مَنْ يتابع تحركات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجولاته الخارجية يجد أنه يخصص جزءًا كبيرًا منها للقارة السمراء رغم بعد المسافة بين بلاده وإفريقيا، فأردوغان الزعيم الأول الذي زار الصومال عام 2011 في وقتٍ كانت فيه مقديشو عاصمةً شبه معزولة عن العالم منذ اندلاع الحرب الأهلية التي انتهت إلى انفصال الجزء الشمالي ونشأة ما يسمى بـ”جمهورية أرض الصومال” وهي دولة غير معترف بها عالميًا.
والأسبوع الماضي أجرى الرئيس أردوغان جولة إفريقية جديدة شملت جنوب إفريقيا وزامبيا، ابتدأها من مدينة جوهانسبرج التي احتضنت اجتماع القمة العاشرة لرؤساء دول مجموعة “بريكس” التي تضم كلًا من: جنوب إفريقيا والبرازيل وروسيا والهند والصين، وقد دُعي أردوغان إلى القمة بصفته رئيسًا للدورة الحاليّة لمنظمة التعاون الإسلامي.
وتكمن أهمية جولة أردوغان الإفريقية الأخيرة من كونها الأولى له في القارة السمراء بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 23 من يونيو/حزيران الماضي إلى جانب توقيتها الذي يصادف استقطابًا إقليميًا حادًا على دول القارة.
زيارة أردوغان التاريخية إلى الصومال
سنعود إلى قمة البريكس وما دار في زيارة الرئيس التركي لجنوب إفريقيا وزامبيا، ولكي نتعرف أكثر على عمق العلاقات التركية الإفريقية نشير إلى أن أردوغان استُقبِل استقبال الأبطال في زيارته التاريخية للصومال عام 2011، فقد خرجت حشود غفيرة من المواطنين بصورة عفوية للترحيب بالرجل الذي تجاهل كل المحاذير الأمنية، إذ كانت مقديشو تعد من أخطر المدن وأقلها أمنًا على مدى عقدين من الزمان.
ورسّخ هبوط الطائرة التركية التي تقل عقيلته و5 من الوزراء في مطار “آدم عدي الدولي” بعد أيامٍ قليلة من طرد حركة الشباب المتطرفة انطباعًا لا ينسى في وجدان الشعب الصومالي الوفي.
زيارة أردوغان للصومال 19/8/2011
قبل ذلك زار أردوغان مصر في العام 2004 بعد عامين فقط من توليه رئاسة الوزراء، وفي العام التالي 2005 وصل العاصمة السياسية للاتحاد الإفريقي “أديس أبابا” بالإضافة إلى قيامه بجولةٍ شملت جنوب إفريقيا وتونس والمغرب في العام نفسه.
وتوالت زيارات أردوغان بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية التركية حتى ضمّت معظم دول القارة السمراء، ويلاحظ أنها آتت أكلها على الصعيد السياسي بتعزيز علاقات الأخوة والتنسيق السياسي والأمني، فضلًا عن أنها حققت أهدافها فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية فقد تضاعف حجم التجارة بين تركيا والدول الإفريقية عدة مرات منذ العام 2003.
هل تنضم تركيا إلى تجمُّع البريكس (BRICS)؟
نعود إلى قمة البريكس التي استضافتها جنوب إفريقيا بمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والبريكس عبارة عن مجموعة اقتصادية تأسست عام 2008 وتضم أكبر الكيانات العالمية اقتصاديًا، وترجع تلك التسمية اختصارًا للحروف الأولى اللاتينية لدول الأعضاء الخمس التي تتشكل منها المجموعة وهي على التوالي كل من (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، وقد تم عقد أول قمة لها في شهر يونيو/حزيران 2009.
مقر مجموعة “بريكس” يقع في مدينة شنغهاي الصينية، كما تم افتتاح البنك الجديد للتنمية، التابع للمجموعة أيضًا في المدينة نفسها، ويتناوب أعضاء المجموعة الخمسة رئاستها سنويًا، بشكل دوري فيما بينهم
واتفقت الدول الخمسة فيما بينها على إنشاء كيان اقتصادي “مضاد” للكيانات الاقتصادية الغربية المتمثلة في “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، وتضم نظامًا بنكيًا عالميًا جديدًا يقضي على سياسة “القطب الواحد” التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على مقدرات العالم واستغلاله اقتصاديًا، عبر توجيه السياسات الاقتصادية، وفرض قيود تتحكم في الدول النامية من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين، خاصة على الدول النامية وبلدان العالم الثالث.
علمًا أن مقر مجموعة “بريكس” يقع في مدينة شنغهاي الصينية، كما تم افتتاح البنك الجديد للتنمية، التابع للمجموعة أيضًا في المدينة نفسها، ويتناوب أعضاء المجموعة الخمسة رئاستها سنويًا، بشكل دوري فيما بينهم.
دول مجموعة بريكس تسيطر على أكثر من 20% من الاقتصاد العالمي، ويشكل سكان دول المجموعة 40% من إجمالي سكان العالم (وكالة الصحافة الفرنسية).
وكما ذكرنا دُعيت تركيا ممثلة في رجب طيب أردوغان لحضور اجتماع البريكس في جوهانسبيرج بصفته رئيسًا حاليًّا لمنظمة المؤتمر الإسلامي حيث انتهز فرصة مشاركته في الاجتماع، وطالب زعماء دول “بريكس” أن يسمحوا بانضمام أنقرة إلى هذه المجموعة.
ولمّح أردوغان إلى أنه تلقّى إشارات إيجابية من قادة المجموعة وخاصة الصين التي ذكر أنها تدعم التوسعة، وأضاف: “نحن شركاء مع هذه الدول الخمسة ضمن مجموعة العشرين الكبار، أتمنى أن تتخذ خطوات لا بد منها لقبول عضويتنا كي نحتل مكاننا في بريكس”.
تنسيق أمني مع القارة السمراء
نقلت صحيفة يني شفق التركية، أن أردوغان وصف زيارته لجنوب إفريقيا بالمثمرة، وقالت إنه التقى في إطار زيارته مسلمين ومواطنين أتراك في جنوب إفريقيا، وتشاور معهم عن المشكلات التي تواجههم، وعلى رأسها تغلغل منظمة “غولن” الإرهابية، ومقترحات لمواجهتها.
تؤكد مصادر المخابرات التركية أن عدد من كوادر منظمة غولن يقيمون حاليًّا في بعض المدن الجنوب إفريقية مثل العاصمة بريتوريا وجوهانسبرج وغيرهما، والتنظيم الإرهابي هناك يتغلغل في مجموعة من الأنشطة والشبكات غير القانونية في البلاد، بحسب المصادر ذاتها
إذًا فقد طغت الجوانب الأمنية بشكلٍ خاصٍ على زيارة أردوغان، فمنظمة غولن تشكل هاجسًا كبيرًا لأنقرة، وتشير التسريبات إلى أن الرئيس التركي طلب من سلطات جنوب إفريقيا عدم التسامح مع أعضاء التنظيم في أراضيهم، إذ فرّ عدد كبير من مقاتلي التنظيم المذكور إلى العديد من الدول الإفريقية، عقب فشل محاولة الانقلاب التي جرت في 15 من يوليو/تموز 2016.
وتؤكد مصادر المخابرات التركية أن عدد من كوادر منظمة غولن يقيمون حاليًّا في بعض المدن الجنوب إفريقية مثل العاصمة بريتوريا وجوهانسبرج وغيرهما، والتنظيم الإرهابي هناك يتغلغل في مجموعة من الأنشطة والشبكات غير القانونية في البلاد، بحسب المصادر ذاتها.
12 اتفاقية مع زامبيا
عقب مشاركته في قمة البريكس ولقاءاته مع مسؤولي جنوب إفريقيا غادر أردوغان جوهانسبرج إلى العاصمة الزامبية لوساكا، وأعلن السبت الماضي أنه وقّع 12 اتفاقية بين بلاده وزامبيا، حيث شملت الاتفاقات الموقعة بين الجانبين قطاعات الزراعة والسياحة والتعليم والأمن.
أردوغان ونظيره الزامبي إدغار لونغو
وعلّق وزير خارجية زامبيا جوزيف مالانجي، على زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبلاده، واصفًا إياها بأنها تمثل “نقطة تحول” في العلاقات الثنائية بين البلدين.
وفي تصريحاتٍ صحفية أشار مالانجي إلى أن تركيا لديها استثمارات كبيرة في إفريقيا، كما أن بلاده تبحث عن شركاء جدد، مضيفًا “تركيا لا تلعب دورًا أنانيًا، وترغب في تطوير اقتصادها، وفي الوقت ذاته تبحث عن أفضل الطرق لتطوير اقتصاد زامبيا، وهذا يصب في مصلحة البلدين”.
جديرٌ بالذكر أن زامبيا تتمتع بالأمن والاستقرار ورغم أنها بلد غير ساحلي فإنها تتمتع بمقومات سياحية جيدة وتضم عدة منتزهات وطنية كمنتزه “لوانكوا الجنوبية”، وسهول “ليوفا” و”كافوي” و”ايسانكافو”، ومن أهم المناظر الطبيعية في المنطقة توجد شلالات فكتوريا الشهيرة مما يفتح مجالات واسعة للشركات التركية كي تستثمر في صناعة السياحة والفندقة، وبدورها انتهزت الخطوط الجوية التركية الفرصة وأعلنت قُرب تسيير رحلاتها بين إسطنبول ولوساكا.
ونذكر بأن الخطوط التركية أحد أهم عناصر القوة الناعمة التركية في اختراق القارة السمراء حيث تربط المدن التركية بدول القارة الإفريقية من خلال عشرات الرحلات التي تغطي 48 وجهة إفريقة يوميًا، هذا إلى جانب وكالة التعاون والتنسيق “تيكا” الذراع الناعمة الأخرى لتركيا وهي الأخرى نفّذت مشروعات ناجحة في الدول المؤثرة بالقارة مثل إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا كما تنشط حاليًا في إعمار وتأهيل جزيرة “سواكن” السودانية على البحر الأحمر وفقًا لاتفاق بين أردوغان ونظيره السوداني أواخر العام الماضي.
ما سر الهجوم السعودي ـ الإماراتي على تغريدة أردوغان؟
فور اختتامه للجولة الإفريقية نشر الرئيس التركي جملة تغريدات على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “تويتر” تحدث فيها عن جولته الإفريقية ووصف الزيارة بأنها مثمرة، كما أعرب أردوغان عن شكره لجنوب إفريقيا على حسن الضيافة، مختتمًا تغريداته بعبارة “ليحفظ الله إفريقيا”.
ولكن كان من اللافت أن تغريداته حُظيت بمداخلاتٍ عنيفةٍ مما يعرف بـ”الذباب الإلكتروني” مع أن التدوينات لا علاقة لها بدول الخليج، الأمر الذي دعا الناشطة الصومالية هبة شوكري إلى تذكيرهم ساخرةً بأن تغريدات الرئيس التركي موجهة بالأساس إلى إفريقيا التي لا تقع في الشرق الأوسط “حسب تعبيرها”.
من الواضح أن تحركات الرئيس التركي الناجحة خاصة في القارة السمراء أصبحت تحظى بمتابعة لصيقة من دول محور “الرياض أبو ظبي مصر” في ظل التنافس المحموم على اكتساب النفوذ في القارة السمراء مع تركيا وقطر، ولعلنا نتذكر ما حدث من جدل وتصعيد إعلامي إبان زيارته للسودان أواخر العام الماضي بعد قرار عمر البشير منح تركيا حق إدارة جزيرة سواكن لفترة محددة.
نتوقع استمرار التنافس على النفوذ في القارة السمراء بين محور قطر ـ تركيا والمحور الآخر “أبوظبي ـ الرياض” الذي ينشط حاليًا لإيجاد موطئ قدم في القارة خاصة في منطقة القرن الإفريقي
ومن الواضح كذلك أن جولة أردوغان في جنوب القارة الإفريقية قد حققت مكاسب عديدة سياسية وأمنية في المقام الأول على صعيد محاربة تنظيم “غولن”، واقتصادية كما في وعود انضمام تركيا لمجموعة البريكس فضلًا عن اتفاقيات زامبيا.
فالإستراتيجية التي تبنتها أنقرة منذ العام 2002 والمتمثلة في تكثيف فتح السفارات التركية في دول القارة السمراء، تجني ثمارها الآن حيث بلغ عددها في 2018 نحو 41 سفارة، بعد أن كان عددها لا يتجاوز تسع سفارات إلى سنة 2003.
وظهرت نتائج هذا المجهود أيضًا في أرقامٍ ماليةٍ ضخمة، حيث ارتفعت قيمة التجارة بين تركيا وإفريقيا إذ تجاوز حجم الصادرات التركية للدول الإفريقية حاجز الـ65 مليار دولار، وارتفع حجم التجارة معها إلى 93.5 مليار دولار بحسب تقرير لوكالة أنباء الأناضول.
وأخيرًا نتوقع استمرار التنافس على النفوذ في القارة السمراء بين محور قطر ـ تركيا والمحور الآخر “أبوظبي ـ الرياض” الذي ينشط حاليًا لإيجاد موطئ قدم في القارة خاصة في منطقة القرن الإفريقي.