الصرخات الأولى من المظاهرات السلمية في سوريا كانت كفيلة أن تضعك في سجن لا تأمن من جدرانه الهزيلة، وراء القضبان تنتظر نورًا من ثقب الجدار أو فتحة للتنفس تقضي فيها أيامًا أصعب من الموت، غرفة صغيرة لا تتسع لاثنين يعيش بها 50 شخصًا، لم تكن هذه محض حكاية من صرح الخيال، إنما شهوة الموت والموت لا يأتي، هكذا يعيش آلاف السوريين في أقبية وسجون النظام منذ اندلاع الحراك السلمي في عام 2011.
اشتهرت سجون النظام بقسوة التعذيب خلال السنوات الماضية بل اكتسبت شهرة على يد آل الأسد، حولوا فيها الإنسان إلى لعبة في منفى بين أصقاع الأرض لا يعلم ذويه أين هو ولا هو يعلم من هو، أيام عصيبة تقضيها بين الجدران التي تنبثق من خلالها منازل أسوأ حشرات الأرض، رائحة الدم في السجون كرائحة الموت في مذبحة تاريخية خاضت في حرب عرقية منهجية تآكلت فيها كل الشعوب وتناثرت على إثرها الدماء، يومان أو 3 يمكنك الخروج، ولكن من يخرجك؟ وأنت وعائلتك لا مال لديكم، هل لديك أقرباء في صفوف النظام يمكنهم نجدتك كلما ارتفع مبلغ البدل أكثر، هنا ضاع عشرات السوريين.
“العيش من قلة الموت” هكذا وصفوا السجن الذين نجو منه وبأعجوبة خرجوا من أقبية النظام
والعيش وراء جدران يخلف آلاف الحكايات التي ترتسم في وجه كل عائلة فقدت ولدها في سجون النظام، كل زوجة تنتظر صباح يوم جديد علها تبشر بقدوم زوجها أو ابنها الذي تنتظره منذ سنوات عدة على هذه الشاكلة، لا نومة مريحة فهي على علم بشعور ابنها، ولا طعام إلا وكانت تتذكره في كل تفاصيل يومية وحكاية مأساوية.
“العيش من قلة الموت” هكذا وصفوا السجن الذين نجو منه وبأعجوبة خرجوا من أقبية النظام، بينما كانت أساليب التعذيب مختلفة، فطريقة الموت أيضًا مختلفة، على حافة القبر يتمنون نهاية مدة سجنهم وهم بالطبع ليس لديهم أدنى ثقة بخروجهم، ولعلها تكون من حظ بعضهم.
قصص سجناء ومفقودين قسريًا
عمر
تلقت عائلة عمر (24 عامًا) خبر وفاة ابنهم في سجن صيدنايا، وطُلب منهم الذهاب لاستلام شهادة الوفاة والتوقيع عليها، كانت فاجعة كبيرة في نفوس عائلته، فجدتهُ من والده بعد شهرين من المحاولات استطاعت أن تراه في زيارة دُبرت بشكل سري عبر آلاف من الوساطات التي دفعت خلالها أموالًا هائلة، لتراه 5 دقائق على الأقل.
شهادة الوفاة
التقرير الطبي
التقى “نون بوست” قريب عمر في مدينة مارع شمال حلب مصطفى عبد الرحمن، حدثنا قائلًا “علمنا مؤخرًا بوفاة عمر بعد 15 يومًا من زيارة جدته له في سجن صيدنايا”، حيث تم تصوير صورة من شهادة الوفاة كانت قد أرسلت من الوساطة نفسها التي وضعت لحل القضية التي دبرت زيارة الجدة.
وأضاف: “حاولنا مرارًا وضع محامي لإخراجه من السجن بطريقة ما، ولو كلفتنا بيع منازلنا وأرضنا، فهو المعيل الوحيد لعائلته بعد وفاة والده في حادث سير شمال أعزاز عام 2016″، اعتقل عمر في المدينة الجامعية بجامعة حلب بتهمة الإرهاب نظرًا لمشاركته في الحراك السلمي في حلب وبلدته، كان طالب في الهندسة الزراعية سجن في الأمن العسكري في مدينة حلب لمدة شهر ثم حول إلى سجن صيدنايا، بعد العديد من المحاولات استطاعت عائلته معرفة مكانه، وتمكنت جدته من زيارته لمدة 5 دقائق لا أكثر، كان منهكًا تظهر عليه آثار التعذيب والسجان يقوم بإهانته أمام جدته ويناديه بإرهابي، مبرحًا إياه بالضرب.
التحق عمر بالحراك السلمي عام 2011، وشارك في العديد من المظاهرات السلمية في المدينة، وتوجه إلى ريف حلب وخضع لتدريب عسكري إبان تشكيل لواء التوحيد، كما شارك في الحراك العسكري في تحرير مدينة حلب، عاد عمر إلى مقعد الدراسة في الجامعة نظرًا لعدم معرفة قوات النظام بمشاركته في التظاهرات والحراك العسكري، حتى اعتقل نهاية 2016.
قصي شاب في الـ18 من عمره، اعتقلته قوات النظام في مدينة حلب في أثناء ذهابه إلى العمل، كان أول المنضمين للحراك السلمي، وشارك في مظاهرات عدة، تلقت عائلته نبأ اعتقاله في الأمن العسكري في مدينة حلب
جالسة على وسادة من القماش قرب منزلها، تنظر يمينًا وشمالًا علها تلقى طيفًا أو خيالًا من فلذة كبدها، بالأمس كانت تبكي على قصي الذي لا تعلم عنه شيئًا، تنهال دموعها على الخدين، في حديثها تظهر حرقة ولوعة على ابنها، أم قصي ودعت لؤي بانفجار مفخخة بعد سنوات من فقدها لقصي المعتقل في سجون النظام.
قصي شاب في الـ18 من عمره، اعتقلته قوات النظام في مدينة حلب في أثناء ذهابه إلى العمل، كان أول المنضمين للحراك السلمي، وشارك في مظاهرات عدة، تلقت عائلته نبأ اعتقاله في الأمن العسكري في مدينة حلب، حاولت عائلته أن توكل محاميًا لكن لم يكن بمقدورها، نظرًا للتهمة التي وضعتها له قوات النظام.
كما حاول والده التواصل مع العديد من المسؤولين ليعلم وضع ابنه، مرت 6 أعوام على اعتقاله في سجون النظام، وعائلته لا تدري ماذا حل به، حسب قول والده، ولا بأي سجن، سُجل قصي بقائمة المفقودين قسريًا لعدم وصول أهله له على الإطلاق.
فيما ترك عائلته متوجهًا لقبض مرتبه من مكان عمله في معمل للسجاد في مدينة حلب، محمد خير رجل في الـ40 من عمره لم يشارك في الحراك السلمي على الإطلاق، إنما كانت من أجل كونه من مدينة مارع، التي تعد شرارة الشمال السوري، ولدى محمد خير عشرة أبناء، يعيش في منزل صغير يقتاة على مرتبه، وليس لديه عمل آخر.
من جانبه عبد الرحمن ابن المعتقل قال لـ”نون بوست”: “ذهب والدي متوجهًا إلى مدينة حلب لكي يأتي بمرتبه فهو عادة ما كان يذهب ويعود، لكنه ذهب ذات مرة ولم يعد إلى الآن”.
هذه القصص ليست من وحي الخيال، فما زالت تجري إلى الآن والكثير من المعتقلين تلقوا ذات المصير
تلقت عائلة محمد خير نبأ اعتقال رب أسرتهم عام 2014، بعد عدة محاولات من عائلته للتوصل إليه علموا أنه سجن في سجن عذرا الذي يعرف بشدة التعذيب، وأضاف: “توجه جدي من والدي إلى الشام ليوكل محاميًا لإخراج والدي من السجن، لم يتمكن جدي من إخراجه نظرًا لطلب المحامي مبلغ مرتفع لرشوة قوات النظام”.
وفي نهاية عام 2017 علمت عائلة محمد بأنه توفي نتيجة مرض في السجن دون ورود شهادة وفاة، جلست زوجته في العدة لمدة شهرين، أتى خبر آخر أنه على قيد الحياة، وقعت العائلة في حيرة من أمرها نظرًا لما يتوجب عليها، وإلى الآن عائلته تنتظره بفارغ الصبر، هذه القصص ليست من وحي الخيال، فما زالت تجري إلى الآن والكثير من المعتقلين تلقوا ذات المصير.
النظام يسلم الأحوال المدنية قوائم أسماء الوفيات من المعتقلين
“ابنكم توفي في السجن تعالوا استكملوا معاملة الوفاة” تلقت هذه العبارة آلاف من الأسر السورية خلال الأسبوع الماضي، وفقًا لناشطين من المدن نفسها، حيث سلم النظام سجل الأحوال المدنية في بعض المدن قائمة بأسماء الوفيات من المعتقلين.
وفي السياق تسلم سجل الأحوال المدنية في مدينة داريا بريف دمشق قائمة بأسماء الوفيات من المعتقلين في أقبية النظام الأمنية، 1000 شهيد، كما ستسلم قائمة لاحقة بحسب ناشطين، وفي معظمية الشام تسلم السجل المدني قوائم بأسماء الوفيات من المعتقلين حيث بلغ عدد الضحايا 460 ضحية فارقت الحياة في سجون النظام، وتعود فترة اعتقال هؤلاء الضحايا إلى بداية الحراك السلمي المطالب بالتحول الديمقراطي في سوريا منتصف عام 2011، ويرجح أن معظم ضحايا التعذيب الذين قضوا في تلك الفترة كانت قد سُرِّبَت صور لجثثهم على يد معاون منشق عن الشرطة العسكرية السورية أواخر عام 2013.
كما تسلمت بلدة تلكلخ بريف حمص قائمة بأسماء الوفيات من المعتقلين، حيث بلغ عدد الوفيات في القائمة 480 ضحية فارقت الحياة نتيجة التعذيب، كما استلمت منطقة يبرود قائمة تحوي أسماء 30 ضحية، فيما تسلم سجل الأحوال المدنية في محافظة الحسكة قائمة بالوفيات من المعتقلين حيث بلغ عددهم 750 معتقلًا قضى تحت التعذيب، فيما استلم سجل الأحوال المدنية في محافظة حلب قائمة بأسماء الوفيات الذين قضوا في أقبية قوات النظام 550 ضحية قضوا تحت التعذيب، وكما لحق نصيب للاجئين الفلسطينيين من الاعتقال حيث وصلت قائمة بأسماء الوفيات ما يقارب 533 معتقل فارق الحياة في سجون النظام.
وبلغت قوائم أسماء الوفيات التي سلمها النظام لمختلف المحافظات والمناطق ما يقارب 7000 ضحية قضت تحت التعذيب، لم يتسن معرفة توزعهم الجغرافي، وأغلب هذه الضحايا قضت في سجون النظام منذ سنوات، وتهمتهم التي سجنوا من أجلها مشاركتهم بالحراك السلمي، اعتقلهم النظام عبر دوريات عسكرية من منازلهم ليلًا وخلال المظاهرات.
دعوات لفضح جرائم النظام التي ارتكبها بحق المعتقلين الذين قضوا في سجونه
المجلس الإسلامي السوري دعا أمس السبت 28 من يوليو/تموز المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والحكومات في كل العالم للضغط على النظام من أجل الكشف عن مصير آلاف المُعتقَلين لديه، كما طالب بمحاسبة النظام على جرائمه التي يرتكبها في السجون والمتمثلة بتصفية عشرات الآلاف من المعتقلين تحت التعذيب، وعلى الأساليب الوحشية التي اتبعها معهم، مما لا تقره شريعة إلهية ولا قانون بشري، واعتبر المجلس أن سياسات الدول المتمثلة بإعادة تعويم القاتل بشار الأسد وعصابته المجرمة كشفت مدى الانحطاط الأخلاقيّ الذي وصلت له تلك الحكومات باستخفافها بالإنسان وحياته وكرامته.
فيما عمد ناشطون سوريون حقوقيون إلى تصعيد الموقف إزاء جرائم قوات النظام بحق المعتقلين في السجون التي يمارس فيها شتى أنواع التعذيب، وطالبوا بالسعي لفضح النظام ودفع المجتمع الدولي لاتخاذ موقف حازم بحقه، لكشف مصير المعتقلين الذي أخفاهم منذ انطلاقة الثورة، وفي السياق خرجت مظاهرة في مدينة الباب طالبوا فيها المجتمع الدولي للنيل من نظام الأسد بسبب ما يرتكبه من جرائم وتعذيب ضد المعتقلين.
فيما قالت هيئة القانونيين السوريين الأحرار: “البشرية تشهد اليوم أفظع هولوكوست عبر التاريخ (هولوكوست المعتقلين) في معتقلات نظام الأسد”، ودعت مجلس الأمن والمنظمات الدولية للتحرك وكشف مصير آلاف المختفين قسرًا في سجون النظام وأوضاع الأحياء منهم.
يشار إلى أن قوات الأسد منذ قرابة الشهرين بدأت بالتخلص من ملف المعتقلين، عبر عملية اعتبرها حقوقيون سوريون الجريمة الكبرى التي تشهدها سوريا حاليًّا، في ظل الصمت الدولي، كما تحاول روسيا الضغط على النظام لإنهاء هذا الملف تمهيدًا لعودة اللاجئين السوريين.