصادية الحكومية، التي تعتبر مهمة جدًا لبيئة الثقة التي يزدهر بها المستثمرون ورواد الأعمال، وهو ما نسميه مشكلة “الملك” وفق رؤية العالم السياسي صاموئيل هنتينغتون، أو مشكلة “الشيخ”.
اعتمد الاحتلال الإسرائيلي على نظرية المحور والأضلاع في بناء منظومته الاقتصادية الصاعدة من خلال تقسيم العمل
كان الأمر مختلفًا في الاحتلال الذي ركز على حرية كبيرة في السوق وقدرة الشركات الناشئة في الاندماج في الوسط الاقتصادي العالمي، ثم حرية الوصول للبيانات الاقتصادية الحكومية، وعدم التركيز على القطاع العام، خصوصًا أن الكيان الإسرائيلي ليس مكانًا نفطيًا، ولا لدى الاحتلال الإسرائيلي القدرة لخوض تجربة الصناعات الكبيرة لتصدير الغاز عبر حقول المتوسط التي ما زالت بكرًا.
المحور والأضلاع.. كيف يبني الاحتلال علاقاته الاقتصادية؟
اعتمد الاحتلال الإسرائيلي على نظرية المحور والأضلاع في بناء منظومته الاقتصادية الصاعدة من خلال تقسيم العمل، حيث يتخصص وفقها المركز بإنتاج السلع الصناعية ذات الكثافة الرأسمالية والتقنية المتقدمة والأثمان العالية “وادي السليكون في تل أبيب”، وتتخصص الأطراف في صناعة السلع الزراعية والمواد الأولية ذات الكثافة العمالية العالية والأسعار الرخيصة في الشمال والجنوب داخل الاحتلال الإسرائيلي، وما يريد تقديمه الاحتلال الإسرائيلي مع محيطه العربي منذ اتفاقية كامب ديفيد 1979 ووادي عربة 1994 في كل من مصر والأردن على التوالي هو ضمن النظرية الاقتصادية دفع عملية التنمية بواسطة القوة الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي في كلتا الدولتين.
عملية السلام بين الاحتلال الإسرائيلي من جهة ومصر في كامب ديفيد 1979، والأردن في وادي عربة 1994 هي التي مكنت الاحتلال من عمل إصلاحات اقتصادية قوية في الثمانينيات والتسعينيات، كما مكنته من الاستقرار السياسي الذي شجع المستثمرين على المغامرة، ورفع اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي.
الاحتلال يقدم عبر أنظمته المعلوماتية الاستخباراتية تعاونًا مهمًا على الصعيد الداخلي والخارجي يضمن كشف أي تهديدات تلحق بالمسؤولين العرب، وهنا يمكن مقارنة دور الاحتلال الإسرائيلي في دعم كثير من زعماء الدول اللاتينية بالأسلحة الحديثة والتقارير الاستخباراتية لبقائهم في الحكم
وهذا ما يفكر به الاحتلال الإسرائيلي في سعيه للتطبيع الاقتصادي مع العرب، أولًا: تأمين وسط محيط مقبول وآمن عربيًا يشجع المستثمرين أكثر، ثانيًا: حاجة المحيط العربي لتقانة حديثة فيما يتعلق بالزراعة وأساليبها والطب خصوصًا، وهو ما يعالج مؤقتًا مشكلة خلق الوظائف، لكن ذلك سيجعل هذا المحيط العربي “الأضلاع” في علاقة وحاجة دائمة للاحتلال الإسرائيلي “المركز”، صحيح أنه يحل إشكاليات عديدة بحاجة إليها المستوى الرسمي العربي فيما يتعلق بالبطالة وتخفيض تكلفة الإنتاج، لكنه يعطي استقطابًا حادًا للعرب وانتشارًا أسرع للاحتلال.
وتنتج ثالثًا عن حاجة المستوى الرسمي العربي للأمن بما يضمن بقاء الحكام على الكرسي، فالاحتلال يقدم عبر أنظمته المعلوماتية الاستخباراتية تعاونًا مهمًا على الصعيد الداخلي والخارجي يضمن كشف أي تهديدات تلحق بالمسؤولين العرب، وهنا يمكن مقارنة دور الاحتلال الإسرائيلي في دعم كثير من زعماء الدول اللاتينية بالأسلحة الحديثة والتقارير الاستخباراتية لبقائهم في الحكم.
هذه الحالة “المحور والأضلاع” لا يمكن إسقاطها على تركيا التي تدخل بشراكة اقتصادية كبيرة، وتفاعلات الشراكة غير قائمة على المحور والأضلاع بقدر ما هي قائمة على تعزيز الدورين، كذلك إندونيسيا والهند، ولا يمكن إغفال البُعد الديمغرافي في حاجة البلدين الآخرين لاقتصاديات أكثر أمانًا وتقدمًا، يمكن متابعة الشكل التالي لمعرفة حركة الصادرات والواردات بين الاحتلال الإسرائيلي ودول العالم عام 2017.
مشكلة الاقتصاد في الاحتلال الإسرائيلي
يمكننا القول إن الاقتصاد في الاحتلال الإسرائيلي ولد بالتزامن مع اقتصاد الإنترنت أو تقانة المعلومات، وتنمية رأس المال المخاطر، اعتمد على برنامج “يوزما” الحكومي، أو المبادرة بالعبري، وفكرته أن تقوم الحكومة الإسرائيلية باستثمار 100 مليون دولار لإنشاء 10 صناديق استثمارية، واعتمد أيضًا على موجة الهجرة الضخمة من الاتحاد السوفيتي، لكن التذبذب في سوق الشركات التقنية هو الخطر الأكبر التي يواجهه الاحتلال، ففي عام 2000 وصلت الصادرات إلى 13 مليار وانخفضت في 2003 إلى 11 مليار دولار، وصعدت في 2008 إلى 18 مليار، وهذا ما ينعكس على رأس المال المخاطر في الاحتلال الإسرائيلي، فهي تعتمد بشكل مفرط على أسواق التصدير التي تجلب أكثر من نصف الدخل القومي من صادرات لأوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا، وبسبب المقاطعة العربية للاحتلال يتعذر عليه الوصول إلى معظم الأسواق الإقليمية، وسوقه المحلية صغيرة لا تصلح لأن تكون بديلًا.
إن حالة اللاأمن والمقاطعة العربية ضرورية جدًا للفلسطينيين، حيث تجبر المستثمرين أو رأس المال المخاطر على الرحيل من ناحية، ومعهم ساكنو الاحتلال الإسرائيلي الأكثر موهبة، وهو ما تحدث به دان بن ديفيد أستاذ الاقتصاد في جامعة تل أبيب حيث قال: التهديد الأكبر الذي يواجه “إسرائيل” هجرة الأدمغة من الجامعات الإسرائيلية”.
هنا يمكن معرفة حاجة الاحتلال الإسرائيلي لتكوين علاقات اقتصادية حتى لو كانت مخفضة مع محيطه العربي، عبر خلق عدو مشترك “إيران النووية” وهو ما يروج له الاحتلال على سبيل المثال في المخاطر التي تلاحق مشروع نيوم السعودي 500 مليار دولار أهمها خوف المستثمرين من حالة عدم الاستقرار نتيجة الشبح الإيراني.
حاجة الاحتلال الإسرائيلي للأمن ضرورية مثل حاجته لخلق أسواق اقتصادية أو علاقات اقتصادية، وحاجته لأن يكون مقبولًا في وسطه الإقليمي تعني صعوده للمركز
وفي سياق متصل يسعى نتنياهو لأن يصبح الاحتلال الإسرائيلي من أغنى 15 بلدًا في الناتج المحلي الإجمالي للفرد، وهذا يعتبر تحديًا كبيرًا في ظل البنى التحتية المتدنية في الاحتلال، ما يفسر حاجته للشراكة ضمن الصناعات الكبرى، فالاحتلال الإسرائيلي لا يملك اقتصادًا يعتمد على الصناعات الكبيرة، لذلك تعاقدت شركة “نيشر” الإسرائيلية للإسمنت بشراكة دائمة مع شركات تركية في مصانع خارج الكيان، في البلقان مثلًا، لتحاول تحقيق معايير الجودة التي يضعها الاتحاد الأوروبي، وكذلك في مجال الطاقة، فالاحتلال الإسرائيلي ما زال يعتمد على الطاقة الأولية كالفحم الحجري في عمل محطات توليد الكهرباء كمحطة كهرباء عسقلان.
أو في الاتصال عربيًا وإقليميًا بشبكات المواصلات العربية مثل خط السكة الحديد والقطارات السريعة، ومع انخفاض النمو في الاقتصاد العالمي من نحو 3.5% إلى 2% في السنوات الأخيرة يرجع ذلك أساسًا في الاقتصادات الناشئة سريعة النمو كالهند والصين، نرجئ حاجة الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة شرق آسيا بالأساس، إندونيسيا والهند في المقام الأول، وهو ما يفسر الزيارة الأخيرة لنتنياهو شخصيًا المحملة بمشاريع التقانة الحديثة للهند، أو محاولات التقارب مع إندونيسيا بأي شكل آخرها إلغاء أشكال الحظر على السياح كافة.
خلاصة القول إن حاجة الاحتلال الإسرائيلي للأمن ضرورية مثل حاجته لخلق أسواق اقتصادية أو علاقات اقتصادية، وحاجته لأن يكون مقبولًا في وسطه الإقليمي تعني صعوده للمركز، ما يتحقق في ظل انعدام الحرية السياسية والمعلومة الاقتصادية الحكومية العربية الحقيقية.