حالة من الجمود تخيم على المشهد السياسي اللبناني منذ تكليف الرئيس ميشال عون مايو/آيار الماضي، رئيس الوزراء سعد الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة للمرة الثالثة في تاريخه، في ظل الفشل في التوصل إلى صيغ نهائية مرضية لجميع القوى السياسية.
المؤشرات كلها باتت قاتمة، فليس في السلطة الآن، رئاسة كانت أو برلمان، من يجزم بأن رؤى القوى الداخلية وتصوراتها قادرة على إنتاج صيغة من النوع القابل للصرف، على المستويين الداخلي والخارجي، في ضوء عدم استطاعة رئيس الوزراء المكلف تشكيل حكومة تخالف نتائج الانتخابات النيابية.
3 أشهر كاملة شهد الشارع اللبناني خلالها موجات من الشد والجذب، وتأرجح منحنيات الصعود والهبوط حيال هذا الملف الذي بات الشغل الشاغل لملايين اللبنانيين، وصل إلى حد تأكيد الحريري مرارًا وتكرارًا أنه لا يستطيع أن يقدّم أكثر مما قدم حتى الآن، ومع ذلك تقف السعودية موقف المتفرج تجاه حليفها المحوري، لتتركه وحيدًا في هذه المعمعة دون مساندة تذكر، ما أثار الكثير من التساؤلات بشأن هذا الموقف غير المفهوم في ظل مساعي الرياض – المفترضة – لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذها المفقود داخل لبنان خلال الفترة الأخيرة لصالح خصمها الإيراني.
موقف حرج
موقف لا يحسد عليه هذا الذي وجد فيه الحريري نفسه عند تشكيل حكومته المقترحة، بين مطرقة القانون الانتخابي الجديد الذي أفرز واقع سني لم يتعود عليه على غير هوى تيار المستقبل، وسندان الضغوط السعودية من جانب وحزب الله من جانب آخر.
الخريطة البرلمانية التي تشكلت في أعقاب الانتخابات الأخيرة كشفت تكتل سني من طراز مختلف يمتلك 10 أصوات، ويطالب بوزيرين في الحكومة المفترض تشكيلها، وهو ما يعني مزاحمة تيار المستقبل على التمثيل السني، في الوقت الذي يضغط فيه حزب الله – الممول إيرانيًا – للدفع نحو تمثيل حلفائه السنة في الحكومة، استنادًا لما أفرزته نتائج الانتخابات.
حرص الحريري خلال الفترة الماضية على تجنب الصدام مع عون وفريقه، رغم خلاف الخط السياسي بينهما
وبحسب الانتخابات الأخيرة فإن المعادلة المحتملة للتشكيل الحكومي المقترح تتمثل في فوز القوات اللبنانية بـ3 حقائب وزارية استنادًا لحصولها على 15 نائبًا، في مقابل حقيبتين للكتلة السنية الجديدة التي حصلت على 10 نواب، وعليه فإن الحريري أمام أزمة كبيرة، إما الأخذ بواقع الانتخابات وتمثيل الحالة السنية التي أفرزتها الانتخابات، وهو ما يعني إغضاب الحليف السعودي كما سيرد لاحقًا، أو الصدام مع “حزب الله” وحلفائه ما يعني عرقلة تشكيل الحكومة والدخول في أزمة طويلة.
الانتخابات أفرزت تكتل سني على غير هوى الحريري وتياره
تجنب الصدام
حرص الحريري خلال الفترة الماضية على تجنب الصدام مع عون وفريقه، رغم خلاف الخط السياسي بينهما، غير أن الأزمة الأخيرة التي تعرض لها رئيس الحكومة حين أجبر على الاستقالة من الرياض وتوحدت فيها القوى اللبنانية كافة من أجل دعمه ومؤازرته كانت علامة فارقة في تدشين صفحة جديدة في العلاقات بين الطرفين.
البعض حينها توقع تصعيدًا سياسيًا من الحريري ضد المملكة وحلفائها خاصة بعد اختلاق الأزمات لتجميد عمل شركة “سعودي أوجيه” التي تمثل المورد الرئيسي لتمويل تيار المستقبل وحلفائه في لبنان، وكانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة هي المحك الرئيسي لتقييم مستوى ردة الفعل، إلا أن هذا لم يحدث.
البعض سعى إلى النفخ في النار لإشعال الخلافات بين الحريري من جانب وعون وحزب الله من جانب آخر، بعد تناثر بعض الأخبار بشأن تنحيته عن تشكيل الحكومة الجديدة، إلا أن حسم قرار اعتبار رئيس الوزراء هو رئيس الحكومة والمرشح الوحيد لتأليف التشكيل المقترح أخمد هذه النار قبل اشتعالها.
وفي قراءة للتشكيل السياسي الداخلي في لبنان يلاحظ أن هناك 3 فرق رئيسية، الأولى تلك التي يمثلها الحريري ورفاقه، وتعاني من انقسام نسبي بداخلها، وإن كان أغلبها على استعداد تام للموافقة على أي صيغة تؤمن حصص القوى البارزة محليًا، كذلك تريد “القوات اللبنانية” تعزيز حضورها داخل الدولة، وهي تعلمت من تجربة الانتخابات النيابية الأخيرة أن البقاء خارج السلطة أمر سيء، كما تعتقد بأن وضع منافسها الرئيسي، أي التيار الوطني الحر، ليس بجيد، وهي لن تترك له الساحة المسيحية.
اتهام المملكة بالتدخل في تشكيل الحكومة الجديدة، كونها تدفع الحريري نحو إعطاء حصص وازنة في التشكيل الحكومي لحلفائها، وتقليل حضور القوى المعارضة لها
أما الفريق الثاني ويمثله حزب الله، ويسعى بدوره إلى الحفاظ على مصالحه وأهداف طهران في نفس الوقت، وهو الفريق الذي يرى أن مصلحة لبنان تكمن اليوم في استقرار سياسي وأمني يعزز الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي، ويفتح الباب أمام مراجعة لعلاقات لبنان العربية بما يخدم استقراره أكثر ويفيده في معركته للخروج من أزمته الاقتصادية.
فيما يأتي الفريق الثالث ممثلًا في النائب وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وزعيم الدروز في لبنان، فإن تشكيل الحكومة اليوم يتيح له أخذ نفَس والتفكير بآلية جديدة للبقاء لاعبًا رئيسيًا في الساحة هنا، خاصة في ظل التحديات التي تواجهه وتياره خلال الفترة الأخيرة.
الحريري يتجنب الصدام مع فريق عون بسبب موقفه من أزمته الأخيرة
ماذا تريد الرياض؟
في الوقت الذي يحرص فيه الحريري على تجنب الصدام مع فريق عون، يسعى في المقابل إلى عدم استفزاز حليفه السعودي رغم ما بدر منه بحقه، وهو ما كشفته مساعيه القوية من أجل تمثيل قوي لحليفي الرياض الأساسيين حاليًّا، أي القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي، بل إنه يحاول مغازلة المملكة عندما يحاول منع تمثيل الكتلة النيابية السنية المعارضة له ولحليفه، والقريبة من سوريا وحزب الله.
هذا الموقف حمل البعض إلى اتهام المملكة بالتدخل في تشكيل الحكومة الجديدة، كونها تدفع الحريري نحو إعطاء حصص وازنة في التشكيل الحكومي لحلفائها، وتقليل حضور القوى المعارضة لها، كما جاء على لسان عضو المجلس المركزي في “حزب الله” نبيل قاووق.
تخلي المملكة عن الحريري طالما لم ينجح في تحقيق ما تريده في التشكيلة الجديدة، أمر متعمد، يسير في إطار أن معاقبة لبنان اقتصاديًا قد تكون أفضل لو تم إسقاط التكليف من الحريري ومنحه لتحالف عون – حزب الله
قاووق في تصريحات لوكالة “سبوتينك” 28 من يونيو/حزيران قال: “السياسة السعودية لم توفر أحدًا من شرها، فهي لا تزال تشكل تهديدًا مباشرًا للوفاق الوطني اللبناني ولاستقرار الحياة السياسية في لبنان”، مؤكدًا أن لبنان لن يكون ساحة للإملاءات والوصاية والهيمنة السعودية.
أنصار هذا الفريق يرون أن ما تريده السعودية من الحريري اليوم أن يخوض معركة قاسية ضد عون باعتباره الواجهة التي تحمي خط حزب الله السياسي، هو أمر غير قابل للتحقيق وفق رؤيتهم في ظل العلاقة الجيدة التي تجمع بين الطرفين خلال الأشهر الأخيرة على عكس ما كانت عليه في السابق.
وفي المقابل نفت مصادر من حزب “المستقبل” اللبناني وجود أي تدخل سعودي في تشكيل الحكومة الجديدة، مفندين اتهامات حزب الله وحلفائه بأنها محاولة للضغط السياسي من أجل التوصل إلى اتفاق يرضي طهران ويخدم أجندتها داخل لبنان.
عدم التدخل السعودي دعمًا للحريري حتى الآن رغم مرور 3 أشهر على التكليف بتشكيل الحكومة، وتجاهل المستجدات التي يشهدها هذا الملف من تأرجح في منحنيات الصعود والهبوط، وصل إلى حد اعتراف رئيس الوزراء باستنفاذ كل ما لديه من أوراق للوصول بالتشكيل إلى بر الآمان، بل تجاوز ذلك إلى ملامسة مرحلة إسقاط التكليف نفسه والعودة إلى نقطة الصفر مرة أخرى، دفع البعض إلى التساؤل بشأن دوافع هذا الموقف غير المفهوم من حلفاء المملكة وخصومها على حد سواء.
الحديث يدور في أروقة البعض عن أن تخلي المملكة عن الحريري طالما لم ينجح في تحقيق ما تريده في التشكيلة الجديدة، أمر متعمد، يسير في إطار أن معاقبة لبنان اقتصاديًا قد تكون أفضل لو تم إسقاط التكليف من الحريري ومنحه لتحالف عون – حزب الله من دور القوات اللبنانية.
هذا السيناريو ربما يكون فرصة جيدة لضرب الاقتصاد اللبناني وإحداث حالة من البلبلة وعدم الاستقرار يتحمل الفريق المعادي للمملكة وحلفائها مسؤوليته الكاملة، ومن ثم يكون الضغط عليه بما يمهد الطريق نحو تدشين مرحلة جديدة تفرض فيها الرياض كلمتها سواء كان ذلك عبر الحريري أم خليفة آخر له يكون قادرًا على التصدي لفريق عون.
وإن كان المشهد ضبابيًا حتى الآن لا يحمل ترجيحًا لسيناريو على الآخر، فإن المؤكد حتى كتابة هذه السطور أن رئيس الوزراء المكلف في موقف حرج، حائر بين إرضاء الحليف السعودي أو الالتزام بما أفرزته الانتخابات الأخيرة، ما وضعه في مأزق سياسي بات من الصعب الخروج منه دون تقديم تنازلات، وهو ما سينعكس بشكل أو بآخر على تحقيق الاستقرار المنشود من الجميع.