قبل عدة أيام نشر “نون بوست” تقريرًا كشف مخطط الإمارات لتركيع سلطنة عمان ومعاقبتها بشأن موقفها – المحايد – حيال الأزمة الخليجية الأخيرة الذي لم يرق للمحمدين (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد)، استنادًا إلى مجموعة من الوثائق المسربة من السفارات الإماراتية في كل من مسقط والخرطوم والرباط وبغداد التي نشرتها “الأخبار” اللبنانية قبل أسبوع تقريبًا.
وفي الحلقة الثانية من هذا الملف نلقي الضوء على حزمة جديدة من تلك الوثائق، لكنها هذه المرة من سفير الإمارات في الخرطوم حمد محمد الجنيبي الذي أقر خلالها أن بلاده بمشاركة السعودية لم تتركا نظام الرئيس السوداني عمر البشير حتى دفعتاه دفعًا نحو تبديل تموضعه الإستراتيجي من حكومة صديقة لإيران وداعِمة للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، إلى أخرى مرتمية في حضن “الاعتدال” ومستميتة لنيل الرضا الأمريكي.
الوثائق كالعادة تفند وبشكل قاطع ما عزفت عليه أجهزة إعلام دول الحصار مرارًا وتكرارًا، داخليًا وخارجيًا، بشأن صغر حجم “قضية قطر” كما جاء على لسان وزير خارجية الرياض، هذا بخلاف ما تبعثه من دلائل ومؤشرات بشأن الأهداف الحقيقية وراء تلك الأزمة المفتعلة التي تظهر الحقائق يومًا تلو الآخر أنها أكبر من تهم الإرهاب أو التدخل في شؤون الدول الأخرى، وهي الحجج التي ساقتها العواصم الـ4 لتبرير موقفها.
موقف سوداني مرتبك
في وثيقة مؤرّخة بـ13 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 تحمل عنوان “علاقات السودان وقطر في ظل المقاطعة” قال الجنيبي معلقًا على موقف السودان من الأزمة الخليجية “دخل لاعبون جدد في علاقات السودان هم الإمارات والسعودية، لتشهد علاقاتهما مع السودان نقلة نوعية استطاعا من خلالها جر السودان إلى مربع الاعتدال من خلال جهود دبلوماسية لدعمه والتعاون معه في العديد من الملفات، وأهمها ملف رفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة، ونجحت تلك الجهود حتى وصل السودان إلى مرحلة إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية، ومن ثم قطع العلاقات مع إيران، والمشاركة الفعالة في عاصفة الحزم… (و) إعلان إنكاره لأي علاقة تربطه بتنظيم الإخوان المسلمين العالمي”.
لكن يبدو أن مرحلة الاستئناس لم ترق كثيرًا للسودانيين، إذ شهد الموقف الرسمي للخرطوم بعض التباينات والتغيرات التي أثارت قلق أبو ظبي والرياض على حد سواء، وأثارت الشكوك لديهما بشأن إمكانية استمرار الدولة الإفريقية على موقفها السابق، وهو ما كشفه سفير الإمارات في السودان حين أشار إلى أنه يبدو من خلال الأحداث الأخيرة أن السودان قد عاوده الحنين إلى ميوله القديمة والنَّفَس الإخواني الذي ظل يلازمه في الفترة الماضية، كما يبدو أن محاولات إصلاح النظام السوداني قد عادت إلى المربع السابق، مستشهِدًا بمجموعة مؤشرات من بينها زيارة البشير إلى قطر ثم زيارة وزير المالية القطري إلى الخرطوم اللتين يعدهما مؤشرًا إعلاميًا يحمل دلالات سياسية في تحدي دول المقاطعة.
أشار الدبلوماسي الإماراتي إلى أن دخول قطر في إدارة هذا الميناء (بورتسودان) بما يمثل استفزازًا في ظل الأزمة مع قطر
دلالة أخرى أثارت الشكوك لدى السلطات الإماراتية حيال موقف الخرطوم كشفتها الوثيقة ذاتها، وهي ما يتعلق بدوافع الإطاحة بالمبعوث الرئاسي مدير مكتب الرئيس عمر البشير الفريق طه عثمان الذي كان له دور محوري في تعزيز العلاقات السودانية – الإماراتية، حيث علق السفير الإماراتي على هذه الخطوة بقوله إن السودان حاول في بداياتها (أي الأزمة) أن يتخذ موقف الحياد وسعى إلى الاحتماء وراء المبادرة الكويتية ونجح إلى حد ما، ولكن جاء قرار إبعاد المبعوث الرئاسي الفريق طه عثمان الذي تقول المصادر إنه حصل بناءً على نصيحة قطرية.
قرار الإبعاد الذي اتخذ في يونيو/حزيران 2017 أثار الكثير من التكهنات بشأن خلفياته، خاصة أن عثمان الذي يوصف بـ”رجل الظل” كانت له بصمته في قرار حظر المراكز الثقافية الإيرانية والحسينيات في السودان، ولعل ذلك هو ما دفع الجنيبي إلى اعتبار إقالته أمرًا مقلِقًا.
التقارب القطري السوداني أثار الشكوك لدى كل من أبو ظبي والإمارات
وفي وثيقة اخرى مؤرّخة بـ16 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 تحمل عنوان “السودان تقبل عرض قطر لإدارة ميناء بورتسودان وترفض عرض موانئ دبي”، أشار الدبلوماسي الإماراتي إلى أن دخول قطر في إدارة هذا الميناء (بورتسودان) يمثّل استفزازًا في ظل الأزمة مع قطر.
ميناء بورتسودان الواقع على الساحل الغربي للبحر الأحمر من الواضح أنه يشكل أهمية كبرى لدى أبو ظبي، إذ كان محور وثيقتين من الوثائق المسربة من السفارة الإماراتية في الخرطوم، حيث يشير السفير في تلك الوثيقة إلى أن إعلان وزير النقل السوداني مكاوي محمد عوض الاتفاق مع الحكومة القطرية على تطوير ميناء بورتسودان، ورفض طلب “موانئ دبي” إدارة الميناء، معللًا ذلك بأسبقية الطلب القطري، أثار قلق الإماراتيين بصورة كبيرة.
الحكومة السودانية توصلت إلى اقتناع بأن المبادرة الكويتية لم تعد مقبولة لدى دول المقاطعة، لذلك ابتعدت عن الاحتماء بها أو تأييدها
أما الوثيقة الثانية التي عنون لها بـ”معلومات عن موضوع إدارة ميناء بورتسودان ومكتب البشير يقترح لقاء موانئ دبي” فينقل خلالها الجنيبي عن مدير إدارة الشؤون العربية في وزارة الخارجية السودانية أحمد يوسف محمد تبريره ما جرى بأن الإعلان السوداني نقل تصريحات الوزير بشكل غير صحيح، وأن الاتفاق مع قطر لا يتعلق بميناء بورتسودان، وإنما بميناء سواكن الذي يبعد 25 كيلومترًا جنوب بورتسودان وهو ميناء خاص بالحاويات، مؤكدًا أن الحكومة السودانية حريصة على أن ترسي المناقصة (مناقصة بورتسودان) على مجموعة موانئ دبي العالمية وأنه لا توجد شركة منافسة لها على مستوى هذه المناقصة.
الدبلوماسي الإماراتي نقل كذلك عن مدير مكتب الرئيس السوداني حاتم حسن بخيت أن مكتب سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان استفسر عن مدى جدية الجانب السوداني في قبول عرض موانئ دبي، وأن بخيت عرض الأمر على الرئيس البشير الذي اقترح حضور سعادة الرئيس التنفيذي لشركة موانئ دبي لمقابلته شخصيًا في الفترة التي تناسبه بين يومي 27 – 28 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 لحسم الأمر نهائيًا.
رفض الوساطة الكويتية
في وثيقة مؤرخة بـ19 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وحملت عنوان “محضر لقاء السفير مع مدير مكتب الرئيس السوداني”، أورد السفير الإماراتي أبرز ما قاله وزير الدولة ومدير مكاتب الرئيس السوداني حاتم حسن بخيت خلال اللقاء الذي جمعهما، ومنها أنه ذكر أن الرئيس البشير يحرص على أن ينقل للقيادة في الإمارات والسعودية أن الذي يمثل السياسة الخارجية للسودان هو شخصيًا، وأن الحكومة السودانية تؤكد أن مساعد الرئيس إبراهيم السنوسي التابع لحزب المؤتمر الشعبي (حزب الترابي) ليس له أي سلطة أو قرار في السودان، ووجوده في الحكومة جاء من خلال الحوار الوطني الذي جرى أخيرًا، وليس لديه سوى ملف صغير يتعلق بالتنمية بين الدول الإفريقية، وبالتالي فإن موقف السودان الثابت هو موقع محايد من الأزمة في قطر.
السفير الإماراتي في الخرطوم اتهم حكومة البشير بأنها تمارس المناورة في استمرار تعزيز علاقاتها مع الدوحة تحت أكثر من عنوان ومنها إدارة بورتسودان
الوثيقة نقلت كذلك عن بخيت قوله إن الحكومة السودانية توصلت إلى اقتناع بأن المبادرة الكويتية لم تعد مقبولة لدى دول المقاطعة، لذلك ابتعدت عن الاحتماء بها أو تأييدها، وذكر أن السودان توصل إلى اقتناع بأن موقع دول الخليج من قطر هو مقاطعة طبيعية وليست حصارًا، وأنهم وجهوا الإعلام السوداني بعدم الحديث عما يسمى الحصار، حسب الزعم القطري.
كما استعرض تداعيات الأزمة الخليجية على المصالح السودانية، إذ إنه وبحسب ما ورد في الوثيقة نقلًا عن مدير مكتب الرئيس السوداني، فإن الأزمة أوقفت مصالح السودان في ظل أزمة حقيقية تتعلق بشح العملة، وزيارة الرئيس السوداني لقطر كانت من أجل مناقشة العلاقات بين البلدين وملف إعمار دارفور من خلال بنك دارفور المزمع إنشاؤه حسب اتفاق الدوحة الذي يبلغ رأسماله ملياري دولار، كما أن السودان يأمل أن تساهم قطر في ضم الفصيلين الكبيرين في دارفور – وهما حركة العدل والمساواة وجماعة مناوي – إلى ملف السلام، وقال إنهم أطلعوا الإمارات والسعودية للعلم بالزيارة وأهدافها في حينه.
إبعاد الفريق طه عثمان أقلق الإماراتيين
الضغط على الخرطوم
الجنيبي لم يحسم بعد تشخيص موقف الخرطوم حيال الأزمة الخليجية، واصفًا إياه بـ”المرتبك” و”المعقد”، رابطًا تموضعه الجديد بالأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد، ما دفع الكثير من المراقبين إلى تفسير هذا الموقف بأنه وبحسب الوثيقة الأولى محاولة للعب على الحبلين طمعًا في الحصول على المزيد من المكاسب من الدول المقاطعة لقطر، أو الأمل بأن تكون خطوط المصالح على مستوى مستقيم مع كلا الجانبين (السعودية والإمارات من جهة وقطر من جهة أخرى).
إلا أنه وفي وثيقة أخرى مؤرخة في 19 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تحمل عنوان “محضر لقاء السفير مع مدير مكتب الرئيس السوداني” (19 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017)، اتهم حكومة البشير بأنها تمارس المناورة في استمرار تعزيز علاقاتها مع الدوحة تحت أكثر من عنوان ومنها إدارة بورتسودان.
وأمام ما وصفه الدبلوماسي الإماراتي بـ”الخداع” أوصى بممارسة الضغط على حكومة البشير التي تقف متأرجحة في موقفها من الأزمة مع قطر، هذا الضغط اتخذ أشكالاً عدة وفي مناسبات متفاوتة، منها على سبيل المثال الامتناع عن إغاثة الخرطوم تزامنًا مع أزمة الوقود الأخيرة، فضلًا عن التلويح بوقف المعونات والمساعدات المقدمة، هذا بخلاف الورقة الأكثر حضورًا التي تملكها السعودية على وجه الخصوص والمتعلقة بدورها المحوري في التوسط لرفع العقوبات المفروضة على السودان أمريكيًا.
لكن من باب المناورة التي وصفها السفير الإماراتي لوح السودان بسحب قواته من اليمن إثر تلك الأزمة، وهو ما كان بمثابة الصدمة لكل من أبو ظبي والرياض على حد سواء، خاصة بعد الخسائر التي مني بها التحالف العربي طيلة السنوات الـ3 الماضية.
التلويح السوداني استنفر السلطات السعودية والإماراتية وحملهما على اتخاذ خطوات إنقاذية، ومن ثم التراجع عن خطوة وقف الإغاثة المقدمة للسودانيين، لتعود العلاقات مجددًا وإن كانت محكومة بالمصلحة المتبادلة، فنظام البشير يعلم جيدًا الحاجة السعودية والإماراتية لجنوده في اليمن ودعم نفوذهما في إفريقيا، ومن ثم يعزف على هذا الوتر جيدًا، ويحقق من خلاله أكبر قدر من المكاسب، وفي المقابل يعي المحمدان أن الضغط المتواصل على حليفهما الإفريقي قد يولد الانفجار وهو ما يعني خسارة فادحة وهزيمة تحسب لصالح المحور الآخر بقيادة تركيا وقطر.