نزل قرار الهيئة الانتخابية على رؤوس التونسيين نزول الصاعقة. اليوم الثاني من شهر سبتمبر/ أيلول 2024 قررت الهيئة الانتخابية رفض ترشحات ثلاثة من المتقدمين إلى المنصب الرئاسي، وقد سبق للثلاثة أن طعنوا في قرار الهيئة الأول بالاستئناف لدى المحكمة الإدارية.
وبين الرفض الأول والرفض الثاني، عاش التونسيون أيامًا نشطة يحدوهم الأمل في انتخابات تعددية، يسقطون بها الانقلاب ويعودون إلى سيرتهم الديمقراطية التي ذاقوا حلاوتها قبله. في لحظات الأمل تلك كذّب التونسيون توجسهم وغلّبوا حسن النية.
لقد بدأوا حملات انتخابية قبل الأوان في السوشيال ميديا، واستحضروا تجربتهم الديمقراطية لكن القرار صعقهم. نكتب من داخل حالة الذهول العامة، محاولين فهم ما جرى مع شعور عميق بأن كل الأفكار مفوتة، وأن الكتابة في هذه الأيام الأخيرة للحرية هي بمثابة غسل الأيدي فوق قبر الميت.
بضعة أمتار فقط
سخافة حجّة الهيئة الانتخابية في عدم اعتماد حكم المحكمة الإدارية بإعادة المترشحين الثلاثة إلى السباق الانتخابي، تعري نية الهيئة ومن نصّبها، فالمسافة الفاصلة بين مقر المحكمة ومقر الهيئة يقاس بالأمتار، وكان يمكن لأي ساعٍ على قدميه أن يبلغ الحكم، وكان يمكن للهيئة أن ترسل في طلبه ساعيًا حافي القدمين، لكنها اصطنعت ذريعة عدم وصول حكم المحكمة.
كذّب الناطق باسم المحكمة ذلك في الدقائق الموالية لقرار الهيئة، لكننا نظن يقينًا أنه لو جلب القضاة الـ 27 نصَّ الحكم بأيدهم، لقيل لهم هذه طريقة غير رسمية للتبليغ، فالنية أوضح من أن تخفى بلغو مماثل.
كل عقلاء البلد كانوا يعرفون هذه النية المبيّتة في فسح الطريق للمرشح الوحيد، لكنهم آثروا المعارضة بالقانون، وساروا عبر الزواريب المفتوحة حتى نهاية الطريق، وهم الآن في آخر الطريق، ولم تتبقَّ لهم نوافذ يمكن المرور منها إلى أي خطوة قانونية، لقد أغلقت الهيئة الباب وأعلنت سيادتها المطلقة على العملية الانتخابية.
كانوا يعرفون ويزداد يقينهم كل يوم بانعدام الأمل، لكنهم قاوموا بأسلم الطرق. هل كانت تلك هي الطرق الوحيدة للمقاومة؟ نقول لا ونفسّر.
فشل خيار القانون بديلًا للشارع
هذه حقيقة اللحظة: النضال القانوني مع انقلاب اعتدى بأريحية على دستور مجمع عليه، كان علامة فارقة أن المعارضة بالقانون لن تجدي نفعًا، وكان الدرس المصري ماثلًا للعيان. لماذا إذًا لم يعارض التونسيون الانقلاب بالشارع؟
لأنهم ببساطة ليس لهم شارع. لأن ليس لهم أحزاب وليس لهم قيادات للشوارع، وليس لهم بالخصوص صبر على الشارع. وهذا الفراغ يعرفه الانقلاب، لذلك لم يحترم المترشحين ولا الجمهور الذي تحمس لهم وقد شرع يستعد للانتخابات.
هنا نعيد النظر في وقائع تاريخية كثيرة لنرتّب ما يجري ضمن ما جرى، لأننا نتذكر الاعتصام الكبير الذي نُظّم أمام البرلمان في العام 2013 وانتهى بإسقاط حكم الترويكا، أين ذهب ذلك الشارع؟
نجيب بلا وجل، ذلك الشارع في حقيقته لا يزال مع الانقلاب ويتظاهر بمعارضته. لقد نُصبت خيام للمعتصمين بأجر جزيل، وكان الممولون يغدقون العطاء ويبيتون في قصورهم. ورغم أن هؤلاء الممولين يعانون اليوم من انسداد الأفق الاقتصادي، إلا أنهم لا يظهرون في الصورة لتمويل اعتصام آخر، فالموازنة عندهم أن حكم الانقلاب أهون عليهم من حكم الديمقراطية. إن الحريات تزعجهم وهي ليست مطلبهم بالمرة، الحرية مطلب فئوي لأبناء المدارس الذين يعيشون في كرّاستهم النظرية.
أما الأبطال المنتشرون في السوشيال ميديا والمتحدثون في كل موضوع، فتكفيهم قنابل الغاز المسيل والانقلاب يعرف ويستمر في غيه، ولا يظهر أي علامة تقدير للشارع المتوهّم.
الشارع النظري
نظريًا يوجد عندنا شارعان يمكنهما التحرك والاحتجاج، الأول هو شارع حزب النهضة، وهذا الشارع مشتّت وقيادته مسجونة، وهو فوق ذلك ممنوع من الترشيح والمشاركة، ويعيش مرارة الإقصاء والامتهان، فالجميع يسعى إليه كناخب صامت لا كشريك حكم.
أما الشارع الثاني (في الترتيب لا في العدد) هو شارع السيد منذر الزنايدي، مرشح منظومة الحكم وأصحاب رؤوس الأموال وزبانيتهم من اليسار الفرانكفوني، وقد كان الرجل مختفيًا في أعماله حتى فُتحت نافذة الانتخابات، فظهر وبدأ الحديث عن حق تاريخي في الحكم، وها هو الآن يسقط قبل أن يبلغ مطمحه، فهل سيحرك شارعه؟
نجزم أن سيعود إلى صمته، وقد يتحدث بألمه إلى أصدقائه في عالم المال والأعمال، فينتهون بأن الأمر محتمل، فأعمالهم تسير رغم “شوية تضييقات ضريبية يمكن احتمالها”. المنظومة القديمة لا تعرف الشارع ولا تحبّذ تحريكه، أنها إذا استعملته فلن يسمح لها بالحكم لاحقًا.
لا نملك إجابة عن سؤال ما العمل؟
استباقًا نقول لن يسقط الانقلاب بالقانون، ولن يسقط بالشارع، ولن يسقط بالجوع أيضًا. لأن الثورة للجياع، وهم نخبة مستريحة تنتظر تحت التكييف أن يجوع الناس فيخرجون ثائرين، فيقدمون لها السلطة دون عناء منهم.
بذرة الأمل التي حملها النضال القانوني، حملها سيل ماء مالح ولن تنبت في أية أرض. هل هذا إعلان استسلام؟ يفهم على أنه ترك الأمر يصل إلى مداه، لأن ذلك هو السبب الوحيد للوصول إلى مراجعات ديمقراطية.
المراجعات والنقد الذاتي لسنوات العبث الجماعي بالحريات هي بوابة الرجوع الوحيدة إلى حقل الفعل الديمقراطي، لقد كان جليًا لنا أن الفرحين بالنافذة الانتخابية قفزوا فوق استحقاق ضروري، وهو الإجابة عن سؤال تأسيسي: ألم نخطأ في حق الديمقراطية؟ بل فيهم من يقيّم حملته على الترهات السياسية نفسها التي اتخذها الانقلاب ذريعة لفعله المشين.
هذا السؤال الشجاع لم يطرح، ولا شك أن الهروب منه ولو في صورة نجاح إسقاط الانقلاب (هذا احتمال أُلغي الآن)، كان سيعيد نفس اللعبة القديمة القائمة على الإقصاء.
هذه الشجاعة الغائبة هي سبب موت الشوارع والتواكل على حيل القانون الذي يملك الرئيس مفاتيحه ويمكنه تمطيطه، وقد فعل وحرّضه المتباكون الآن على الحريات. متى يبدأ التونسيون في نقد تجربتهم قبل الانقلاب؟
لن يفعلوا، لذلك سندعو الله أن يحفظنا من اللغو الديمقراطي، ونحتفظ بتقديرنا للعجوز الأعزل حتى من أولاده، الذي وقف في الساعة الأولى للانقلاب أمام الدبابة التي أغلقت البرلمان. كان الشخص الوحيد الذي يرى أبعد من قدميه.