لم يمض أكثر من سبعة أشهر على تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للجمعية العامة للأمم المتحدة بوقف تمويل بلاده لأنشطة المنظمة الأكبر في العالم، بسبب تكتل الدول الأعضاء ضد قرار أمريكا بنقل سفارتها إلى القدس لتعزيز شرعية الوجود الإسرائيلي في المدينة، ليخرج الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قبل أيام ويؤكد أن المنظمة تمر بوضع حرج للغاية وأزمات اقتصادية حادة غير مسبوقة.
“ليس مقبولاً أن تتحمل دولة واحدة القسط الأكبر من الأعباء المالية للأمم المتحدة التي يجب أن تركز على الناس أكثر من تركيزها على البيروقراطية”، من خطاب للرئيس دونالد ترامب في الأمم المتحدة بتاريخ 18 من سبتمبر 2017.
كان المال طريق ترامب لابتزاز الأمم المتحدة حتى قبل إعلان تنصيبه رئيسًا لأمريكا، فإما مباركة خطى بلاده في الإجراءات التي سيتخذها حال نجاحه ضد المجتمع الدولي في الاقتصاد والسياسة، لتعزيز مكانة أمريكا والحفاظ على تفردها بالقمة، أو فلتتحمل مسؤولياتها بنفسها
“غوتيريش” وعلى لسان متحدثه الرسمي ستيفان دوجاريك، أبلغ موظفي المنظمة بقلقه من الوضع المالي الصعب الذي تشهده المنظمة، ولم يتحدث مباشرة عن الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يحملها وحدها سبب الأزمة، رغم تحرشها بالمنظمة مرات عدة على مدار العام الماضي، ولكنه أشار في المجمل إلى تخاذل العديد من الدول في تسديد حصتها بتمويل المنظمة، بما جعل الأمان المالي للأمم المتحدة في المرحلة الحاليّة الأسوأ في التاريخ.
كيف تلاعب ترامب بالأمم المتحدة؟
كأي رجل رأسمالي يعلم جيدًا خفايا النفس البشرية، وكيف يمكنه بمنتهى البساطة شراء ولاء المحيطين به أو إجبارهم على الصمت وتبني موقفه، كان المال طريق ترامب لابتزاز الأمم المتحدة حتى قبل إعلان تنصيبه رئيسًا لأمريكا، فإما مباركة خطى بلاده في الإجراءات التي سيتخذها حال نجاحه ضد المجتمع الدولي في الاقتصاد والسياسة، لتعزيز مكانة أمريكا والحفاظ على تفردها بالقمة، أو فلتتحمل مسؤولياتها بنفسها.
نفذ ترامب عناصر خطته بعناية، كانت البداية من حملته الانتخابية، واستكمل مساره بعد نجاحه، لم يترك حيزًا واحدًا يمكن الحديث من خلاله عن الأمم المتحدة إلا وكال لها النقد والاتهامات بالانحراف عن مسارها، ولم يكتف بذلك، بل حاول تمرير فكرته لحلفائه في المجتمع الدولي، وهي الكواليس التي كشفتها وسائل الإعلام العالمية، وأكدت أن ترامب يسعى لشن حرب نفسية، بجانب عمل حشد عالمي للتشكيك في نزاهة الأمم المتحدة، لإفقاد المنظمة الثقة بنفسها، لدرجة أنه دعا العديد من رؤساء الدول لحضور اجتماع لمناقشة هذا الأمر، داخل مقر الأمم المتحدة قبل يوم واحد فقط، من إلقاء خطابه بالجمعية العامة في سبتمبر من العام الماضي.
دونالد ترامب يدعو إلى هيكلة شاملة لمنظمة الأمم المتحدة
يعلم ترامب أكثر من غيره تأثير الأمم المتحدة على تعطيل مشروع هيمنة “إسرائيل” ـ حليفته الكبرى ـ، لذا كانت كل خطوة تتخذ ضد توجهات الأخيرة تقابل برد عدواني وعنيف من الولايات المتحدة، كان أبرز الخطوات العقابية من ترامب ضد المنظمة الأكبر في العالم، الانسحاب من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (مفوضية حقوق الإنسان) بدعوى تحيزه ضد “إسرائيل”.
لم يعبأ دونالد ترامب بحالة اللغط التي دارت حول ازدواجية المعايير الأمريكية في عهده، ولم يلتفت لجميع الانتقادات التي وجُهت له حتى من منظمات المجتمع المدني الأمريكية التي اتهمته بانتهاك المبادئ التي نص عليها الدستور الأمريكي الذي يعتبر حقوق الإنسان قيمًا إنسانية عليا يجب دعمها والدفاع عنها، وبالتأكيد لم يكن يقصد بذلك “إسرائيل” وحدها دون غيرها.
استمرت طريقة دونالد ترامب في التعامل مع المنظمة، عبر الغطرسة الكاملة والحرب النفسية، وكما انسحبت بلاده من مجلس حقوق الإنسان، عاودت التهديد بنفس السلاح
هُزت القيم الأمريكية، وأصبح المجتمع الدولي يتشكك في صدق مبادئ أكبر دولة في العالم، عن كل ما يخص حقوق الإنسان، ولكن ترامب لا يرتدع ولا يأبه لذلك؛ هو يتصور أن هؤلاء مُدّعون وأحزاب من الفشلة، أقل إجراء اقتصادي سيمنعهم من المتاجرة بالحريات التي يكرهها، ولا يقيم لها وزنًا طالما تعارضت من طموحاته وأهدافه، لذا حاول ابتزاز المجلس الدولي لحقوق الإنسان، للتغافل عن إدانة تطلب من الأعضاء تجاه “إسرائيل”، وهو ما قابله المجلس بصرامة فكانت النتيجة الانسحاب الأمريكي الناقم، وهو أول قرار من نوعه تقدم عليه إحدى الدول الأعضاء وتتخلى طواعية عن عضويتها في المجلس.
حقوق الإنسان.. واشنطن لا تريد المجلس
في 2018 استمرت طريقة دونالد ترامب في التعامل مع المنظمة، عبر الغطرسة الكاملة والحرب النفسية، وكما انسحبت بلاده من مجلس حقوق الإنسان، عاودت التهديد بنفس السلاح، ولوحت بتخفيض دعمها لقوات حفظ السلام “الناتو” والأمم المتحدة، وزعم ترامب أنهما يستغلان بلاده ويأخذون أموالاً كثيرة دون أن يكون هناك مقابل مناسب لذلك.
في يناير من العام الحاليّ، دارت صحيفة نيويورك تايمز في عقل ترامب، وعبر معلومات من جهات في البيت الأبيض علمت أن “الرئيس” لديه خطة متكاملة لإقرار مزيد من الضغط على الأمم المتحدة، من أجل تقليص المساهمة المالية للولايات المتحدة في العديد من أنشطة وكالات تابعة للأمم المتحدة، وإعادة النظر في سلسلة من المعاهدات التي تفيد أمريكا على النحو الذي يناسب قوتها وحجم إنفاقها المالي على المنظمة الأكبر في العالم.
تستطيع أمريكا بكل أريحية إحداث شلل تام بالمنظمة الدولية، لذا يتحدث ترامب دائمًا بـ”لغة الكفيل” عن الأمم المتحدة إثر أي قرار يتم رفضه لأمريكا في أروقة المنظمة
ترامب التاجر الشاطر، لم يكن فقط ينوي التخلص من أعباء المنظمة الاقتصادية، بل أراد كشف بعض الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وبريطانيا اللتين يزايدان على بلاده في الإنسانية ويشهران بها من خلال رفض العديد من قراراته، وهي صفات نبيلة بالطبع في نظر ترامب، ولكنها تحتاج إلى تحمل ثمنها ماليًا، لا أن يتم تحميل الولايات المتحدة تبعات إنسانية البلاد المعارضة لسياستها.
هل تستطيع أمريكا تعجيز الأمم المتحدة حقًا؟
تستطيع أمريكا بكل أريحية إحداث شلل تام بالمنظمة الدولية، لذا يتحدث ترامب دائمًا بـ”لغة الكفيل” عن الأمم المتحدة إثر أي قرار يتم رفضه لأمريكا في أروقة المنظمة، وهو الأمر الذي يعمله جيدًا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس الذي أكد في تصريحات عدة، أنه حال إقدام الولايات المتحدة على خفض مفاجئ في تمويل المنظمة، ستقوض جهود الإصلاح، بل وقد تتوقف أنشطة المنظمة نهائيًا.
بحسب ميزانية آخر عام للأمم المتحدة، تدعم أمريكا المنظمة بـ611 مليون دولار، تليها اليابان بـ244 مليون دولار وتتبعها على التوالي: الصين بـ200 مليون دولار وألمانيا بـ161 مليون دولار وفرنسا بـ123 مليون دولار وبريطانيا بـ113 مليون دولار وإيطاليا بـ95 مليون دولار وروسيا بـ77 مليون دولار وكندا بـ74 مليون دولار وإسبانيا بـ62 مليون دولار.
كان مشروع الموازنة الأمريكية لعام 2018، قد تضمن انخفاضًا ملحوظًا في نصيب المنظمة من الموازنة، وحال تطبيقها على هذا النحو، لن تتمكن الأمم المتحدة من مواصة عملها، بحسب تصريحات العديد من المهتمين بشؤون المنظمة حول العالم، خاصة بعد دخول الكونغرس الأمريكي على خط اللعبة، وتهديده هو الآخر بتحريض من ترامب بقطع التمويل عن الأمم المتحدة.
المثير أن هذه السياسات التي تنتهجها مؤسسات الحكم الأمريكية، بداية من ترامب انتهاءً بالبرلمان، تثبت أن لديها خلطًا وضبابية في الرؤية
ولم يتوقف الموضوع على التصريحات الفردية، بل تخطاه إلى العمل المؤسسي، بعدما تقدم العضوان عن الحزب الجمهورية، باقتراح يقضي بقطع الدعم، ليس فقط عن الأمم المتحدة، بل عن جميع الدول التي لا تؤيد معظم مواقف واشنطن تحت سقف المنظمة الأشهر في العالم.
المثير أن هذه السياسات التي تنتهجها، مؤسسات الحكم الأمريكية، بداية من ترامب انتهاءً بالبرلمان، تثبت أن لديها خلطًا وضبابية في الرؤية، تمنعهم من إبصار شرعية التهديدات التي يوجهونها بين الحين والآخر للمنظمة.
فحسب ميثاق الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي كُتب عام 1945 لا يحق لأمريكا الانسحاب منها أو حتى تحديد حجم الدعم الذي يمكن أن تقدمه لأنشطة المنظمة، وهو ما يلقى بعشرات الأسئلة عن سر عدم مواجهة الأمم المتحدة لطغيان أمريكا، والتغلب على المحاولات الدائمة منذ تولي ترامب السلطة لتدمير مصداقية المنظمة، بكشف هذه القوانين ومطالبة العالم بالضغط لتنفيذها، إلا لو كانت الأممم المتحدة نفسها تشعر أنها مجرد تجمع للتسلية وليس أكثر!