طمس التاريخ.. “زبيد” الأثرية على قارعة الحرب في اليمن

201871813272379636675172430796763

مع اتساع دائرة المعركة في الساحل الغربي لليمن بين الحوثيين والقوات الحكومية المدعومة من التحالف العربي، يقترب خطر المواجهات من مدينة زبيد التاريخية جنوبي محافظة الحديدة التي وصلت اشتباكات المعارك إلى تخومها، في وقت أكدت فيه قيادات في التحالف والشرعية عزمها على انتزاع المدينة الأثرية من سيطرة الحوثيين، ما يعني أن المدينة قادمة على مرحلة من المواجهات والقصف المتبادل ما يهدد بمحو جزء كبير من معالمها الأثرية التي قاومت الاندثار لقرون طويلة.

زبيد.. جوهرة تهامة

جغرافيًا تقع زبيد في الجزء الجنوبي من محافظة الحديدة، إلى الشرق من مديرية “التحيتا” التي كانت طيلة الفترة الماضية مسرحًا للاشتباكات بين الحوثيين والقوات المشتركة التابعة للتحالف العربي، وتقدر مساحتها الإجمالية بنحو 245 هكتارًا، وتبعد عن ساحل البحر الأحمر 25 كيلومترا تقريبًا.

C:\Users\Lenovo\Desktop\صور زبيد\2018_3_3_12_55_10_171.jpg

وتتوسط زبيد واديين زراعيين هما وادي “رماع” من جهة الشمال ووادي زبيد من جهة الجنوب ومنه أخذت المدينة اسمها الحاليّ، نسبة إلى زبيد الأصغر بن ربيعة أحد أسباط “مذحج” الذي يمتد نسبه إلى كهلان بن سبأ (من القحطانيين)، وتبعد زبيد عن مدينة الحديدة قرابة 95 كيلومترًا فقط، بينما تبعد عن العاصمة صنعاء نحو 233 كيلومترًا.

أما سكانها فيبلغ تعدادهم زهاء 30 ألف نسمة، ينتمون إلى قبيلة “الأشاعرة” وهي ذات القبيلة التي جاء منها الصحابي أبو موسى الأشعري صاحب الفضل في إسلام قومه، حين قَفِل عائدًا إليهم من المدينة المنورة يدعوهم إلى الدين الجديدة فأسلموا جميعًا على يديه، وبنى لهم جامعًا سمي بـ”جامع الأشاعرة” في السنة الـ10 للهجرة، لا يزال موجودًا حتى الآن، إذْ يعد أول مسجد بني في تهامة وثالث مسجد في اليمن، سبقه جامع صنعاء الكبير الذي بناه الصحابي على بن أبي طالب وجامع “الجَنَدْ” الذي بناه الصحابي معاذ بن جبل، كما تضم مدينة زبيد القديمة نحو 2400 منزل تقليدي، يصل تاريخ بناء بعضها إلى 6 قرون.

C:\Users\Lenovo\Desktop\صور زبيد\349.jpg

أول مدينة إسلامية في اليمن

تعد مدينة زبيد أول مدينة إسلامية بنيت في اليمن في بداية القرن الـ3 الهجري، بأمر من الخليفة العباسي المأمون ابن هارون الرشيد، وكانت قبل ذلك لا تتعدى 3 قرى فقيرة في هامش السهل التهامي، ثم غدت بعد ذلك مدينة ذائعة الصيت وقبلة لطلاب العلم من أنحاء اليمن كافة.

C:\Users\Lenovo\Desktop\صور زبيد\2af9c45b4f3f0f42d0126c589d3515f2661edf0f.jpg

سياسيًا ظلت زبيد لقرون عاصمة لعدة دويلات حكمت اليمن، بدءًا من الدولة الزيادية (بني زياد 204 هـ) وما تلاها من دويلات متعاقبة مثل الدولة النجاحية (بني نجاح 412 هـ) والدولة المهدية التي استأثرت بالحكم بعد انفراط عقد النجاحيين سنة 536 هـ، وبعد ذلك تعاقب على حكمها الطاهريون والرسوليون والأيوبيون والمماليك وصولًا إلى العثمانيين الذين ظلت زبيد تحت حكمهم حتى أفول العهد العثماني في اليمن عام 1918.

تضم المدينة نحو 85 مدرسة، تُدرَّس فيها مختلف العلوم الفكرية والدينية وفقه المذاهب الأربعة ما جعلها تتبوأ مكانًا علميًا مرموقًا على مستوى العالم الإسلامي

وقد أدرجت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم “يونسكو” المدينة عام 1993 ضمن قائمة التراث العالمي، ثم جرى تصنيفها ضمن المدن التاريخية العالمية في مارس/آذار 1998، نظرًا لكونها موقعًا أثريًا وتراثيًا مهمًا، تتميز بعمارتها الإسلامية وأسوارها العتيقة ومساجدها وقبابها ومخطوطاتها النادرة، حيث ظلت منارًا ثقافيا وعلميًا يؤمها الدارسون وطلبة العلم الشرعي على امتداد يربو على 11 قرنًا، وقد وصفها المستشرق الفرنسي بول بوننفال بـ”أكسفورد الشرق” في إشارة إلى مكانتها العلمية.

حيث تضم المدينة نحو 85 مدرسة، تُدرَّس فيها مختلف العلوم الفكرية والدينية وفقه المذاهب الأربعة ما جعلها تتبوأ مكانًا علميًا مرموقًا على مستوى العالم الإسلامي، ولا تزال معظم تلك المدارس مفتوحة حتى اليوم، إلى جانب المساكن المخصصة لطلاب العلم وتسمى بـ”الأربطة”، ومن تلك الأربطة البطاح والمهادلة والأشاعرة والدائرة ورباط الأهدل والخوازم.. وغيرها.

C:\Users\Lenovo\Desktop\صور زبيد\11689993.jpg

كما تزخر مكتباتها بأمهات الكتب والمخطوطات في شتى العلوم، حيث قصدها فطاحلة العلماء الرحالة العرب وكتبوا عنها الكثير مثل ابن بطوط والفيروز أبادي، وجاء منها المرتضى الزبيدي صاحب معجم “تاج العروس” المشهور حتى اليوم.

جحيم الحرب يهدد المدينة

زبيد مدينة العلم والتجارة يبدو أن تاريخها الأصيل لن يشفع لها هذه المرة لتجنيبها خطر الحرب التي أصبحت تقرع أبوابها في معركة الساحل الغربي لليمن بين قوات الشرعية والتحالف من جهة والمسلحين الحوثيين من جهة أخرى، وهو أمر يستدعي القلق إزاء طمس الوجه الحضاري للمدينة وتدمير آثارها ومعالمها في حرب تتجاهل المحاذير والخطوط الحمراء.

القوات الحكومية ومسؤولون في الشرعية طلبوا من المقاتلين الحوثيين أكثر من مرة إخلاء المدينة تحاشيًا للإضرار بمعالمها العتيقة، بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة، فالحوثيون يدركون أنهم يقاتلون في معركة مصيرية في الحديدة التي تعد آخر منفذ بحري لهم على ساحل البحر الأحمر، بالتالي فمن غير المعقول أن يتخلى الحوثيون عن مدينة ذات أهمية بالغة عسكريًا وإستراتيجيًا مثل زبيد مراعاةً لاعتبارات تتعلق بالمحافظة على إرثها التاريخي، حيث إن زبيد تعد البوابة الجنوبية لمحافظة الحديدة الساحلية ولن يتسن للتحالف التقدم شمالًا دون السيطرة عليها.

خلال الأيام الماضية زرعت القوات الموالية للحوثيين عددًا كبيرًا من الألغام والعبوات الناسفة في محيط المدينة وبالقرب من سورها التاريخي، إضافة إلى استحداث مصدات ومتاريس وخنادق جديدة

ناشطون ومنظمات محلية ودولية وهيئات تراثية عبروا عن قلقهم الشديد إزاء المصير المتوقع الذي ستؤول إليه المدينة العريقة في ظل العنت العسكري للطرفين في تحويل مدينة زبيد إلى حلبة للنزال، لا سيما أن القوات التابعة للحوثيين شرعت منذ عدة أسابيع في تعزيز تحصيناتها داخل المدينة بما في ذلك الخنادق والأنفاق، استعدادًا لخوض حرب شوارع للتصدي لأي زحف محتمل للقوات الموالية للشرعية.

فخلال الأيام الماضية زرعت القوات الموالية للحوثيين عددًا كبيرًا من الألغام والعبوات الناسفة في محيط المدينة وبالقرب من سورها التاريخي، إضافة إلى استحداث مصدات ومتاريس وخنادق جديدة، وإدخال آليات عسكرية ومعدات ثقيلة إلى داخل المدينة، في المقابل دفعت القوات الموالية للشرعية بتعزيزات جديدة من ألوية العمالقة وقوات الحماية الرئاسية إلى غربي مدينة زبيد استعدادًا لاقتحامها.

وكانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد دعت في بيان نهاية فبراير/شباط الماضي إلى حماية مدينة زبيد واحترام معالمها، باعتبارها أحد الأماكن التاريخية المدرجة ضمن مواقع التراث العالمي ومحمية بموجب القانون الإنساني الدولي، في حين أكد رئيس بعثة اللجنة الدولية في اليمن ألكسندر فيت أن وصول القتال إلى أبواب زبيد يثير المخاوف من مصير تراثها الثقافي، مطالبًا بتوخي الحذر وتجنب الإضرار بهذا الموقع الأثري والتاريخي البارز.