كيف يمكننا أن نجعل البشر عنيفين بطبيعتهم لكي لا يستنكروا العنف الممارس تجاههم؟ ربما لم يكن الحل الوحيد أمام سياسة المستعمر ليجعل العنف أمرًا طبيعيًا في المجتمعات المُستعمرة جعل المحكومين تحت الاستعمار عنيفين بطبيعتهم، إلا أنه كان الحل الأكثر تأثيرًا على المدى الطويل، وهو كل ما أراده المستعمر من المجتمعات التي سيطر عليها بأن تكون خاضعة للإذلال والمهانة وأن تشعر بأن ذلك أمر طبيعي وفعل تستحقه لأنها غير كفء للمعاملة البشرية العادلة.
هل يمكننا الربط بين العنف بين الأفراد في المجتمع والسلطة التي تحكمهم؟ أو في سياق آخر هل يمكن أن يكون العنف بين الأفراد في المجتمع وسيلة من وسائل إخضاع السلطة لهم من أجل “الطاعة” و”التأديب”؟ كان من حق السلطة وحدها في مختلف أشكالها ومستوياتها بداية من السلطة الاستعمارية وحتى السلطة الأبوية تحديد شكل العنف وتقنينه وجعله مشروعًا وواجبًا لأغراض مختلفة، وهذا يعني أن بإمكان الاستعمار وبإمكان الأب أن يقنع الفرد أو الابن بأن الإذلال والمهانة شيء مشروع بل أمر روتيني في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ربما لن تستطيع الربط بين الحوادث التي تسمعها الآن عن وفاة الأطفال نتيجة التعذيب والضرب المبرح من ذويهم والعقلية الاستعمارية أو “لنفسية الاستعمارية” التي حكمت بلادهم لمئات السنين في الماضي، إلا أنك إن أمعنت النظر ستجد أن للاستعمار دورًا جذريًا في تأصيل العنف في المجتمعات التي استعمرها، وخلق جو من التأقلم مع الإذلال والمهانة من كل أطياف المجتمع، فهذا هو ما أثبتته الدراسات التي استهدف بشكل خاص كل من تعرض للاعتداء الجسدي من الأطفال من ذويهم في المجتمعات التي حفل تاريخها بالاستعمار، لتجد أن هناك علاقة بين العنف الموجود بين الأفراد وسياسة المهانة والإذلال من الُمسَتعمِر.
وجدت تلك الدراسات أن البنية التحتية التي بناها المستعمر في الدول التي استعمرها كان فيها جزء كبير من نظام “تقنين العنف” وتشريع المذلة، وهو ما دفع الأفراد بالتبعية وعلى مدار السنوات الطويلة أن يجدوا في العنف والمذلة أمرًا طبيعيًا يجعلهم يشعرون بأن ذلك ما يستحقونه، وأنهم غير كفء لأي معاملة مختلفة عن ذلك.
ابتدع الفيلسوف المغربي المهدي المنجرة مصطلحًا جديدًا وهو “الذلقراطية”، وهو ما وصفه الأخير بمزيج مركب من الجهل والفقر والشيخوخة في المجتمعات العربية أنتج فيما وصفه هو بالذلقراطية التي تحدث عنها في كتابه “الإهانة في زمن الميغا إمبريالية”، كان هدف الكاتب هنا توضيح الصورة المتردية في العالم العربي ووصف فيها ذل الشعوب العربية لكثير من الدول الغربية التي استهدفت إذلاله لتسيطر عليه اقتصاديًا وعسكريًا في ظل الانهيار الشامل للمؤسسات واتخاذ الحكومات “الخوف” وسيلة للحكم لتهين شعوبها بدورها هي الأخرى.
“لا يمكننا الوصول إلى حالة ذُل أكثر مما وصلنا إليه”
المهدي المنجرة، الإهانة في زمن الميغا إمبريالية
تأديب الأطفال على طريقة الاستعمار
نجح الاستعمار في ضرب كثير من القيم المتأصلة في جذور كثير من الشعوب التي استعمرها، فلا يولد المرء راغبًا في التعنيف والإذلال بل يتعلم ذلك ويتلقنه جيدًا خلال سنوات حياته، وكان المُلقِن أستاذًا ماهرًا، استطاع ضرب القيم التي تُشكل البنية التحتية ووضع بدلًا منها أساسًا غير إنساني يتمثل في تصميم علاقات اجتماعية مبنية على الخوف من الحاكم أو كل من كان في يده السلطة حتى ولو سلطة أبوية، بل وتعتبر الإهانة والمذلة منه أمرًا مشروطًا يحكم العلاقة الموجودة بينهما وهو جزء من سبب وجودها.
ليس من الطبيعي أن يكون جلد الأطفال وتعنيفهم بالضرب إلى حد التعذيب فعلاً ناتجًا عن المحبة والخوف عليهم، إلا أنه كذلك في كثير من المجتمعات التي عاشت عواقب وجود الاستعمار على أرضها لعقود طويلة، فتعتبر التربية العربية للطفل أن التعنيف جزء مهم من تكوين الشخصية وتلقينها الالتزام بالتعليمات والأوامر القادمة من صاحب السلطة، وهو في هذه الحالة الأب أو الأم، وبالتالي يكون الخوف عنصرًا مهمًا في تلك العلاقة، كما يكون التأقلم مع السلوك العنيف ناتجًا لذلك الخوف.
عمل الاستعمار بشكل مستمر على ذلك لخلق شخصية يمكننا وصفها بـ”الشخصية البهيمة”، أو الشخصية التابعة لمُعنفها، التي تجد في التعنيف والإذلال أمرًا متوقعًا في المعاملات الاجتماعية، ولا تتوقع أي معاملة أفضل من ذلك، وذلك لأنه يجد نفسه في الموقف الأضعف بين طرفين يتحلى أحدهما بالقوة وبالتالي فهو الطرف الذي يتحلى بالسيطرة ويضع قوانينه الخاصة في “التأديب”.
تجد الشخصية التي نتحدث عنها هنا في أي علاقة اجتماعية سواء أسرية أم علاقة الفرد بالمجتمع أم علاقة المواطن بالسلطة، أنها لا تستحق المعاملة كالبشر بشكل عادل، ويرى الطرف الآخر من العلاقة هنا، الطرف الأقوى، أنه لا يوجد طريقة معاملة أخرى غير معاملة البهائم من خلال التعنيف والإذلال والتخويف للحصول على النتائج المرجوة، بالضبط كما يخوف أصحاب المزارع الحيوانات والبهائم لكي لا تفر من مزرعته وتخرج منها ويجعلها تتأقلم في ظروف تجعلها معتمدة اعتمادًا كاملًا على مُعنفها ولا تتخيل أي حياة أخرى لا يوجد فيها صاحب تلك السلطة.
لم يكن هناك أي قانون رسمي يستدعى التعنيف والإذلال، بل كانت لتلك السياسة بعدًا اجتماعيًا وشخصيًا أيضًا
يحدث الشيء نفسه مع تربية الأطفال، فيرى كل من عاش التجربة نفسها في الماضي من خلال نظام سياسي استعماري خلق شخصيات متناسخة من “الشخصيات البهيمة” أنه من الواجب عليه فعل الشيء نفسه للسيطرة على أولاده، حتى لو وصل به الأمر إلى التعذيب المستمر المؤدي للوفاة، وعلى الجانب الآخر لن يجد الطفل أنه يستحق معاملة أفضل، وسينضج بالتفكير ذاته بأنه لا يستحق معاملة بشرية وأنه لن يجد قيمة لنفسه إلا حينما يجد نفسه في وضع تسلط سواء من رب العمل أم من شريك الحياة أم من معاملة الأفراد في المجتمع له.
بغض النظر عن الطريقة التي اتبعها الاستعمار في كثير من أنحاء العالم في مدى قسوتها أو شدتها إلا أن الباحثين وجدوا اهتمامًا كبيرًا في وجود عوامل مشتركة كثيرة جدًا بين كثير من الأماكن التي استعمرتها المملكة المتحدة مثل جنوب إفريقيا والهند والدول العربية والعنف الممارس ضد الأطفال والسيطرة عليهم من خلال التخويف والإذلال والتي وصفتها كثير من البحوث بـ”السمة الجهورية للحكم الإمبراطوري” آنذاك.
كان لـ”عنف الدولة” بعدًا شخصيًا لم يكن له وجود حقيقي في القوانين الرسمية ولا في الدستور، حتى ولو كان الهدف منه يخدم المصالح السياسية والقوانين الرسمية، إلا أنه كان في الأساس يستهدف أبعادًا اجتماعية وعنصرية، لم يكن هناك أي مبرر قانوني يستدعي العنف والإذلال والمهانة، إلا أنه كان سياسة شبه يومية لكل الكيانات الاستعمارية، كانت سياسة لها أهداف طويلة الأجل نفذت وهم على دراية كاملة بأنها لا تؤثر على الجيل الحالي والذي يليه فقط، بل ستؤثر على الجميع في كل وقت وزمان كما هو الحال مع قطيع الحيوانات وصاحب المزرعة.