تقول العرب في الرجل إذا أظهر أمرًا وكان يخفي في نفسه خلافه: “فلان يسر حسوًا في ارتغاء”، والفعل يسر من أسرَّ يُسِرُّ أَسْرِرْ إسرارًا، وهو الإضمار والإخفاء والكتمان، ومنه أسرَّ الحديث عن فلانٍ أي كتمه عنه وأخفاه، ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: “فأسرَّها يوسفُ في نفسِه”، والحسو معناه الشرب من الفعل حسا يحسو احْسُ، وحسا الشراب أي تناوله جرعةً بعد جرعة، أما الارتغاء فمن الفعل ارتغى؛ فتقول: ارتغى الرغوة أي شربها أو انتزعها بالمِرغَاة، وارتغى الشيءَ أي أخذ ما عليه من الرغوة.
والمراد أن الشخص يوهم من حوله أنه يريد شرب الرغوة فقط، ولأنها لا قيمة لها فقد لا نمانع أن يشربها، لكنه يقصد أن يشرب اللبن جُلَّه أو كله ولو صرَّح لعورِض ومونِع؛ فلذلك أضمر الأمر وأظهر خلافه، والمثل “يُسِرُّ حسوًا في ارتغاء” يُضرب لمن يُظهِرُ أمرًا ويريد خلافَه، وهو إما للمكر والخديعة أو للحيطة والحذر والدهاء والاحتيال للأمر.
هذا المثل لا يُراد به بالضرورة معاني سلبية، وسنبين ذلك في السطور التالية، وقد قيل للشعبي: إن رجلًا قبَّل أم امرأته؛ فقال: إنه يُسِرُّ حسوًا في ارتغاء، وقد حَرُمَت عليه امرأتُه.
أحب صراحتي قولًا وفعلاً وأكره أن أميل إلى الرياء
فما خادعت من أحدٍ بأمرٍ ولا أضمرت حسوا في ارتغاء
والأمثلة على ذلك في التاريخ لا حصر لها؛ ففي بغداد خلا أبو جعفر المنصور يومًا بيزيد بن أبي أسيد، فقال: يا يزيد! ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال: أرى أن تقتله وتقرِّب إلى الله بقرة؛ فوالله لا يصفو ملكك ولا تهنأ بعيش ما بقي، فنفر المنصور نفرةً ظن يزيد أنه سيأتي عليّه وهو يقول: قطع الله لسانك وأشمت بك عدوك، أتشير عليّ بقتل أنصر الناس لنا وأثقلهم عليّ! أما والله لولا حفظي لما سلف منك وأن أعدها هفوة من هفواتك؛ لضربت عنقك، قم لا أقام الله رجليك.
كان المعتمد بن عباد يشبه بهارون الرشيد في الخلافة العباسية في الذكاء وغزارة الأدب، كما كان أبوه المعتضد بالله يشبه بأبي جعفر المنصور في الحزم والسياسة، وقد ولي المعتمد إشبيلية وهو ابن سبعٍ وثلاثين سنة
قام يزيد وقد أظلم بصره وتمنى أن تسيخ الأرض به، فلما كان بعد قتل المنصور لأبي مسلم الخرساني، دخل عليه يزيد مجلسه فقال له: يا يزيد! أتذكر يوم شاورتك؟! قال: نعم! قال: فوالله لقد كان ذلك رأيًا وما أشك فيه، ولكن خشيت أن يظهر منك؛ فتفسد مكيدتي، كان غضب المنصور ورد فعله على جواب يزيد بهدف الحيطة، وكان يعلم أن عيون أبي مسلم في قصر الخلافة لا تنقطع؛ فأرسل رسالة غير مباشرة أوهم فيها أبا مسلم أنه لا يستغني عنه، بينما كان المنصور يسرُّ حسوًا في ارتغاء.
ومن بغداد نطير على متن الخطوط الجوية الأندلسية، وننزل في ساحة ملك إشبيلية؛ فقد ذكر أبو محمد علي بن عبد الواحد المراكشي صاحب “المعجب في تلخيص أخبار أهل المغرب” أن المعتمد على الله بن عباد ملك إشبيلية، واسمه محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد ويكنى أبا القاسم، استنجد بأمير دولة المرابطين في المغرب، يوسف بن تاشفين بن يوسف اللمتوني (400 – 500هـ)، لرد كيد ألفونسو السادس ملك قشتالة، وكان ألفونسو قد استولى عنوة على طليطلة سنة 478هـ، وقوبل استنجاد المعتمد بشجب واستنكار وإدانة ملوك الطوائف في الأندلس، ورأوا أن فناء ملكهم سيكون على يدي ابن تاشفين إن لم يكن على يد ألفونسو؛ فأجابهم المعتمد بقوله: “لأن أرعى الجمال عند ابن تاشفين خيرٌ لي من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو”.
كان المعتمد بن عباد يشبه بهارون الرشيد في الخلافة العباسية في الذكاء وغزارة الأدب، كما كان أبوه المعتضد بالله يشبه بأبي جعفر المنصور في الحزم والسياسة، وقد ولي المعتمد إشبيلية وهو ابن سبعٍ وثلاثين سنة، كانت الأندلس تقاسي الأمرين وقد تفتت أوصالها بين 22 ملكًا عُرِفوا بملوك الطوائف، وكان أغلبهم يدفعون الجزية للفرنجة، عدا المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، وهو الذي لم يدفع الجزية في حياته.
وافق المتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة على الاستعانة بالمرابطين، بينما الباقون من ملوك الطوائف استهواهم التنديد باحتلال قشتالة لطليطلة، ولا يُنتظر ممن ألِفوا الخنوع ثمانين يدفعون فيها الجزية أن ينتخوا للحرب، سماع اسم المرابطين أقض مضجع الفرنجة، وبلغهم من بأس ابن تاشفين ما يقتضي التزام الصمت أو الخضوع إلى حين، وذلك بعد رد المعتمد على تهديد ألفونسو: “والله لئن لم ترجع لأروحنّ لك بمروحةٍ من المرابطين”.
أضمر يوسف بن تاشفين الاستيلاء على الأندلس، لكنه كان يُظهِر للمعتمد بن عباد خلاف ذلك
دارت معركة الزَّلَّاقَة بين المعتمد يعاضده ابن تاشفين من جهة وألفونسو من الجهة الأخرى، وكانت في شهر رجب سنة 479هـ، وذكرت بعض الروايات أن المعركة جرت يوم الخميس الثاني عشر من رمضان 480هـ، وانتصر المسلمون نصرًا مبينًا أتاح للمسلمين أن يمتد سلطانهم في الأندلس أربعة قرون من تاريخ معركة الزلاقة.
أضمر يوسف بن تاشفين الاستيلاء على الأندلس، لكنه كان يُظهِر للمعتمد بن عباد خلاف ذلك؛ فإن صح ذلك فقد كان ابن تاشفين يسرُّ حسوًا في ارتغاء، وكان مما قاله ابن تاشفين: “كان أمر هذه الجزيرة – يريد الأندلس – عندنا عظيمًا قبل أن نراها؛ فلما رأيناها وقعت دون الوصف”، كان ابن تاشفين يرمي لصرف انتباه المعتمد عن مطامع ابن تاشفين في الأندلس، ونجح ابن تاشفين في ذلك وانطلت خدعته على المعتمد.
انفض السامر وانتصر المسلمون في الزلاقة، وعاد ابن تاشفين إلى مرَّاكش وظن المعتمد أن قد خلا له الجو في الأندلس، لكن هيهات أن يتركه ابن تاشفين لينعم بهذا الرغد المقيم، لما وصل ابن تاشفين مرَّاكش قال لبعض خاصته: “كنت أظن أني قد ملكت شيئًا، فلما رأيت تلك البلاد صغُرت في عيني مملكتي؛ فكيف الحيلة في تحصيلها؟” فاتفقوا على حيلة انطلت على المعتمد، وثارت الفتنة على المعتمد في شوال سنة 483هـ بترتيب بعض أقارب ابن تاشفين ويدعى “بُلُجين”، وأرسل جيشًا حاصر إشبيلية وفتحها ثم أودِع المعتمد سجن أغمات قريبًا من مراكش، وظل المعتمد حبيس أغمات حتى وفاته، وقد قال شعرًا مؤثرًا يوم جاءته بناته لزيارته في أغمات يوم عيد:
في ما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
أفطرت في العيد لا عادت إساءته فكان فطرك للأعياد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا فردك الدهر منهيًا ومأمورا
من عاش بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلام مغرورا
وكان مما قاله ابن تاشفين بعد القبض على المعتمد: “إنما كان غرضنا في ملك هذه الجزيرة أن نستنقذها من أيدي الروم، لما رأينا استيلاءهم على أكثرها، وغفلة ملوكهم وإهمالهم للغزو وتواكلهم وتخاذلهم وإيثارهم للراحة، وإنما همة أحدهم كأسٌ يشربها وقينةٌ تُسمِعُه ولهوٌ يقطع به أيامه..”. ابن تاشفين معروفٌ بصلاحه وزهده في الكراسي والمناصب، وقوله وجيه والدليل على ذلك أنه مهد لبقاء الأندلس في قبضة المسلمين أربعة قرون كاملة، ولا يصح أن يقال في حقه إنه كان يسرُّ حسوًا في ارتغاء يوم قال: “كان أمر هذه الجزيرة عندنا عظيمًا قبل أن نراها؛ فلما رأيناها وقعت دون الوصف”.
قبل أن نترك الأندلس، فإن ابن جاخ الشاعر كان يسر حسوًا في ارتغاء، وقد خدع الشعراء بلطف حيلته، وقصته شهيرة ماتعة مع المعتمد بن عباد
يذهب بعض أهل العلم إلى أن ابن تاشفين لم يقل ما قاله لخداع المعتمد، وأن نكبة المعتمد ترجع لصراع بينه وبين ملوك الطوائف الذين أوغروا صدر ابن تاشفين عليه، ولولا ذلك ما نُكِب ولا سُجن، وقعت محنة المعتمد الكبرى بخلعه من ملكه وسجنه في شهر رجب الكائن في سنة 484هـ، بعد حكمٍ دام عشرين سنة وقد ترك من المآثر والخلال الكثير، وكان تدمير المعتمد في تدبيره، وسلَّ سيفًا حسبه له ولم يدر أنه عليه، وربما كان حتف الفتى فيما نوى.
وقبل أن نترك الأندلس، فإن ابن جاخ الشاعر كان يسر حسوًا في ارتغاء، وقد خدع الشعراء بلطف حيلته، وقصته شهيرة ماتعة مع المعتمد بن عباد، إذا قفلنا راجعين من الأندلس إلى مصر؛ فإن محمد علي باشا كان يسر حسوًا في ارتغاء بالتزامه الصمت إبان الخلافات العثمانية، وهذا ما ساعده في الاستقلال بمصر وتأسيس دولته، وفي عام 1924 كان ستالين يسر حسوًا في ارتغاء؛ فبعد وفاة لينين لم يتوقع أحدٌ أن يقبض ستالين على مقاليد الحكم، وقد اعتبروه أضعف رجلٍ في الحزب الشيوعي!
بعد موت عبد الناصر، ارتأت مراكز القوى أن تنصيب السادات الحل الأمثل، ولم يكن ذلك اعترافًا منهم بعبقرية السادات، ولكن لأنهم رأوا فيه الشخصية الضعيفة التي يسهل السيطرة عليها، واشتطوا في تقديرهم للأمر فزعموا أنه بإمكانهم تنحيته في أي وقت يقررونه.
والمدهش في الأمر أن بريطانيا كانت ترى في السادات شخصًا غير مؤهل لقيادة مصر؛ فتقول هيئة الإذاعة البريطانية BBC إثر وفاة ناصر: “هناك مرشحون كثر لخلافة عبد الناصر؛ كاتبه المفضل محمد حسنين هيكل وشريك فكره الثوري، محمود فوزي الدبلوماسي الكبير، زكريا محيي الدين، عبد اللطيف البغدادي، وآخرون، أما السيد أنور السادات فأمامه الكثير لكي يصبح رجل دولة..”.
عصف السادات بمراكز القوى وأطاح بهم وشتت شملهم، وأثبت خطأ التحليل البريطاني لشخصيته، وأن دهاءه السياسي فاق تصوراتهم بمراحل، وبعد فوات الأوان أدركت مراكز القوى دهاء السادات، واستيقنوا أن السادات كان يسرُّ حسوًا في ارتغاء.