هل هناك داخل الأجهزة الأمنية أشخاص يساعدون تنظيم الدولة “داعش” ويقدمون لهم معلومات في غاية الدقة والحساسية؟ كان ذلك السؤال الأبرز ضمن فيلم استقصائي من جزأين بعنوان “سيناء.. حروب التيه”، أذاعته قناة الجزيرة بالأمس ضمن برنامج “المسافة صفر”.
“حروب التيه” يكشف شبهة تسريب معلومات عن التحركات العسكرية لضباط كبار ممن استهدفهم تنظيم الدولة “داعش”، وقضية تشكيل الجيش مجموعات مسلحة من أبناء سيناء للمشاركة في الحرب على التنظيم، مستندًا إلى صور وشهادات حصرية لعسكريين مصريين من قلب العمليات في سيناء.
رحلة البحث عن أسباب تأخر الجيش بحسم معركته في سيناء بدأت قبل انطلاق “العملية الشاملة” بأكثر من عام، بالتنسيق مع فريق ميداني متخف، لرصد ما يدور خلف أسوار التعتيم التي فرضها الجيش على المنطقة منذ الانقلاب العسكري في يوليو/تموز2014.
ما وراء استهداف قادة كبار من الجيش والشرطة
حددت العملية الشاملة التي انطلقت 9 من فبراير/شباط 2018 كثير من الأسئلة بشأن ماهية هذه الحملات المتتالية، وأسباب تأخر الجيش المصري في حسم المعركة بعد أكثر من 6 سنوات من الصراع المسلح في سيناء التي يواجه فيها مخاطر كبيرة خلال التحرك في مناطق الشرق.
وفيما يرى البعض أن قوات الجيش حققت نجاحات كبيرة في الحرب على تنظيم القاعدة، ما دفع التنظيم لشن هجمات مضادة على قوات الأمن خارج سيناء، يرى آخرون أن للجيش إخفاقات مكنت تنظيم الدولة من توسيع مناطق نفوذه وسط وغرب سيناء بعدما كانت منحصرة عام 2013 في مناطق شرق سيناء، وتحديدًا في رفح والعريش والشيخ زويد.
ورغم انعدام الحديث عن وجود منشقين في الجيش، فإن هناك الكثير من الشواهد التي ساقتها القناة في إطار تحقيقها والتي تدل على هذه الفرضية، وليس أكثر من ذلك دليل ما حدث لوزيري الدفاع والداخلية السابقين في أثناء زيارتهما السرية إلى سيناء، وحينها اُستهدفت طائرتهما في مطار العريش، وقُتل على إثر ذلك العقيد طيار محمد رفعت المندوه، وقُتل معه المقدم إسماعيل الشهاوي.
#سيناء_حروب_التيه هو حصاد عام كامل من العمل الميداني والبحث والتحري #الجزيرة
— Salam Hindawi (@salamhindawi2) July 29, 2018
وفي سياق التحقيق جرى كشف نمط محدد من استهداف قادة كبار من الجيش والشرطة منهم مفتش الأمن العام بقطاع سيناء والقناة العقيد ياسر محمد الحديدي، وكان يقوم بزيارة غير معلنة، ومع ذلك اُستهدف موكبه العام الماضي بوسط مدينة العريش.
وكانت عملية كمين البرث التي أعلن تنظيم “داعش” تبنيها، الخيط الأول الذي فتح بابًا من الفرضيات، أهمها قدرة التنظيم على استقصاء معلومات دقيقة عن الجيش والشرطة، ورسم خرائط داخلية لتلك القوات تمكنه من توجيه ضربات مباشرة ومؤثرة.
التحقيق سار في مسارين، أولهما التواصل مع مصادر من 4 قبائل رئيسية في سيناء (السواركة والرميلات والترابين والفواخرية)، في محاولة للوصول إلى عناصر قيادية في مجموعات قبلية مدعومة من الجيش، أو تلك العناصر القبلية المنتمية لتنظيم الدولة، أما المسار الثاني فتمثل في الوصول إلى عسكريين خدموا في سيناء بدءًا من عام 2015 وما بعدها.
الضابط الذي رفض كشف هويته، كونه ما زال في الخدمة العسكرية، تحدث عن دوافع انضمام ضباط للتنظيم، وأرجعها إلى دوافع كيدية وانتقامية بحتة بعيدًا عن الاقتناع بأفكار التنظيم
ورغم رفض المخولين من الأجهزة الأمنية بالحديث إلى بعض وسائل الإعلام – خاصة قناة الجزيرة – فإن شهادة ضابط في الجيش أضفت بُعدًا أكثر قتامة بشأن الأسباب التي قد تدفع بعض الضباط إلى الانضمام لتنظيم مدرج في قوائم الإرهاب.
الضابط الذي رفض كشف هويته، كونه ما زال في الخدمة العسكرية، تحدث عن دوافع انضمام ضباط للتنظيم، وأرجعها إلى دوافع كيدية وانتقامية بحتة بعيدًا عن الاقتناع بأفكار التنظيم، كأن يتم فصله من الخدمة أو له عداوة شخصية مع أحد الأفراد داخل المؤسسة العسكرية، وهو ما حدث بين المقدم أحمد شعبان والرائد وليد شرباص الذي تواصل مع جماعات مسلحة فأنهوا حياته عبر كمين مدبر، وهو في طريقه للشيخ زويد.
العقيد أحمد المنسي له دور في تأسيس “ميليشيات قبلية مسلحة”
المنسي.. حقيقة الأسطورة التي فُرضت على الشعب
تسرب المعلومات للمسلحين لأغراض كيدية وانتقامية فتح الباب واسعًا لتفسير أحداث أكبر وأكثر غموضًا اُستهدفت فيها شخصيات أمنية رفيع المستوى، ويزيد الأمر غموضًا ما قاله ضابط الجيش الذي رافق قائد فرقة الصاعقة 103 العقيد أحمد المنسي لمدة 6 أشهر، حيث أكد الضابط أن غرفة عمليات الجيش تجاهلت استغاثات المنسي وكتيبته في أثناء الهجوم على كمين البرث.
وسلطت عملية كمين البرث الضوء على فكرة تسليح بعض القبائل البدوية التي لجأ إليها الجيش المصري في مواجهة تنظيم الدولة على غرار تجربة الجيش الأمريكي في العراق عام 2007، عندما فشل في تحقيق أهدافه المرجوة، فشكل وقتها ما عُرف بـ”مجالس الصحوات” وهي ميليشيات مسلحة من نفس بيئة الخصوم، تتبع أساليب حرب العصابات على عكس الجيوش النظامية.
نظرًا لإشراف الضابط أحمد المنسي على تدريب وتسليح وتنسيق الجماعات القبلية المسلحة، كُشف فيما بعد أن ذلك كان سببًا رئيسيًا من أسباب استهدف الكمين الذي كان فيه
المنسي الذي تتغنى الألسنة باسمه، وفُرضت أغنية ذكر فيها على المدارس، وتعتبره القوات المسلحة أيقونة المقاومة ضد الجماعات الجهادية حتى آخر لحظة، كان – بحسب ما ساقه التحقيق من أدلة – له دور في تأسيس “ميليشيات قبلية مسلحة” أو ما تعتبرها القوات المسلحة قوات معاونة لها من أهل المكان، لأنهم أكثر دراية بطبيعة البيئة الصحراوية في سيناء.
ونظرًا لإشرافه المباشر على التدريب والتسليح والتنسيق، كُشف فيما بعد أن ذلك كان سببًا رئيسيًا من أسباب استهدف الكمين الذي كان فيه، وحصلت الجزيرة على لقطات قالت إنها من هاتف جوال لعنصر في الجماعات القبلية، وتُظهر بعض الأفراد المسلحين في منطقة البرث في انتظار إشارة التدخل في أثناء محاولات التصدي لهجوم تنظيم الدولة على كمين البرث.
الصفر ليست في المسافة
كل مصر أصفار يا حسافة#سيناء_حروب_التية#المسافة_صفر pic.twitter.com/8ikZtCRJzI
— ndo7a (@ndo7a) ٢٩ يوليو ٢٠١٨
ومنذ أن بدأ الجيش عملياته في 2011، لم يخل معسكر أو حاجز تفتيش أو تحرك ميداني لقوات الجيش من عناصر قبلية لمرشدين لديهم خبرة بالمكان وأهله، لكن الأمر تطور في أبريل 2017 بتأسيس مجموعات مسلحة من بعض القبائل بعد نشوب خلافات بين عناصر من التنظيم وأفراد من قبيلة الترابين يعملون في التهريب.
خلال التحقيق تمكن المتخفون من لقاء عنصر في هذه المجموعات، وتحدث عن بداية تشكيل القوات والمجموعات المسلحة داخل سيناء، وأسبابها التي أرجعها إلى ردة فعل لحماية التجارة من تنظيم “داعش”، في حرب أُطلق عليها “حرب السجائر”.
وعلى خلفية هذه الحرب غير المعلنة، وصل إلى قرية البرث في الـ25 من أبريل 2017، قادة من الجيش الثاني والثالث الميدانيين قادمين من منطقة القسيمة وسط سيناء مع مدرعات ودبابات، وعرضوا على بعض القبائل التسليح من أجل مواجهة تنظيم الدولة، كان ذلك بحضور المنسي وأحد الرموز القبلية ويُدعى إيراهيم العرجاني.
إبراهيم العرجاني برفقة السيسي
الخلفية المدنية لاستثمار الجيش في سيناء
التحقيق أيضًا ألقى الضور على بعض الشخصيات القبلية المدنية التي يُسمح لهم بمواجهة الجماعات المسلحة، ومنهم إبراهيم العرجاني الذي ينتمي لقبيلة الترابين وصاحب تجارة التهريب في سيناء، وله صلة بجهاز المخابرات وعلى علاقة بنجل السيسي، كما ظهر إلى جوار السيسي في أكثر من لقطة.
لعل علاقته بالسيسي والمخابرات ما أهله لإدخال السيارات إلى قطاع غزة في صفقة كبيرة رغم الحصار الرسمي المفروض من الدولة عليها، كما كانت تلك العلاقة سببًا في محاولة فاشلة لاغتياله في القاهرة الجديدة عام 2016، والغريب – بحسب ما ورد في التحقيق – أن العرجاني احتجز قبل ثورة يناير وحدة كاملة من الشرطة بعد مقتل أخيه، واستجوبهم لمعرفة القاتل.
#حروب_التيه ابن السيسي بدأ يأسس البيزنس بتاعه من تهريب سلاح ومعدات لغزة واحنا اللي فاكرين أبوه محاصرها
— علي الوعد (@mo3aned_3) July 30, 2018
أما موسى الدلح فينتمي لنفس القبيلة، وشريك للعرجاني في الاستثمارات التي يقوم بها لصالح الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، ورغم الأحكام الصادرة بحقه في قضايا قتل ومخدرات، فإن علاقته بالمخابرات تخرجه من كل هذه القضايا، ويقود الدلح الميليشيات المسلحة بعد اغتيال سالم لافي أشهر مهربي المخدرات في سيناء.
ليس غريبًا أو مستبعدًا بعد تهديد تجارة بملايين الدولارات أن يكون تشكيل مجموعات قبلية مسلحة في سيناء على يد مهربين مقربين من دوائر السلطة بغرض ضمان سريان التجارة، وليس مجرد الهدف المعلن وهو محاربة تنظيم مدرج ضمن قوائم الإرهاب.
بل ليس مصادفة استمرار تدفق بضائع بعينها مثل السجائر إلى قطاع غزة، في الوقت الذي تمنع فيه السلطات المصرية موردي المواد الغذائية إلى القطاع، الأمر اللذي ربما فطن إليه بعض شيوخ قبائل سيناء.
نقلًا عن الجزيرة:
المسافه صفر:
مجرمون محكوم عليهم في قضايا جنائية تتعلق بالقتل وتهريب المخدرات على علاقة وطيدة بنجل السيسي والمخابرات العامة لغرض التجارة أو لقيادة الميليشيات الموالية#سيناء_حروب_التيه#ارحل_ياسيسي pic.twitter.com/FBdCpJqjGS
— ميدان رابعة العدوية (@Isalmnahaya) ٢٩ يوليو ٢٠١٨
عين التنظيم داخل الجيش
“أتذكر عندما كنت في “سرية أبو بكر الصديق” في ميدنة الشيخ زويد، أتت المعلومات من “مفرزة سهم 55” للقادة وجنود الولاية بأن معلومة مصدرها ضابط في الجيش المصري بقيام الجيش باقتحام أحد الأماكن التي تتبع تنظيم “ولاية سيناء” في منطقة الشيخ زويد”.
يقول أحد الأفراد المنشقين عن التنظيم بعد عامين من القتال في صفوفه، معترفًا بأن بعض ضربات الجيش كانت تصيب التنظيم في العمق وتفقده قيادات من الصف الأول، لا سيما في أثناء محاولة السيطرة على مدينة الشيخ زويد ورفح.
تشكيل مجموعات قبلية مسلحة في سيناء على يد مهربين مقربين من دوائر السلطة بغرض ضمان التجارة
المقابلة كشفت أيضًا دور الخلايا الأمنية داخل التنظيم في معارك الكرو الفر مع قوات الأمن، حيث كان التنظيم يحصل على معلوماته من خلال “مفرزة مجد” و”مفرزة سهم 55″، وهي أجهزة تتبع وترصد التحركات، كما تفعل المخابرات.
من الأمور المهمة أيضًا التي كُشفت توجه بعض أفراد الجيش إلى أشخاص معنيين داخل التنظيمات الإرهابية لربطهم بعين داخل الجيش، ومن خلالهم حصل التنظيم على معلومات حساسة جدًا، تم تعميمها فيما بعد على “سهم 55” التي من مهامها التعميم بإيعاز الأوامر إلى قادة وجنود التنظيم.
ثاني يوم من بث الجزيرة فيلم #سيناء_حروب_التيه.. وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي يتوجه إلى شمال سيناء ويتفقد الجيش. #المسافة_صفر https://t.co/COEPa0QaXQ
— Salam Hindawi (@salamhindawi2) July 30, 2018
شهادة المقاتل السابق في تنظيم الدولة، مضافًا إليها شهادات العسكريين قد تفسر كثيرًا من الأحداث الغامضة التي قُتل وأُصيب فيها ضباط كبار حامت الشبهات كثيرًا بشأن طريقة استهدافهم، كقائد كتيبة الصاعقة أحمد المنسي والحكم السابق لمدينة بئر العبد أحمد الكفراوين وقائد ثان قطاع شمال شيناء محمد سلمى السواركة، وقائد العمليات بالجيش الثاني الميداين خالد توفيق، ومحاولة اغتيال وزيري الدفاع والداخلية السابقين.
استمرار انضمام ضباط من الجيش والشرطة قد يعني صعوبة المواجهة بالنسبة لقوات الأمن
استمرار انضمام ضباط من الجيش والشرطة، سواء كانوا سابقين أم حاليين إلى الجماعات المسلحة، قد يعني صعوبة المواجهة بالنسبة لقوات الأمن، ومع تزايد احتمال وجود اختراق في الأجهزة الأمنية والعسكرية بسيناء، يبرز التساؤل عما إذا كان ذلك أحد أهم أسباب تأخر الجيش في حسم المواجهات منذ أكثر من 4 سنوات في سيناء.