رغم المعتركات السياسية التي يمر بها العراق منذ أكثر من عقد، وكذلك الحرب على الإرهاب، فإن الاهتمام بالكتاب والثقافة لم يمت، ربما تراجع في بعض السنوات بسبب الظرف الأمني لكنه لم يتوقف إطلاقًا، وفي الآونة الأخيرة تحول الاهتمام بالثقافة على شكل شوارع على غرار شارع المتنبي في بغداد والنجفي في الموصل، وأصبحت الظاهرة عراقية في محافظات متعددة.
ما أهمية الشوارع الثقافية؟
ما يميز المجتمعات هو مدى اعتنائها بالعلم والثقافة، وما انتشار المكتبات والشوارع والمقاهي الثقافية إلا دليل نضج المجتمع وتقدمه، وفي حوار مع الباحث جاسم السدر حدثنا عن فائدة هذه الشوارع قائلًا: “برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة الشوارع الثقافية في العراق مما يؤشر على عمق تأثير القراءة والشغف بالكتاب على امتداد رقعة الوطن، من بغداد في الوسط إلى الموصل وأربيل شمالاً وحتى البصرة في الجنوب، تفتح الشوارع الثقافية أبوابها لتستقبل القرّاء وعشاق الكتب ونوادي للقراءة تعقد وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تعرِّف بالكتب، وتتبنى عملية التوصيل حيثما وجد الراغبون بالاقتناء”.
بدأت الشوارع الثقافية تعدُ مناراتٍ للتأثير ومناقشة الأفكار
وأضاف السدر: “من شارع المتنبي في بغداد انطلقت فكرة الشوارع الثقافية كنوع من المحاكاة له، وتعميمًا لفكرة نشر الثقافة والترويج للكتب، شباب كثر أخذوا على عاتقهم المساهمة في فتح الشوارع الثقافية، تحفزهم قناعة أن التغيير يبدأ من عالم الأفكار الذي تعد لبناته الأولى قراءات في كتب وحوارات في قضايا ثقافية متنوعة، وعلى جوانب الشوارع الثقافية تتوهج عناوين الكتب، يستجيب المارون لشغفهم، يروون فضولهم، ويقتنون كنوز الأفكار، قناعة منهم أن الطريق إلى الرقي، شفرته كلمة”.
بدأت هذه الشوارع تعدُ مناراتٍ للتأثير ومناقشة الأفكار، وفي هذا السياق قال السدر: “تعد الشوارع الثقافية أحد أبرز عوامل التأثير في الأفراد، وذلك لتنوع المدخلات الثقافية والفكرية والحوارية في مناخات تهيأت بعد عقود من التصحر، مما يعد فرصة جديدة ونافذة مشرعة الأبواب تستوعب الداخلين إليها من مختلف الأعمار والتخصصات مع غلبة واضحة للشريحة الشبابية، مما سيعود حتمًا بالتأثير الكبير على المجتمع بعمومه، لما يمتلكه الشباب من طاقة وفاعلية وأمل في المستقبل”.
صورة من رصيف الكتب في الموصل تظهر رجال كبار يتصفحون الكتب
ما أبرز الشوارع الثقافية قديمًا وحديثًا؟
اشتهرت في كل دول العالم شوارع ومنتديات وأسواق خاصة لبيع الكتب، وأصبحت فيما بعد منبرًا ثقافيًا يقصده كل المهتمين بالعلم والثقافة، وكذلك الحال في العراق اشتهرت مجموعة من الشوارع بالطابع الثقافي والعلمي، فتحولت من أسواق عادية إلى أسواق ثقافية، وما زالت إلى اليوم تنمو وتتطور الفكرة ومن أبرز هذه الشوارع:
1. شارع المتنبي
يقع شارع المتنبي في قلب العاصمة العراقية بغداد بمنطقة يطلق عليها اسم “القشلة”، إلى أوخر العصر العباسي، كما عرف بداية الأمر باسم “درب زاخا”، واشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضان أعرق المؤسسات الثقافية، وفي عام 1932 أطلق عليه اسم المتنبي، في عهد الملك فيصل الأول، تيمنًا بشاعر الحكمة أبو الطيب المتنبي.
ما زال شارع المتنبي إلى يومنا يزخرُ بحركةٍ مستمرة ودائبة للمثقفين، بالإضافة إلى الفعاليات التي تقام في القشلة، كمناقشة الكتب والحوار بين المفكرين من شتى الاتجاهات
يبدأ الشارع الذي يمتد لأقل من كيلومتر، بتمثال للمتنبي مطل على نهر دجلة، وينتهي بقوس بارتفاع نحو 10 أمتار، نقش عليه بيت الشعر الأشهر للمتنبي “الخيل والليل والبيداء تعرفني … والسيف والرمح والقرطاس والقلم”.
وما زال الشارع إلى يومنا يزخرُ بحركةٍ مستمرة ودائبة للمثقفين، بالإضافة إلى الفعاليات التي تقام في القشلة، كمناقشة الكتب والحوار بين المفكرين من شتى الاتجاهات.
بائع كتب على رصيف شارع المتنبي
2. شارع النجفي
يعتبر شارع النجفي من الشوارع الثقافية القديمة في العراق يأتي بالشهرة بعد المتنبي، يعود تاريخ بنائه إلى مطلع القرن التاسع عشر، وتحديدًا سنة 1913 عندما قرر والي الموصل (سليمان نظيف باشا) فتح شارع يربط بين شارع نينوى وشارع المحاكم (العدالة حاليًّا)، وكانت العجلات ووسائط النقل تمر من خلاله منذ افتتاحه إلى إغلاقه بداية السبعينيات واقتصاره على مرور المشاة.
ويستمر الشارع في ازدهاره وتطوره، فقد هدمت أسرةُ النجيفي سنة 1959 بيتها القديم والمحلات الكائنة على جانبي الشارع وشيدت بدلًا عنهما عمارتين متقابلتين، كما تبعهم بنفس العمل عائلة عبد الباقي الشبخون، إذ شيدوا عمارة الشبخون سنة 1984.
إلا أن شارع النجفي لم يسلم من الإرهاب الفكري والعسكري، فتحول الشارع بعد تحرير الموصل إلى شارع خاوٍ على عروشه خالٍ من المثقفين وغابت عنه الحياة تمامًا، ولكن ما زال الأمل بعودته من جديد إلى الحياة.
شارع النجفي في مطلع القرن الماضي
3. فراهيدي البصرة
على غرار شارع المتنبي أقام مجموعة من الناشطين شارع ثقافي في مدينة البصرة وفي تقرير لـو1ن نيوز جاء فيه: “حيث بدأت المبادرة من البصرة بافتتاح شارع أطلق عليه اسم “الفراهيدي”، بعد أن أطلق ناشطون مدنيون في محافظة البصرة، المبادرة بتحويل أحد الشوارع إلى “شارع للثقافة”، الأمر الذي وجدت فيه المحافظة مبادرة “ترويحية، من شأنها تدعيم الثقافة البصرية”.
كما جاء في التقرير أن المبادرين أطلقوا تسمية “الفراهيدي”، تكريمًا للغوي البصري الشهير الخليل بن أحمد الفراهيدي، بعد سلسلة من الاتفاقات والتحضيرات لافتتاحه، وتأتي المبادرة لدعم مشروع اختيار البصرة عاصمة للثقافة العربية خلال العام 2018، بعد أن قدمت الحكومة ملف المحافظة رسميًا لهذا الغرض.
شارع الفراهيدي في البصرة
4. شارع الثقافة
ليس بعيدًا عن البصرة وفي جنوب العراق في محافظة كربلاء يقع هذا الشارع الذي أقامه مجموعة من الشباب، وجاء في تقرير لـو1ن نيوز: “وفي 31 من تموز الماضي، افتتحت “حملة شبابنا” شارع الثقافة والفنون الأول في كربلاء، ليكون رافدًا مهمًا من روافد بث الوعي الثقافي، وذلك في إحدى حدائق الجزرات الوسطية وسط المدينة، وشمل الافتتاح إقامة معرض للكتاب ضم أكثر من 600 عنوان، فضلاً عن معرض تشكيلي ضم 100 لوحة تخطيطية و50 لوحة تشكيلية لفنانين محترفين وهواة، وعرض مسرحي صامت ومعرض للخزف والأعمال اليدوية، فضلاً عن مشاركة شعراء شعبيين بتكاليف جمعها المشاركون في افتتاح الشارع من أكثر من 100 شاب وشابة، وأطلقت المبادرة من “حملة شبابنا”، بالتعاون مع مشروع (هدف)، مع مراعاة أن يكون افتتاح الشارع أيام الجمعة مساءً، لضمان عدم تقاطعه مع (صلوات وخطب الجمعة )”.
شارع الثقافة في كربلاء
هذه أبرز الشوارع الثقافية العراقية قديمًا وحديثًا، لم نستعرض كل الشوارع، وإنما ذكرنا بعضًا منها والحديث عنها بشكل مختصر، وما زالت المبادرات تتوسع، ففي محافظة النجف يوجد شارع للثقافة أطلق عليه اسم “دعبل الخزاعي” بالإضافة لمحافظة الناصرية أطلقوا عليه اسم “طه باقر” كما افتتح في محافظة واسط شارع دجلة.
مستقبل الثقافة في العراق
بعد هذه الثورة الكبيرة التي شهدها العراق في الآونة الأخيرة في افتتاح عدد كبير من المقاهي والشوارع الثقافية يتساءل الكثير عن مستقبل الثقافة في الظرف الحاليّ، وهنا يتحدث الناقد والأكاديمي الدكتور أحمد الظفيري قائلاً: “مستقبل الثقافة في العراق بكل الأحوال أفضل بكثير من الدول العربية، بسبب اعتياد الفرد العراقي على القراءة أو التقصي والسؤال، لكن يبقى هناك رهان مهم يعتمد على مدى حرية الثقافة وتقبل الآخر وتنوع الآداب والفنون، فقد ورث العقل العراقي عبر العصور ديكتاتورية فكرية أخذت إقصاء الآخر فكريًا وثقافيًا، فنجد مثلًا بعض شعراء العمود يستقلون من شعراء النثر، وبالعكس يرى شعراء النثر جمود العموديين، وهكذا في جميع أنواع الفنون، هناك صراعات بين المدارس والأفراد، هذا كله قد يضعف الجانب الثقافي من جهة، ومن جهة أخرى إهمال الدولة لهذا الجانب وتقليل أهميته ألقى بظلاله على واقع الثقافة العراقية، ومن المهم أن نتذكر دومًا أعداد الأميين الكبيرة التي أصبحت في العراق، وهي أرقام قد تعيد تشكيل المشهد الثقافي بأن تتحول الثقافة لسطيحة كبيرة، وأعتقد أننا الآن نلتمس ذلك في الأغاني وفي الشعر الشعبي الذي فقد هويته وعمقه وأصبح ساحة للتفاخر الفارغ الذي يعمق المشاكل الاجتماعية والمناطقية”.
وفي حديثه عن النهضة الثقافية أضاف الظفيري “النهضة الثقافية تستلزم برنامجًا حكوميًا شاملاً يعيد للعراق وجهه المضيء الذي كان يشع دومًا في جميع أنحاء العالم”.
تمثال أبو الطيب المتنبي بالقرب من شارع المتنبي
لعل من مستلزمات نضج المجتمعات ونهوضها وتوجهها إلى الأمام مدى الاعتناء بالثقافة، وتحويل الثقافة من مجرد فكرة إلى سلوك عملي، تتجلى صورته بالحوار الحضاري والنقاش الفكري البعيد عن التشنج والتطرف، وأرى أن هذه الشوارع ستشهد تلاقحًا بالأفكار بين كل التيارات الموجودة في الساحة العراقية.