ترجمة وتحرير: نون بوست
أصبحت المدن أكثر اكتظاظا بالسكان، مع العلم أن الإنسان غير مهيأ على المستوى البيولوجي للعيش في مكان ذي كثافة سكانية عالية. كما أن الروتين يجعل الإنسان يعيش تحت وطأة الضغط اليومي، مما يؤثر سلبا على دماغه. والسؤال المطروح، كيف يمكننا أن ننظم حياتنا الحضرية بشكل صحي؟
في إحدى الروايات، يعتبر المتسكع أشهر شخصية في المدينة الكبرى، حيث غالبا ما يرتدي قبعة ومعطفاً ويدخن سيجارة، ويتنقل باستمرار بين باريس وفيينا وبرلين بحثا عن مغامرات جديدة وسط الحشد الغفير من سكان المدينة أو عن ابتسامة طفل في حي فقير، أو عن البائعة ذات العينين الجميلتين الحزينتين، التي رآها ذات مرة في أحد المحلات. مما لا شك فيه، يبدو أن شخصية المتسكع، التي كانت نتاج مخيلة أحد الأدباء، تملك متسعا من الوقت لفعل ذلك.
لقد عاش الكثير من المتسكعين الحقيقيين خلال القرن التاسع عشر، ولكنهم كانوا مجرد حالات شاذة. أما اليوم، فلا يفكر الإنسان في الانتقال إلى المدينة لمجرد التسكع فيها، وخير دليل على ذلك أن السكان الحضر لا يخرجون للتنزه داخل المدن حتى في عطلة نهاية الأسبوع، وإنما يقضون عطلهم في الأوساط الريفية. وفي المدينة، يقضي الناس معظم أوقاتهم في الشوارع بين التنقل من البيت إلى محطة القطار أو محطة الحافلات، قاصدين مقر العمل ليعودوا في المساء إلى البيت، وهكذا دواليك.
من عدة نواحي، تعد المدينة مفيدة جدا للإنسان، حيث تتوفر مواطن الشغل والمؤسسات التعليمية والمرافق الصحية، بيد أن ذلك لا يلغي الجانب السلبي المتمثل أساسا في زيادة مخاطر الإصابة بالعديد من الأمراض النفسية.
في الواقع، لا يستمتع أهالي المدينة بالزحام ولا يشعرون بالراحة عند رؤية الكثير من الأشخاص في الطريق. وعموما، يعتبر “الآخر” أكبر عائق في المدينة لأنه يقف أمامك في القطار وعند شباك التذاكر، وحيثما ذهبت، ويمكن أن ينفخ في المزمار أو يقرع الجرس أو يصرخ أو يتحدث بصوت عال أو يتكلم بلغة أجنبية. باختصار شديد، يمثل “الآخر” مصدر ازعاج.
ارتفاع خطر الإصابة بالأمراض النفسية
من عدة نواحي، تعد المدينة مفيدة جدا للإنسان، حيث تتوفر مواطن الشغل والمؤسسات التعليمية والمرافق الصحية، بيد أن ذلك لا يلغي الجانب السلبي المتمثل أساسا في زيادة مخاطر الإصابة بالعديد من الأمراض النفسية. ولا يقتصر الضغط النفسي على مجرد الشعور بالضيق، بل يزداد خطر الإصابة بالأمراض النفسية في المدينة حسب حجم البيت. ووفقا للإحصائيات، يرتفع خطر الإصابة بالاكتئاب لدى سكان المدينة بنسبة 40 بالمائة، وقد يصل احتمال الإصابة بالاضطرابات الناجمة عن القلق في المدينة إلى 20 بالمائة.
في هذا الإطار، كشفت الأبحاث أن نقص القدرة على التحكم في المستقبل له تأثير مدمر على الصحة، كما يشعر الشخص بالتوتر إذا كان لا يملك الكثير من الفرص للتراجع إلى الوراء أو يتم إيقافه باستمرار من قبل الآخرين في المدينة. في هذا الصدد، أكد الطبيب النفسي من مدينة مانهايم، أندرياس ماير- ليندبيرغ، أن العيش في المدينة يغير الدماغ نظرا لأن نشاط اللوزة الدماغية يزداد لدى سكان المدينة بشكل أكبر منه لدى سكان الريف. ويتحكم هذا الجزء من الدماغ في مشاعر الخوف والعداء، ومن الملاحظ أنه يكون نشطا بشكل كبير لدى المرضى المصابين بالاكتئاب واضطرابات القلق.
في سياق متصل، أفاد ماير- ليندبيرغ بأن التوتر والأمراض النفسية متفشية بين سكان المدينة نظرا لأن عددهم في ارتفاع مستمر نتيجة انتشار ظاهرة النزوح من الريف إلى المدينة، التي أصبحت ظاهرة عالمية. وبحلول سنة 2050، من المنتظر أن يصبح ثلث سكان العالم من سكان المدن الكبرى. وفي ظل محدودية المساكن في المدن الكبرى تضاعفت أسعار العقارات، كما أصبحت وسائل النقل شحيحة وارتفع معدل الاكتظاظ. والسؤال القائم: كيف تؤثر كل هذه العوامل على سكان المدينة؟
التوتر المستمر يمكن أن يدمر جسم الإنسان، حيث تتسبب هرمونات التوتر في ارتفاع مستويات الكولسترول والسكر في الدم
مما لا شك فيه، تولد كل هذه العوامل الشعور بالتوتر، وهو ليس شعورا سيئا في البداية حتى وإن شعرت بعدم الارتياح نظرا لأنه يقودنا نحو التطور. وعندما يشعر الإنسان بالتوتر، يشعر جسده بأنه يواجه خطرا محدقا، فيتمكن من الفرار بشكل سريع عند الضرورة ويدافع عن نفسه بشكل أفضل. وعندما تنتشر هرمونات التوتر في الجسم، تصبح الحواس في حالة استنفار، وتتسارع نبضات القلب ويتدفق الدم في العضلات بشكل أفضل، ويتخثر الدم بسهولة، مع العلم أن هذا الأمر يحدث أيضا عند الإصابة بجروح.
لكن التوتر المستمر يمكن أن يدمر جسم الإنسان، حيث تتسبب هرمونات التوتر في ارتفاع مستويات الكولسترول والسكر في الدم. وإلى جانب ارتفاع إمكانية تخثر الدم، يزداد خطر الإصابة بالنوبات القلبية والجلطات الدماغية، ويصبح الجهاز المناعي ضعيفا ويرتفع احتمال الإصابة بالالتهابات والعديد من الأمراض.
الخوف من البيت
تطرق باحثون مختصون في مجالات مختلفة إلى كيفية التمتع بحياة صحية في عصر العيش في المدن. وقد ألفت إليزابيت أوبرتساوخر، عالمة الأحياء المختصة في التطور والسلوكيات والأستاذة الجامعية لدى جامعة فيينا، كتابا حول سكان المدن بعنوان “هومو أوربانز”. ويتمحور الكتاب حول فكرة أن الإنسان غير مؤهل للعيش في المدينة؛ خاصة أن دماغه معتاد على العيش في مجموعات وسئم من المواجهات مع الآخرين. ومن جهتها، أقرت أوبرتساوخر بأنه “على الرغم من كل ذلك، أحبذ العيش في المدينة”.
في شأن ذي صلة، ذكر مازدا أدلي، الطبيب النفساني والباحث المختص في التوتر المنحدر من مدينة برلين، بأنه يقطن في مدينة كبيرة. وتجدر الإشارة إلى أدلي، الذي يدير المنتدى متعدد الاختصاصات “نويروأوربانيستيك”، حلل شخصية سكان المدينة من وجهة نظر طبية وتوصل إلى نفس النتيجة، التي توصلت إليها الطبيبة النفسية أوبرتساوخر. وفي كتابه “التوتر والمدينة”، أورد أدلي أنه على الرغم من أن المدن تتسبب في إصابة متساكنيها بالعديد من الأمراض، إلا أنها مفيدة بالنسبة لهم.
حقل تمبلهوفر في برلين في أمسية صيفية جميلة
حيال هذا الشأن، أفاد أدلي بأن “الخوف من البيت يعد من أكبر المشاكل الصحية، التي يواجهها أهالي المدينة”. وقد كشفت مختلف استطلاعات الرأي عن حقيقة مفادها أن أسعار الكراء المرتفعة تمثل إحدى أكبر المشاكل التي تؤرق الألمان. فمنذ خمس سنوات، ارتفعت أسعار العقارات في مدينة برلين بنسبة 50 بالمائة. ونتيجة لذلك، اضطُر العديد من الأهالي إلى الانتقال إلى مسكن آخر نظرا لعجزهم عن دفع معاليم الكراء.
كما أفاد أدلي بأن “الشخص الذي يفرّط في مسكنه، لا يفقد محيطه الاجتماعي فحسب، بل يفقد أيضا الشعور بالأمان الاجتماعي وخاصة عندما ينتقل للعيش في حي غير مريح. وإذا أصبح العيش في مدينة ما مكلفا، تزداد المخاوف من تراجع الأسعار. ويعد ذلك بمثابة نوع من التور الاجتماعي الذي ينتاب الأهالي، ويمكن أن يكون سببا في الإصابة بالأمراض نظرا لأن الإنسان لا يستطيع السيطرة على هذا النوع من التوتر”.
المساحة غير مهمة
قالت الطبيبة النفسية أوبرتساوخر إن “حجم البيت يعتبر مقياسا مبالغا فيه لجودة الحياة. ونظريا، يوجد شيء آخر أكثر أهمية من الحصول على منطقة تسيطر عليها وغرفة خاصة بك. أما حجم هذه الغرفة فغير مهم”. وقد أوضح أدلي أن “كل شخص يحتاج للخصوصية وقاعدة للانسحاب. أما المساحة، فتعد أمرا غير مهم طالما أنه لا يشعر بالضيق. ويمكن للإنسان أن يتشارك غرفته مع الآخرين. وفي كثير من الأحيان، يشعر الإنسان بالراحة عندما يلتقي بأشخاص آخرين لطيفين في غرفته”.
تطالب أوبرتساوخر بإنشاء مساحات نصف خاصة ومساحات نصف عامة. حينها، سيتمكن الناس من الاعتناء بتلك الأماكن، كما أنها ستمنحهم إحساساً بأنهم قادرون على التحكم قليلاً في البيئة المحيطة بهم
في المقابل، يواجه سكان المدن الكبرى مشكلا من نوع آخر ألا وهو الشعور بالوحدة. ففي حين يملك أهالي القرى شبكة اجتماعية متينة ويلتقون بمعارفهم كلما تجولوا في الشوارع، من المحتمل أن لا تتمكن من التعرف على أي شخص في المدن الكبرى. ولكن كشفت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن سكان المدينة يعرفون أشخاصا أكثر من أهالي الأرياف. ومع ذلك، من الصعب على الشخص الفقير أو المسن أو المعاق التعرف على الأشخاص الآخرين في المدينة، بينما في القرية يمكن التفطن إلى غياب شخص ما لمدة يوم كامل.
تمكن كل من أوبرتساوخر وأدلي من اكتشاف مفهوم حديث، ألا وهو المسكن المصغر، وهو عبارة عن بيت يضم وحدات سكنية صغيرة غير مكلفة ويؤوي مجموعة من الأشخاص الذي يتشاركون الغرف. ولعل الأمر المثير للاهتمام هو أن هذه الغرف المشتركة جذابة بالنسبة للأشخاص.
زراعة الفناء الخلفي
تقول عالمة الأحياء أوبرتساوخر إنه في أفضل الأحوال ستقع الشرفة الكبيرة في المساحة العامة، بينما أن المساحة الخاصة هي المكان الذي يستطيع المرء التحرك فيه بحرية، على غرار الغرفة الخاصة أو الشقة الخاصة. ويعد الجزء الذي يقع مباشرة أمام باب المنزل مثل الدرج جزءاً من المساحة الخاصة. أما فيما يتعلق بالفناء الخلفي أو الشرفة الكبيرة ذات الاستخدام المشترك، فهما يعتبران جزءاً من المساحة العامة، حيث يلتقي فيهما أغلب الأشخاص بجيرانهم.
عموماً، تنفجر المشكلة عندما يحدث تصادم مباشر بين المساحة العامة والمساحة الخاصة وكذلك الشارع. وتؤكد أوبرتساوخر أن “الجميع يشعرون وقتها بالانفعال نتيجة المواجهات اللاإرادية، التي تحدث أمام باب منزلهم، وفي ذلك الوقت، يتصرفون بتوتر شديد، وينسحب كل منهم إلى مساحته الخاصة، لأن أدمغتهم أصبحت محملة بأكثر مما تطيق. وللأسف، لن يستطيعوا بعد ذلك خوض أي مواجهات إيجابية مع جيرانهم”.
يرى الطبيب النفسي أدلي أن سهولة الوصول للمساحة العامة يعتبر في حد ذاته ميزة
لهذا السبب، تطالب أوبرتساوخر بإنشاء مساحات نصف خاصة ومساحات نصف عامة. حينها، سيتمكن الناس من الاعتناء بتلك الأماكن، كما أنها ستمنحهم إحساساً بأنهم قادرون على التحكم قليلاً في البيئة المحيطة بهم. ففي تلك اللحظة، سيشعر أي شخص أنه قادر على غرس شجرة أمام باب منزله أو زراعة أحواض من الزهور في الفناء الخلفي. ويعتبر ذلك ميزة أخرى، حيث أنهم سيمتلكون مساحات خضراء جديدة، ما يعد بلا شك مفيداً لصحة الإنسان.
يرى الطبيب النفسي أدلي أن سهولة الوصول للمساحة العامة يعتبر في حد ذاته ميزة. ففي حال كان هناك شارع حيوي وجذاب أمام المنزل، مليء بالمقاهي والمتاجر سيكون ذلك محفزاً على الخروج من المنزل، وسيدفع ذلك الكثير من الأشخاص للتخلي عن عادة ملازمة بيوتهم قدر الإمكان.
يكمن المشكل في تحول المساحة العامة مع الوقت إلى مساحة خاصة، أو تكون ضوضاء الشارع عالية بصورة مبالغ فيها، ما يسبب إزعاجاً داخل المنزل. وفي بعض الأحيان، قد تكون هناك حانة في الطابق الأرضي من المنزل، وتصدر صوت موسيقى صاخبة. في ذلك الوقت، لن يستطيع السكان تجنب تلك الضوضاء، ما سيؤدي في النهاية إلى شعورهم الدائم بالتوتر.
عندما يكون القطار مزدحماً، كما هو الحال في ميونخ، في الغالب يكون الجميع في الطريق، وهم ينتهكون في العادة المسافة الشخصية.
يقول أدلي إنه عندما سأل عدداً من الأشخاص الذين يعرفهم عن أكثر الأمور التي تسبب لهم التوتر في المدينة، أجاب جميعهم تقريباً “حركة المرور”. وقد أكد الطبيب النفسي أنه كلما زاد الاكتظاظ في المدينة، رحل الناس إلى الضواحي، وكل يوم تقريباً يحاولون الابتعاد مسافات أطول عن قلب المدينة. وأثبتت الدراسات أن مستوى التوتر، الذي يسببه سائقو السيارات في ساعة الذروة يعادل نفس التوتر الذي يسببه طيار مقاتل أثناء تنفيذ إحدى المهام.
أما بخصوص من يغامر بالمشاركة في حركة مرور المدن الكبرى، فإن عليه أن ينتبه دوماً لتجنب وقوع حادث قد يؤدي في النهاية إلى وفاته. وفي حال نجاته من ذلك الحادث، بالطبع، لن يستطيع اللحاق بموعده في الوقت المناسب. فعندما تتسبب بعض السيارات في عرقلة حركة المرور في الشارع، وبعض الدراجات تتسبب في إعاقة غيرها عن السير في طريق الدراجات، ويتسبب الازدحام في انطلاق الحافلات والقطارات في موعدها المحدد، فجأة ستكون هناك عقبات أمام الجميع من أجل الوصول إلى أهدافهم.
من هذا المنطلق، أوضحت أوبرتساوخر أنه “عندما يقف آخرون في طريق الوصول لأهدافنا، سنشعر حينها بفقدان السيطرة. وفي تلك اللحظة، لن نستطيع التحكم في طريقة الوصول لهدفنا، بينما نرغب جميعاً في أن يكون ذلك في أيدينا، ما يتسبب في النهاية في شعورنا بالتوتر”.
انتهاك المسافة الشخصية
في تلك الوضعية تحديداً يخالجنا شعورٌ آخرٌ غير مريح، وهو أن هناك شخصا قريبا منّا أكثر من اللازم. وغريزياً، يحتاج كل منا بطبيعة الحال إلى الاحتفاظ بمسافة معينة تفصله عن الآخر. ويرتبط حجم تلك المسافة بمقدار معرفة الأشخاص ببعضهم البعض، وما إذا كانوا على استعداد للتفاعل مع الآخرين. وبالطبع، لا يمكن تجنب ذلك في وسائل المواصلات العامة المزدحمة، فمن المؤكد أن يخترق البعض المساحة الشخصية للبعض الآخر، وفي ذلك انتهاك للمسافة الشخصية، وحينها سيشعر الإنسان لاإرادياً بالتوتر.
تشير الدراسات إلى أن التنقل الدائم بالسيارة يسبب أضراراً جسدية ونفسية
إن ذلك سبب آخر يدفع العديدين إلى ركوب السيارات الخاصة، حيث تعبّر السيارة الخاصة عن الشعور بالراحة، إلى جانب أنها تعتبر المنطقة الصغيرة الشخصية التي يمكن التحكم فيها، وهي في الوقت ذاته القارورة الخاصة داخل المساحة العامة. في المقابل، لا يمكن أن تصبح قيادة السيارات الخاصة حلاً نهائياً للجميع، حتى في حال غضضنا الطرف عن الضوضاء وتلوث الهواء الذي تسببه السيارة.
تشير الدراسات إلى أن التنقل الدائم بالسيارة يسبب أضراراً جسدية ونفسية. علاوة على ذلك، لن تكون هناك مساحة كافية لكل السيارات في المدن. وتؤكد أوبرتساوخر أننا “في الوقت الحاضر، دخلنا في عصر إعادة هيكلة وسائل المواصلات من جديد. ولا يمكن إنكار أن السيارات لا تزال صاحبة الكلمة العليا في حركة المرور، ولكن كل ذلك سيتغير، لأن غالبية صغار السن لم يعودوا يملكون رخصة قيادة سيارة”. ومع انخفاض عدد السيارات، ستكون هناك مساحات كبيرة خالية، ما يتيح الفرصة لتحسين وسائل النقل العام، الموفرة للمساحة، كما أن النقل العام سيعمل بكفاءة أفضل.
بناء على هذه الفرضية، ينصح أدلي بأنه إلى أن يحين ذلك الوقت يجب استغلال الوقت الذي نقضيه في وسائل المواصلات بطريقة مفيدة. ويدور الحديث هنا عن مساحة محدودة من الوقت، يعاني فيها أغلبنا من الزحام. فعلى سبيل المثال، يمكن قراءة كتاب في القطار، أو الاعتماد على بعض تقنيات التأمل إذا كان القطار مزدحماً، وفي حال كانت هناك وسائل أخرى أفضل، يمكن للراكب اتباعها. ويؤكد أدلي أنه “إذا أردت أن تكون متزناً أثناء تأدية عملك، فيجب عليك الذهاب إلى المكتب بالدراجة أو سيراً على الأقدام”.
اكتشف الباحثون في جامعة “إيست أنجليا” البريطانية أن أكثر الأشخاص شعوراً بالرضا النفسي هم راكبو الدراجات أو الذين يسرون دائما على أقدامهم، بينما أكثرهم شعوراً بالتوتر والضيق هم سائقو السيارات. وأكد الباحثون أن سائقي السيارات يعانون من التوتر وقلة التركيز بنسبة تزيد عن 13 بالمائة عن راكبي الدراجات والسائرين على أقدامهم، حيث أنه كلما زاد التأرجح في وسيلة المواصلات، زادت نسبة الاستياء والضيق. ولهذا السبب، لا يشعر الأشخاص الذين يتنقلون دائما على أقدامهم بالضيق أو التوتر مطلقا.
يستطيع الشخص، الذي يدرك حدود إمكانياته البيولوجية جيداً، أن يكيّف نفسه مع البيئة المحيطة بوعي
بالإضافة إلى ذلك، أثبتت دراسة حديثة لجامعة كوبنهاغن أن السير على الأقدام في الهواء الملوث بسبب عوادم السيارات أكثر صحة من عدم الحركة مطلقاً. ومن الناحية البيولوجية، لا يعتبر الإنسان مجهزاً للعيش بصورة مثالية في المدن الكبرى. ولكن عند بناء المدن، كان المعماريون أسرع بكثير من التطور البيولوجي للإنسان.
يستطيع الشخص، الذي يدرك حدود إمكانياته البيولوجية جيداً، أن يكيّف نفسه مع البيئة المحيطة بوعي. فعلى سبيل المثال، يمكن خلق مساحة خاصة لكل فرد من أفراد العائلة في المنزل، ليستطيع الفرد الانسحاب إليها في أي وقت، أو أن يتواصل دائما مع جيرانه اللطفاء، أو أن يقوم بزراعة النباتات في فنائه الخلفي، أو أن يسير على قدميه في فضاء المدينة الشاسع. وفي الحقيقة، هكذا كانت حياة المتسكع قديماً.
المصدر: فيلت