قبل سنة ونصف من الآن، كان الشاب الذي يدعى إيمانويل ماكرون يستعد لخوض غمار انتخابات الرئاسة في فرنسا بفريق شاب طموح، لم يكن أحد يومها يعطي حسابًا لماكرون ولا لحملته، حيث كانت استطلاعات الرأي تضعه في أسفل ترتيب المترشحين.
مرت أشهر قليلة، وما إن بلغنا شهر أبريل/نيسان حتى بدأ اسمهم في الصعود، وفي شهر مايو/أيار بلغت شعبيته مستويات متقدمة، نتيجة العمل الكبير الذي قام به، فضلًا عن شبهات الفساد التي طالت منافسيه، ففاز بكرسي الرئاسة متقدمًا على الجميع بفارق كبير.
أسوأ أزمة له منذ توليه الرئاسة
عقب فوزه وطيلة الحملة الانتخابية، وعد ماكرون البالغ من العمر 39 عامًا، الفرنسيين بالعمل على احترام القانون ومقاومة الفساد، ووضع حد لكل من يخل بمبادئ الجمهورية الفرنسية ويعمل على الإضرار بها.
جزء من المعارضة الفرنسية تقول إن ذلك لم يكن إلا مجرد وعود ليس أكثر، انتهت بانتهاء الهدف منها، فها هو مساعد ماكرون وأحد أبرز المقربين منه يضرب بالقانون عرض الحائط ويتجاوزه من كل جانب دون أن يعير اهتمامًا بمبادئ الجمهورية، ليس هو فقط بل الرئاسة معنية بذلك أيضًا فهي من ساعدته في ذلك.
لا تسعى المعارضة إلى إسقاط الحكومة، بل تحاول من خلال المذكرتين توريطها
نتحدث هنا عن قضية ألكسندر بينالا (26 عامًا) المقرب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمكلف بحمايته خلال حملته الانتخابية، الذي اعتدى يوم عيد الشغل (1 من مايو/أيار) على متظاهرين فرنسيين بعنف شديد خلال تجمع احتجاجي في مكان سياحي شهير في الحي اللاتيني في العاصمة باريس، بعد أن انتحل صفة شرطة مكافحة الشغب.
هذه القضية وضعت الرئيس الفرنسي – الذي يعتبر أصغر رئيس في تاريخ فرنسا منذ لويس نابليون بونابرت الذي صار في 10 من ديسمبر/كانون الأول 1848 أول رئيس منتخب للجمهورية الفرنسية في سن ناهز الـ40 عامًا و8 أشهر – في أسوأ أزمة له منذ توليه رئاسة قصر الإليزيه في مايو/أيار الماضي.
هذه الأزمة بدأت مع إعلان وزير الداخلية الفرنسي خلال إدلائه بشهادته أمام الجمعية الوطنية (البرلمان) بشأن قضية ألكسندر بينالا، أنه كان على الرئاسة اتخاذ التدابير اللازمة بشأن الفيديو الذي ظهر فيه مساعد الرئيس يمارس العنف بحق متظاهرين.
وتمثل قضية بينالا أول فضيحة تزعزع ولاية الرئيس إيمانويل ماكرون وتكشف كل يوم تدريجيًا إخلالات صارخة في أعلى هرم السلطة التنفيذية في فرنسا، ذلك أنها كشفت تجاوز أحد أعوان الرئيس القانون ومساعدة الإدارة له في الهروب من العقاب.
مهاجمة الإعلام
أمام توالي الاتهامات، لم يجد الرئيس الفرنسي غير الخروج عن صمته متهمًا وسائل الإعلام بقول الكثير من الحماقات، مؤكدًا بأنها قالت الكثير من الحماقات بشأن قضية بينالا، وذلك على هامش لقاء مع أنصاره في جنوب غرب فرنسا.
وقال ماكرون في تصريح إلى وسيلتي الإعلام “بي إف إم تي في” و”سي نيوز” بشأن معاونه ألكسندر بينالا الذي أقيل بعد أن تعاطى مع متظاهرين بعنف في الأول من مايو/أيار الماضي “لقد قلتم خلال الأيام القليلة الماضية الكثير من الحماقات عما تردد أنها رواتب وامتيازات، كل ذلك غير صحيح”.
وتابع “لقد رأيت في الأيام الأخيرة الكثير من الناس يفقدون المنطق، مع ردود فعل غير متناسبة وعنف”، وأشار الرئيس الفرنسي “أنا فخور بأنني وظفته (بينالا) في الإليزيه، لأنه كان شخصًا متفانيًا ولديه مسار مختلف”.
ينظر البرلمان الفرنسي غدًا في مذكرتي حجب ثقة من الحكومة
ماكرون اعتبر أن العقوبة التي اتُخذت في حق بينالا بسبب ضربه شخصين على هامش تظاهرة الأول من مايو/أيار كانت عقوبة متناسبة، وقال “وإلا لكنت طلبت منهم اتخاذ عقوبة أخرى”، في إشارة منه إلى المسؤولين الحكوميين الذين اقترحوا عليه فرض هذه العقوبة.
المعارضة تتحرك
مباشرة إثر إثارة هذه القضية، وجهت المعارضة اتهامات للرئاسة الفرنسية بالفشل في التحرك بسرعة ضد بينالا، وانتقد زعماء من المعارضة الطريقة التي تناولت بها الرئاسة هذا الملف، وقالوا إن العقاب الذي تلقاه بينالا متساهل للغاية، والواقعة كان يجب أن تحال على الفور إلى السلطات القضائية.
وسبق أن أكد المتحدث باسم الإليزيه برونو روجيه بوتي أن السلطات أوقفت بينالا عن العمل دون راتب لمدة 15 يومًا منذ الأول من مايو/أيار وأقالته من مهامه المتعلقة بتنظيم أمن تنقلات الرئيس، إلا أن بينالا ظهر في حافلة المنتخب الفرنسي لكرة القدم خلال الاحتفالات في الشانزليزيه وقصر الإليزيه، وأيضًا خلال مراسم تكريم السياسية الفرنسية الشهيرة سيمون فاي مؤخرًا.
المعارضة اليمينية واليسارية لم تشأ أن تمر هذه القضية مرور الكرام، فهي تسعى جاهدة للاستفادة منها قدر المستطاع، حيث تم إيداع مذكرتين لحجب الثقة عن الحكومة معترفة بأن الهدف ليس إسقاطها، بل توريطها أمام الرأي العام.
وجه التحقيق تهم لبينالا تتعلق بـ”ارتكاب أعمال عنف جماعية”
يذكر أنه المرة الأولى التي تلجأ فيها المعارضة الفرنسية إلى هذه الوسيلة منذ فوز ماكرون بالرئاسة في 2017، كما أنها أول مرة منذ 1980 تقدم فيها مذكرتان في الوقت نفسه، وفي فرنسا غالبًا ما تشكل مذكرات حجب الثقة فرصة لإسقاط الحكومة في حال إقرارها، وقد قدمت أكثر من مئة منها منذ 1958.
لا تسعى المعارضة إلى إسقاط الحكومة، بل تحاول من خلال المذكرتان بحسب صيغة تكاد تكون مماثلة بينهما في مواجهة “أزمة مؤسساتية”، إلى توريط الحكومة وإرغامها على تبرير نفسها والتنديد بتعتيم يمنع جلاء الحقيقة بشأن قضية ألكسندر بينالا المعاون الأمني السابق للرئيس، الملاحق بتهمة ارتكاب أعمال عنف بحق متظاهرين.
وتقتصر المذكرتان اللتان ستجري مناقشتهما غدًا الثلاثاء في الجمعية الوطنية، على كتلة حزب “الجمهوريون” (معارضة يمينية) والذي لديه 103 نواب إلى جانب كتلة اليسار التي يمثلها 63 نائبًا، ما يضعف من حظوظهما في إسقاط الحكومة، حيث يتطلب ذلك أغلبية الأصوات وقدرها 289 صوتًا.
تراجع شعبية الرئيس
هذه القضية كانت سببًا في تراجع شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى أدنى درجة منذ توليه كرسي الرئاسة في قصر الإليزيه، وتشير نتائج استطلاع الرأي العام الذي أجراه مركز “Ifop” لمجلة “Journal du Dimanche” إلى أن مستوى دعم الرئيس الفرنسي انخفض في الفترة ما بين 18 و27 يوليو/تموز الحاليّ من 41% إلى 37%.
وشددت المجلة على أن أدنى مستوى لدعم ماكرون كان يبلغ قبل ذلك 40% وسُجل في أغسطس/آب عام 2017، وكتبت المجلة “يعني ذلك أنه (ماكرون) ضرب رقمًا قياسيًا سلبيًا جديدًا”، وحسب الاستطلاع فإن 39% من الفرنسيين فقط وافقوا على أعمال ماكرون الشهر الحاليّ.
يعتبر بينالا أحد المقربين من ماكرون
وجه التحقيق تهمًا لبينالا تتعلق بارتكاب أعمال عنف جماعية والتدخل في أداء وظيفة عامة وأيضًا وضع شارات دون حق واستخراج صور من نظام مراقبة عبر الفيديو، كما اتهمت السلطات فنسان كراز الموظف لدى حزب “الجمهورية إلى الأمام” الحاكم بارتكاب أعمال عنف جماعية والتدخل في أداء وظيفة عامة وأيضًا حمل سلاح محظور من الفئة ب.
يأمل ماكرون والفريق الدائر به أن تكون قضية بينالا القضية الأخيرة التي تواجه الرئيس، حتى لا تستغل المعارضة مثل هذه القضايا للضغط على ماكرون وحكومته، للاستجابة لمطالبها وتمرير توجهاتها التي تخالف برنامج “الجمهورية إلى الأمام”.