نشأت دولة الموحدين خلال القرن الثاني عشر ميلادي (القرن السادس هجري) من صلب قبيلة مصمودة الأمازيغية، واستطاعت في فترة وجيزة توحيد بلاد المغرب -من المغرب الأقصى إلى ليبيا- والأندلس تحت راية واحدة للمرة الأولى في التاريخ.
اهتم خليفتها الأول عبد المؤمن بن علي ببناء جيش قوي، وأقرن الخدمة العسكرية بالعلوم التثقيفية، وأنشأ مصانع للأسلحة ودورًا لصناعة السفن الحربية، ما مكّنه من السيطرة على أراضٍ ممتدة ومزاحمة كبرى الدول الموجودة حينها.
كما لم يغفل خلفاء الدولة الموحدية الأوائل الاهتمام بالفكر والثقافة والعلوم الدنيوية والدينية وانشاء المدارس والمساجد، فتحولت كبرى مدن الدولة إلى مراكز علم يحجّ إليها العلماء والفقهاء وطلبة العلم، لنشر العلم أو التزوّد به.
عرفت الدولة أوج قوتها في قرنها الأول، رغم الأخطار المحيطة بها من كل جانب وتنامي أطماع الطامعين بها، لكن ما إن بدأ الصراع على السلطة وسُنّت سنن جديدة لدى الحكام والحاشية -منها خلع الخلفاء وقتلهم والاستعانة بالنصارى ضد الإخوة وأبناء العم-، حتى بدأت الدولة تضعف وتتلاشى.
استغل الأعداء هذا الوضع المشين، ففقد الموحدون في آخر زمانهم بلاد الأندلس لفائدة النصارى وبني الأحمر وأشياع أخرى، فيما انفصل الحفصيون في أفريقيا وأعلنوا دولتهم المستقلة، وبني زيان في المغرب الأوسط، ولم يبقَ للموحدين في المغرب إلا العاصمة مراكش وبعض القرى المجاورة.
وكان انهيار دولة الموحدين في عهد الخليفة أبو العلاء إدريس، المعروف بأبو دبوس، فقد قُتل على يد بني مرين، وكان قبل ذلك استنجد بهم لقتال الخليفة الذي سبقه (المرتضى لأمر الله)، وعلى إثر وفاته سيطر بنو مرين على مراكش وما جاورها وضمّوها إلى سلطانهم.
حكم أبو دبوس
مثّلت فترة حكم الخليفة المرتضى التي استطالت نحو 19 عامًا، وهي فترة لم يحكم أكثر منها سوى مؤسس الدولة عبد المؤمن بن علي وابنه أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، أصعب حقبة زمانية عرفتها دولة الموحدين.
خلال تلك الفترة غضّت الدولة الطرف عن الأندلس وعجزت عن استرجاع أراضيها في المغرب الأوسط وأفريقيا، واشتدّ ساعد بني مرين وتنامت الثورات الداخلية المناهضة لحكم الموحدين، وتجدد الصراع على السلطة في مراكش.
توقف بنو مرين عن غزو مراكش لكن الحرب هناك لم تنتهِ، إذ استغلّ القائد الموحدي العلاء إدريس بن عبد الله بن أبي حفص بن الخليفة عبد المؤمن هذا الوضع، وثار سنة 663 هجري ضدّ الخليفة الموحدي المرتضى وطلب المساعدة من بني مرين.
بعد سنتين من إعلان تمرده، سيطر أبو دبوس على مراكش ودخلها يوم 22 من شهر محرم خليفة جديدًا للموحدين، ولُقّب بالواثق بالله، فيما اُعتقل الخليفة المرتضى من قبل صهره والي مدينة أزمور، وبعدها قُتل في العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة 665 هجري.
كانت بداية حكم الواثق بالله هادئة بعض الشيء، إذ تواصل تحالفه مع بني مرين واستطاع القضاء على بعض الفتن في مهدها في مراكش وأحوازها، كما وصلته بيعة القائد يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، وتعهُّده بأن يكفيه شر بني مرين.
في ظل هذا الوضع المريح نسبيًا، قرر الخليفة الموحدي الجديد التوجُّه نحو بلاد السوس للقضاء على ثورة علي بن يدر، وفي الطريق انضمت إليه عديد من القبائل، وتمكّن الخليفة بداية من السيطرة على حصن تيزغت المنيع وأسرَ أخت علي بن يدر.
حاصر الخليفة الموحدي حصونًا أخرى في بلاد السوس بهدف السيطرة عليها، لكنه لم يتمكن من ذلك نتيجة قوة دفاعاتها رغم المدد الكبير الذي جاءه من قبل العرب والأمازيغ، فعاد إلى مراكش في موكب عظيم سيكون الأخير في عهد الخلافة الموحدية.
سقوط مراكش
زحف قائد بني مرين أبو يوسف إلى العاصمة مراكش، فاضطربت الأحوال فيها وانقطعت عنها الموارد وقلَّت المؤن، وحتى يُخفف الضغط عنه طلب الخليفة الموحدي من حليفه صاحب تلمسان يغمراسن الإغارة على ملك بني مرين في الغرب.
أمام تحرك يغمراسن، ترك أبو يوسف أمر العاصمة الموحدية مؤقتًا، وسيّر جنوده نحو الغرب للقضاء على حاكم تلمسان، وذلك في منتصف شهر ربيع الأول سنة 666 هجري، والتقى الجمعان في معركة عنيفة بوادي تلاغ، انتهت بانتصار بني مرين، وهزيمة بني عبد الواد وتشتيت شملهم.
بعد قضائه على الخطر المحيط به من الغرب، توجّه قائد بني مرين مرة أخرى إلى العاصمة مراكش، فغزا في طريقه عرب الخلط ثم وادي العبيد ونفذ إلى منازل صنهاجة، وكل قرية أو حصن يقف في طريقه يسيطر عليه ويعيث فيه فسادًا.
أمام اقتراب الخطر، حشد الخليفة أبو دبوس سائر قواته من الموحدين والعرب والأغزاز وبقايا الروم، وخرج من مراكش للقاء بني مرين وردّهم إلى منازلهم فيما وراء وادي أم الربيع، وأمام عظم جيش الموحدين استعمل بني مرين الخدعة للتغلب عليهم.
ارتدَّ بنو مرين نحو الشمال، وسار الجيش الموحدي في أثرهم حتى بلغوا وادي غفو، وهناك وقعت معركة كبرى بين الجيشَين، قُتل خلالها آخر خلفاء الموحدين وقادة دولته، فتشتّت الجيش وسقطت رايته وكان ذلك يوم الثاني من شهر المحرم سنة 667 هجري.
بعد 7 أيام من هذه الهزيمة، دخل قائد بني مرين أبو يوسف مراكش ليعلن نهاية دولة الموحدين وبداية الدولة المرينية التي ستحكم المغرب الأقصى لأكثر من قرين، وتسمّى أبو يوسف بـ”أمير المسلمين”، وتلقى البيعة من العامة والخاصة.
أسباب سقوط دولة الموحدين
استطاعت دولة الموحدين أن توحّد بلاد المغرب والأندلس تحت راية واحدة للمرة الأولى والأخيرة في التاريخ، وتمكنت من المحافظة على استمرارية وحدتها لقرابة القرن ونصف، وأن تكون دولة فاعلة ذات نظام إداري مركزي موحد.
لكن بعد 180 سنة من تأسيسها على يد عبد المؤمن بن علي، سقطت عاصمة حكمها على يد بني مرين، وكان آخر خلفائها أبو دبوس، وجاء سقوط هذه الدولة القوية لأسباب عديدة منها الداخلي ومنها الخارجي.
خارجيًا، اشتدت وطأة حروب النصارى المدمرة ضدّها وتنامي الخطر الصليبي المحدق بها، فضلًا عن تزايد الأخطار في المغرب، فقد أحاط بها بنو مرين والحفصيين وبنو عبد الواد، وتزايدت الثورات من القبائل العربية والأمازيغية ضدّها ومن الأندلسيين أيضًا، وكثرت الأطماع الانفصالية.
أما داخليًا، فقد ساهم الصراع على السلطة وخلع الخلفاء وقتلهم في ضعف الدولة، خاصة بعد وفاة يوسف المستنصر، كما أن تحالف بني عبد المؤمن مع قبائل العرب والأمازيغ وحتى مع النصارى ضدّ بعضهم البعض، قد ساهم في تفكُّك العرش الموحدي وأفول نجمه.
كما أن تولي السلطة من قبل خلفاء صغار السن ساهم في تزعزع الدولة وفقدان هيبتها بين الدول، وساهم هذا أيضًا في سيطرة الأشياخ والفقهاء وبطانة السوء على دواليب الدولة، إذ حكموا لصالحهم ولأهوائهم ومنافعهم الشخصية لا لصالح الموحدين.
فضلًا عن ذلك، عرفت الدولة الموحدية في منتصف عهدها انتشار الفساد الإداري واستبداد الولاة واستقلالهم عن عاصمة الحكم مراكش، وهو ما زاد من تفكُّك الدولة المفكّكة من أصلها، وأعطت الحجّة لعديد الولاة للانفصال.
من الأسباب التي أدّت إلى انكسار دولة الموحدين أيضًا، فكر الأب الروحي للدولة محمد بن تومرت، فكما كان هذا الفكر منطلقًا لبناء الدولة كان سببًا في انهيارها، فهذه العقيدة المتناقضة لم تسلم من النقد بسبب الانحرافات الكثيرة فيها، ما دفع الأهالي إلى التخلي عنها وبالتالي التخلي عن أصحابها.
في عقود حكمها الأخيرة، عرفت دولة الموحدين أيضًا أزمات اقتصادية كثيرة، وانتشرت المجاعات والفقر، كما تفكك النسيج المجتمعي داخلها، في وقت ركّز فيه الخلفاء على صراع من أجل السلطة وكرسي الحكم، ما زاد من تفكُّك دولة الموحدين.
كل هذه الأسباب وغيرها الكثيرة أدّت إلى انهيار الدولة الموحدين وبروز دول صغيرة مكانها، فالحفصيون تمكنوا من أفريقيا، وبنو عبد الواد من تلمسان والمغرب الأوسط، فيما سيطر بنو مرين على المغرب الأقصى، أما الأندلس فقد تقاسمه النصارى وبني الأحمر.
بانهيار دولة الموحدين، فقدَ المسلمون دولة قوية في بلاد المغرب والأندلس، ما مهّد الطريق أمام النصارى للسيطرة كليًا على الأندلس وتزايد أطماعهم بشمال أفريقيا، وتمكنهم من السيطرة على بعض الثغور هناك وتهديد عواصم الإسلام في تلك الربوع.