عاش تتار الفولغا تحت الهيمنة الروسية لأكثر من 15 جيلًا، في أطول علاقة مع محتل مقارنة بأي مجتمع آخر في العالم الإسلامي، ورغم تعرضهم لهجوم مستمر وصل حد حرمانهم من هويتهم، إلا أنهم نادرًا ما ثاروا لتغيير أوضاعهم، حتى خلال الفترة السوفيتية وما بعدها، ظل تتار الفولغا على نفس هذا المسار السلمي، فقبلوا بالواقع وقدّموا التنازلات والتسويات، ما تسبّب في تآكُل هويتهم وثقافتهم، أما بقاؤهم كمجتمع اليوم فيشهد اختفاءً متسارعًا.
يأتي هذا التقرير ضمن ملف “ديار الإسلام في روسيا”، وفيه نسرد تاريخ منطقة سيبيريا وجمهوريات شمال القوقاز التي تضمّ الشيشان وإنغوشيا وداغستان وقبردينو بلقاريا وقره شاي شركيسيا، وجمهوريتي تتارستان وبشكيريا، وهي أقاليم روسية تقطنها غالبية مسلمة، يقدَّر عددها بنحو 25 مليونًا.
المكان والهوية
تقع جمهورية تتارستان التي يشتق اسمها من المجموعة العرقية “التتار” واللاحقة الفارسية “ستان”، وتعني دولة أو بلدًا عند ملتقى نهرَي الفولغا وكاما في شرق روسيا، وتبلغ مساحتها نحو 70 ألف كيلومتر مربع، وتحدّها 4 جمهوريات اتحادية روسية، بشكيريا من الشرق، وأودمورتيا من الشمال، وماري إل من الشمال الغربي، وتشوفاشيا من الغرب.
أما عاصمتها قازان التي يزيد عمرها على 1000 عام، فتقع على قمة تلال خصبة مليئة بالخضرة، ووفقًا للأدلة الأثرية فهي أقدم بكثير من المدينتين الرائدتين في روسيا: موسكو وسانت بطرسبرغ.
يشكّل التتار البالغ عددهم 5 ملايين ونصف نسمة، ثاني أكبر مجموعة عرقية في الاتحاد الروسي، لكن كل التتار لا يقيمون معًا في نفس المنطقة أي جمهورية تتارستان، فقد أُجبر الروس معظم التتار على الانتقال والعيش في مناطق معيّنة.
أكبر تجمع للتتار اليوم في الاتحاد الروسي يقع في شرق تتارستان التي يعيش فيها 4 ملايين نسمة عبارة عن مزيج من مجتمعين أساسيين، التتار والروس، لكن الروس يتمتعون دومًا بميزة أن الحكومة المركزية في موسكو تقف خلفهم.
غالبية التتار يعتنقون الإسلام ويتبعون المذهب الحنفي، ويتحدثون لغة مرتبطة بالتركية القديمة، واليوم يعيشون في الاتحاد الروسي في مواجهة تهديد مزدوج، يتمثل من ناحية في إبعادهم عن جذورهم الثقافية وتذويبهم في الهوية الروسية بشكل أكثر رسوخًا، ثم التلاعب بديموغرافيا مناطقهم من ناحية أخرى.
بلغار الفولغا ووجوه التتار
في أعقاب حقبة استمرت قرونًا من الهجرات الجماعية من آسيا الوسطى إلى أوروبا، هاجرت عرقية من نسل الناطقين بالتركية من سهول منطقة البحر الأسود، واستقرت في نهاية المطاف في منطقة الفولغا الوسطى، وكانت هذه القبائل تدين بالوثنية.
هذه الهجرة بدأت منذ القرن السابع الميلادي، وبمرور الوقت أسّست هذه القبائل حضارة ودولة على نهر الفولغا، عُرفت باسم “دولة البلغار”، وتشير الأدلة المكتوبة والأثرية إلى أن هذه الدولة كانت على مستوى عالٍ من التنظيم والإدارة، وتدريجيًا ضمّت أعدادًا كبيرة من مختلف الأعراق، شملت كل من البلغار والفنلنديين والفارانجيين والسلاف الشرقيين.
ثم في أوائل الألفية الأولى، انتشر الإسلام في هذه الدولة نتيجة جهود التجار المسلمين، وتبنى البلغار الإسلام طوعًا كدين للدولة، واعتمدوا الأبجدية العربية للكتابة بدلًا من الحروف التركية القديمة، كما أرسل أمير دولة البلغار، ألمش بن يلطوار، سفيرًا إلى الخليفة العباسي، جعفر المقتدر، يطلب منه إرسال بعثة دينية من الفقهاء والعلماء، ليلقنوا أهل البلغار شعائر الإسلام.
اعترفت الخلافة العباسية رسميًا في عام 922م بمناطق البلغار كأرض إسلامية، وأرسل الخليفة سفارة من العلماء ومعهم ابن فضلان، ويشير المسعودي وابن فضلان إلى هذه الدولة باسم “الصقالبة”.
تزامنت ذروة دولة البلغار مع تراجُع الإمارات السلافية الشرقية، حيث شهد عام 1164م أول اشتباك للبلغار مع الجيش السلافي الشرقي، ثم في العقود التالية كان على دولة البلغار أن تتعامل بشكل متزايد مع التهديد العسكري الروسي، وتحت ضغط روسيا من الغرب في مطلع القرنين الثاني عشر والثالث عشر، اضطر البلغاريون في منطقة الفولغا إلى نقل عاصمتهم من بلغار إلى بيلار.
في سبتمبر/ أيلول 1223م بالقرب من مدينة سامارا في جنوب شرق روسيا، اصطدم جيش جنكيز خان تحت قيادة أوران مع بلغار الفولغا لكنه هُزم، وفي عام 1230م اندلعت عدة اشتباكات بين جيشي البلغار والمغول، لكن بحلول عام 1235م عاد المغول بقوة على رأس جيش كبير بقيادة باتو خان، وأخضعوا بلاد البلغار بأكملها، والتي كانت تعاني في ذلك الوقت من حرب داخلية.
سقطت دولة البلغار تحت حكم إمبراطورية جنكيز خان، لكن عكس المدن الأخرى التي غزاها المغول، نجا جزء كبير من ثقافة ومجتمع بلغار الفولغا، وفي عام 1242م أسّس باتو خان دولة عُرفت باسم “القبيلة الذهبية”، وعندما مات خلفه أخوه بركة خان.
استمر حكم بركة خان حتى عام 1267م، وخلال فترة حكمه اعتنق معظم أفراد القبيلة الذهبية ديانة البلغاريين، وامتد سلطان الدولة الجديدة من المحيط المتجمد الشمالي حتى أذربيجان، ومن تركستان ووسط سيبيريا حتى بولندا وهنغاريا وروسيا، كما تجذّرت ثقافة هذه الدولة في مزيج من دولة البلغار الإسلامية السابقة مع ثقافة المغول التتار.
هناك جدل كبير يثار حول كون التتار اليوم هم الورثة المباشرين لهذه الدولة الإسلامية الأولى في منطقة الفولغا الوسطى، وما إذا كانوا من نسل التتار المغول، أم أنهم مرتبطون بالبلغار الأتراك الذين شكّلوا دولة مركزها على نهر الفولغا العلوي في القرنين التاسع والعاشر.
يميل كل من التتار والتشوفاش اليوم إلى الاعتزاز بحضارة البلغار باعتبارها مهدهم المشترك، وأظهرت تحليلات الحمض النووي أن تتار الفولغا هم في الأساس من أصل أوراسي تركي وقوقازي، وليسوا من أصل أوراسي شرقي.
على أي حال، أصبحت منطقة نهر الفولغا الوسطى في زمن القبيلة الذهبية بوتقة انصهرت فيها شعوب مختلفة، حيث اختلط التشوفاش والبلغار والمغول والأدمرت مع بعضهم، لكن فرض الروس على كل هؤلاء اسم “التتار”، لذا فأن اسم “التتار” اُستخدم بشكل مربك وعشوائي لتسمية عدد كبير من المجتمعات الناطقة بالتركية والمنتشرة عبر مساحة واسعة من الأراضي في أوراسيا، واليوم يرفض بعض التتار المعاصرين هذا الاسم العرقي، مفضلين تسمية أنفسهم بـ“أتراك قازان” أو “البلغار”.
خانية قازان
بحلول ثلاثينيات القرن الخامس عشر، استولى أحد خانات القبيلة الذهبية، أولوغ محمد، على قلعة قازان البلغارية، وأعلن استقلاله عن القبيلة الذهبية في ضوء الصراع المستمر على منصب الخان، وأصبح أول حاكم لخانية قازان الواقعة بالقرب من نهر الفولغا (حكم فترة 1438-1445) وجعل قازان عاصمة حكمه.
رغم الاضطرابات السياسية التي كانت مدفوعة بشكل متزايد من موسكو وخانية القرم التترية، نجت خانية قازان وازدهرت لأكثر من قرن، وبرزت بمبانيها ومساجدها وأسواقها الحيوية وصناعاتها وحرفها اليدوية، خاصة صناعة الأثاث والجلود، وكانت أهم مركز تجاري تتقاطع فيه الأسواق الشرقية والأوروبية.
بطبيعة الحال، واجهت خانية قازان تهديدًا من موسكو، فقام سكان الخانية بتجهيز جيش كان قادرًا على صدّ الهجمات الروسية وغيرها من الهجمات الأخرى، كتلك التي شنّها الخانات الآخرون في ساراي، أو أستراخان، أو سيبير، ويشير الإنفاق العسكري لخانية قازان إلى قوة اقتصادها المزدهر.
في النصف الأول من القرن السادس عشر دبَّ الضعف في خانية قازان، والأسوأ أن الخانات تشاجروا حول قضايا مختلفة تتعلق بشرعية الآخر، وفي هذه العملية أضعف كل منهم الآخر بشكل قاتل، باستثناء سكان القرم الذين تمتعوا برعاية هائلة من السلطان العثماني، وأعلنوا ولاءهم له منذ عام 1478م، وهي علامة تدلّ على أن قوتهم كانت تتراجع.
عانت خانية قازان من أزمة خلافة شبه دائمة (حكم ما لا يقل عن 15 خانًا من عام 1438م إلى عام 1552م)، وقد سمح هذا الأمر للروس بالتدخل في شؤونهم بشكل دائم، وفشل التتار من قازان وأستراخان وشبه جزيرة القرم في تشكيل جبهة موحّدة وقوية بما يكفي لشلّ موسكو بشكل دائم.
أحلام الإمبراطورية.. ماضٍ لا يمرّ
في كتابه “تاريخ تتارستان”، يعتبر أستاذ التاريخ، كيس بوتربلوم، أن غزو قازان وهزيمة التتار في عام 1552 بمثابة تحول جيوسياسي تاريخي بالنسبة إلى موسكو، فقد حولها إلى قوة عالمية، واستطاعت إخضاع الشعوب غير الروسية. إضافة إلى ذلك، احتلال روسيا لخانية قازان كان أول انتصار مسيحي أرثوذكسي على الإسلام منذ سقوط القسطنطينية.
بعد سلسلة طويلة من الحروب الروسية القازانية للاستيلاء على قازان، وضع القيصر إيفان خطة طويلة المدى للحملة الرابعة لغزو خانية قازان، وشملت أمرَين رئيسيَّين: حصار قازان من خلال احتلال جميع الطرق النهرية للخانية، وتأسيس قلعة روسية عند مصب نهر سفياغا.
وبعد مرور عام على إنشاء قلعة سفيازك، حدث حصار قازان القاتل، ووصل القيصر إيفان الرابع على رأس جيش عسكري إلى القلعة المبنية حديثًا، ومن خلال أحد الخانات الذين وقفوا إلى جانب موسكو، كان القيصر ورجاله على علم بالدفاع الذي أقامه خان قازان وأنصاره.
بلغت القوات المسلحة الروسية 150 ألفًا، في حين بلغ عدد قوات قازان 63 ألفًا، كما كان لدى الروس مدفعية قوية جدًّا، لذلك لم يجرؤ التتار على القتال في أرض مفتوحة، وحبسوا أنفسهم خلف أسوار قازان.
بعد أن حوصرت قازان لـ 41 يومًا، أثبتت المقاومة أنها غير مجدية، وتسبّبت المدفعية الروسية المتفوقة في أضرار بالغة للأسوار، وانهار أحد الأبراج الدفاعية، ما أدّى إلى سقوط المدينة وتدفق الجنود الروس الذين تفوقوا عدديًا على خصومهم في المدينة.
ورغم أنه تمّ العفو عن الخان بعد استسلامه، فإن الكثيرين من التتار ظلوا يقاتلون في الشوارع ومنازل المدينة، لا سيما شيوخ الدين المسلمين وطلابهم بقيادة المعلم الصوفي، سيد قول شريف، فقد قاتلوا حتى النهاية المريرة.
وفي حين قُتل العديد من سكان قازان في القتال نفسه، لم تظهر القوات القيصرية أي شفقة تجاه النساء والأطفال، وعلى حدّ تعبير أستاذ التاريخ كيس بوتربلوم: “كان جيش القيصر الذي استباح قازان في عام 1552م أكثر دموية من جيش باتو خان الذي احتل مدن البلغار في ثلاثينيات القرن الثالث عشر”.
ومنذ الغزو الروسي لقازان عام 1552م، انتقل المستوطنون السلافيون إلى أراضي خانية قازان السابقة، وتمّ تهجير السكان المسلمين الذين بقوا على قيد الحياة، وأُجبروا على العيش والاستقرار في ضاحية بوساد المجاورة لقازان.
في حين تمّ هدم أماكنهم المقدسة وتحويل بعضها إلى كنائس أرثوذكسية، مع السماح ببقاء برج سويمبيكا، كتذكير صارخ بالإرهاب الروسي لأي شخص يفكر في إحياء أيام مجد قازان كمركز إسلامي، وتحذير مرعب بما قد يخلفه الغضب الروسي لأولئك الذين يفكرون في التمرد.
بمجرد انتهاء السيطرة الروسية على المناطق المحيطة بقازان وتدمير معاقل المتمردين، وهي العملية التي اكتملت بحلول عام 1558م، عاد بعض التتار إلى أحياء قازان بعد بضع سنوات من سقوط المدينة، لكن تمّ منعهم من العيش داخل أسوار القلعة. وهناك أدلة تشير إلى انخفاض عدد التتار بشكل كبير واختفاء العديد من مدنهم بعد عام 1552م، وكما يقول أحد مؤلفي التتار: “بعد عام 1552م تحول الإسلام من دين المدن إلى دين القرى”.
اضطهاد متجدد: إعادة تشكيل التتار
منذ سقوط قازان، جرت محاولات دؤوبة لتنصير التتار، تمّ تنفيذ سياسة التعميد الإجباري رسميًا في عام 1565م لجزء كبير من التتار، ثم في تسعينيات القرن السادس عشر اشتكى القساوسة في قازان إلى القيصر فيودور إيفانوفيتش، من أن “المسيحيين الجدد” لم يذهبوا إلى الكنيسة ولم يرتدوا الصلبان.
بناءً على ذلك، أمر القيصر فيودور جيشه عام 1593م بمتابعة المسلمين الذين لم يكونوا على استعداد للتخلي عن الإسلام، وتعذيبهم حتى الموت وتدمير أي مساجد أو أماكن معروفة للصلاة، ورغم أوامر القيصر استمر التتار في بناء مساجد سرّية.
بحلول أواخر القرن السابع عشر، ألغى الروس الشرط المتعلق بالتنصير لفترة وجيزة في عهد صوفيا (1682-1689)، وبالفعل استعاد التتار عافيتهم وبدأو في إعادة بناء بعض مساجدهم المهدمة.
لكن بعد ذلك، في العقد الأول من القرن الثامن عشر، أصبح التنصير إلزاميًا مرة أخرى، وإذا أراد نخبة التتار الاحتفاظ بأراضيهم وسلطاتهم، كان عليهم أيضًا إجبار رعاياهم المسلمين على التحول إلى المسيحية.
بحلول العقد الأول من القرن الثامن عشر، بدأت الدولة الروسية في التنقيب بشكل أعمق عن حياة التتار، وانطلقت حملات متجددة لتحويلهم إلى المسيحية، إذ بذلت ابنة بطرس الأكبر إليزابيث (حكمت فترة 1740-1762) جهودًا قوية لتنصير التتار، ومن بينها إصدار مرسوم في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1742م بهدم جميع المساجد على أراضي قازان ومنع بناء مساجد جديدة، وبالفعل تم هدم 418 من أصل 536 مسجدًا في قازان عام 1742م.
اختلف الحال في عهد يكاترينا الثانية، إذ فضّلت معالجة بعض مظالم التتار الأكثر إلحاحًا، خوفًا من احتمال اندلاع نوبات من السخط الشعبي، فسمحت لهم بقدر من الحرية الدينية، وسمحت بطبع القرآن الكريم في سانت بطرسبرغ عام 1786م، وتعيين مفتي مسلم في عام 1788م هو محمد جان خوساينوف، وهو نهج مختلف تمام الاختلاف عن النهج الذي اتبعه أسلافها.
لكن هذه الاستراتيجية اعتمدت أيضًا على سياسة العصا والجزرة، ففي مقابل هذه الحرية الدينية، التزم التتار بتدفق ثابت من الإيرادات، والطاعة الرسمية لسانت بطرسبرغ، مع بعض الدعم العسكري.
ثم بعد ما يزيد على نصف قرن من المرسوم الذي أصدرته يكاترينا الثانية في منتصف القرن الثامن عشر الذي سمح للمسلمين بقدر من الحرية، انقلبت حكومة القيصر ألكسندر الثاني (حكم فترة 1855-1881) على السياسة التي أرستها يكاترينا في التعامل مع التتار. وتبنّى ألكسندر الثاني سياسات فرض اللغة الروسية والتحول إلى الأرثوذكسية.
سقوط القيصرية.. تتارستان السوفيتية
بحلول عام 1914م، كانت الحركة القومية التترية لا تزال في مهدها، واختلف التتار في الاختيار بين الهوية التترية المنفصلة، أو الأممية الإسلامية، أو التحرك نحو الوحدة القومية التركية القائمة على أساس عرقي ولغوي.
وبعد أن أُجبر التتار على القتال في الجيش القيصري في الحرب العالمية الأولى، سرعان ما اندلعت بعدها التوترات التي كانت تغلي تحت السطح في الإمبراطورية الروسية. بدأ لينين والبلاشفة يبشرون بمستقبل أكثر عدالة، ووعد التتار بدولة كبيرة، لذا انضم سلطان غالييف أشهر شخصية تتارية إلى لينين.
كانت فكرة جمهورية التتار-بشكيريا شائعة لفترة من الوقت بين كبار التتار، وبالفعل قامت لفترة وجيزة تحت اسم “إيدل-أورال” (الاسم التتري لنهر الفولغا)، وتم الاعتراف بسلطتها بشكل رئيسي في الأحياء التترية في قازان.
لكن وعود البلاشفة بتقرير المصير سرعان ما تراجعت إلى الخلف، بحلول عام 1920م بعد أن انتصر الشيوعيون في الحرب الأهلية، تم التخلي نهائيًا عن تبنّي ستالين لجمهورية إيدل-أورال، وبدلًا من ذلك قرر النظام الشيوعي تفتيت المناطق التي يكثر فيها التتار، وإنشاء جمهورية تترية صغيرة، عُرفت باسم “تتارستان” ووُضعت إداريًا تحت سلطة روسيا.
في كل الأحوال غيّرت الثورة البلشفية مسار تتار الفولغا بشكل مميت، وكانت السنوات التالية مرعبة، حيث تحرك السوفيت ضد المجالس الإسلامية التي أنشأها التتار في الأيام الثورية الأولى من عام 1917م، وأرغم التتار على التكيُّف مع النسخة السوفيتية.
قشرة فارغة.. تتارستان بعد الاتحاد السوفيتي
شهدت الأيام الأولى لعام 1990م ذروة المزاج الانفصالي في تتارستان، كما انعكس في الاستفتاء الذي جرى في 22 مارس/ آذار 1992، والذي صوّت فيه أكثر من 60% من الناخبين لصالح الاستقلال، رغم تنفيذ الجيش الروسي مناورات استعراضية بالدبابات على طول حدود تتارستان في يوم الاقتراع.
لكن بعد فترة وجيزة للغاية من التحرك نحو تقرير المصير، تفاوضت تتارستان مع الكرملين، ووقع أول رئيس لجمهورية تتارستان منتيمير شريف الله شايمييف على اتفاقية خاصة لتحديد حدود السلطة مع موسكو عام 1994، منحت الاتفاقية تتارستان استقلالًا في الشؤون المحلية، كالحق في فرض الضرائب وإدارة الموارد الطبيعية، لكن هذه الاتفاقية تقوضت بسبب الحربَين اللتين شنتهما روسيا ضد الشيشان.
رغم الجهود التي بذلها الرئيس التتري السابق، شايمييف، بعد عام 1990م، والذي حاول لفترة طويلة إحياء التعليم واستعادة ثقافة التتار التي تتلاشى باستمرار والتصدي لجهود موسكو، لكن منذ أن وصل بوتين إلى الكرملين، قلّص الحكم الذاتي وصلاحيات السلطات المحلية في تتارستان إلى حد كبير.
أجبر بوتين تتارستان على إعادة تعديل دستورها عدة مرات ليتوافق مع التشريعات الروسية، وتحت الضغط الذي تتعرض له سلطات تتارستان من هيمنة موسكو، تخلت عن الكثير من استقلالها وهويتها، ولم تقدم على أي احتجاج حتى في أبسط القضايا.
على سبيل المثال، يرى المسؤولون التتار أنهم لن يحققوا المساواة مع الروس طالما أن جميع التتار مجبرون على التحدث باللغة الروسية، ولا يوجد تقريبًا أي روسي يتحدث التترية، ولإنهاء هذه الثنائية اللغوية غير المتماثلة، قدّمت حكومة تتارستان اللغة التترية والأدب والتاريخ كمواد إلزامية في جميع مدارس الجمهورية.
لكن بعد أن شنَّ بوتين حملة صارمة على سيادة تتارستان، بدأت حكومة تتارستان في إغلاق المدارس التترية، وفي فترة 2007-2009 تمّ إغلاق 111 مدرسة تترية. علاوة على ذلك، أصدرت الحكومة الروسية مرسومًا في عام 2009 يجبر الطلاب التتار الراغبين بالدراسة في الجامعة اجتياز امتحان اللغة الروسية، ثم في عام 2016 أغلقت جامعة قازان كلية اللغة والتاريخ التترية، كما تعثرت الجهود الرامية إلى إنشاء جامعة وطنية للتتار.
رغم أن اللغة لا تزال تحمل صدى عميقًا لدى أولئك التتار الذين يحاولون الحفاظ على الثقافة التترية وإحيائها، فإنها لم تعد تلعب اليوم دورًا مركزيًا حتى في المؤسسات الإسلامية في تتارستان، فالدراسة في المدارس الإسلامية في قازان تتم أولًا باللغة الروسية.
ومع سعي موسكو الدؤوب نحو المركزية والسيطرة، تمّ تقليص استقلالية تتارستان بشكل أكبر عام 2017م، واستبعدت دراسة اللغة التترية من المدارس العامة، وهو بمثابة ضربة كبيرة لاستقلال التتار.
تتار الفولغا اليوم مجبرون على إشراك الروس في كل شيء، والتنازل عن حقوقهم العرقية والثقافية، ولم يتمكنوا حتى من ممارسة حقوقهم الدينية كاملة، والتي تمّ حصرها في إطار رسمي وحدود ضيقة لا تتجاوز كثيرًا عتبات المساجد والمناسبات الدينية، فحتى ارتداء “الملابس الدينية” في الأماكن العامة والمؤسسات التعليمية محظور.
حتى اللحظة، ما زالت موسكو تقمع الذاكرة الجماعية للتار وتتحرك ضد آخر بقايا الحكم الذاتي التتري، فقد ألغت احتفالاتهم الوطنية، مثل احتفال “يوم الذكرى” الذي كان يقام كل أكتوبر/ تشرين الأول منذ عام 1989م لإحياء ذكرى سقوط قازان في العام 1552م، لكن في عام 2021م حظرته الحكومة الروسية بشكل نهائي، رغم حكم محكمة تتارستان في العام 2020م بعدم قانونية الحظر.
مؤخرًا، حرم بوتين الرئيس الحالي لجمهورية تتارستان من صفة الرئيس، ففي عام 2022 قام بتغيير لقب رئيس جمهورية تتارستان من “رئيس” إلى “حاكم”، بجانب ذلك إن المرشح لرئاسة تتارستان لا يمكن ترشيحه إلا بموافقة رئيس روسيا، ورغم استنكار التتار لخضوع رئيسهم، رستم مينيخانوف، لموسكو، فإنهم يعتقدون أنه على الأقل سيدافع عن مصالحهم، وهو ما يدل على شعور حاد بالحصار بين التتار، وخوفهم من المزيد من تقليص حقوقهم.
بالنهاية، من الواضح اليوم أن تتارستان المستقلة تبدو وكأنها وهم، فثقافة الفولغا التترية تحت حصار عمره قرون، وما يثير القلق أكثر هو أن عملية “الترويس” اليوم تتقدم بسرعة كبيرة، وفي ظل الازدراء المتأصّل والمدفوع ثقافيًا من قبل الروس ضد السمات الثقافية التي تميِّز التتار، يبدو واضحًا تآكُل الهوية التترية التي باتت في طريقها إلى الاختفاء.