في أكتوبر/ تشرين الأول 2015، أبلغ الرئيس الفلسطيني محمود عباس قادة حركة فتح ومنظمة التحرير، أنه سيقوم بإلغاء اتفاق أوسلو خلال مدة 3 أشهر، ردًا على سياسات الاحتلال لتقويض السلطة وسحب صلاحياتها، وانسجامًا مع الاشتعال المتزايد في الضفة الغربية والقدس.
واستباقًا لمخاوف انعدام الأمن المالي، استبق عباس إعلانه بجولة اتصالات عربية، حظي خلالها بجملة تأكيدات على الدعم العربي القوي له ولسلطته، ووعود بتفعيل سريع لشبكة الأمان العربية التي قُدّرت بـ 100 مليون دولار تصرف لحساب السلطة شهريًا، مع ما يتوقع من رد فعل الاحتلال بوقف تحويل الضرائب وإيرادات المقاصة للسلطة، التي تشكّل 70% من إيرادات السلطة الفلسطينية، والبالغ متوسط قيمتها الشهرية 175 مليون دولار.
منحت هذه التحركات لحراك السلطة الفلسطينية جديةً مضاعفة وأملًا فلسطينيًا بإعادة الميدان إلى حالته الأولى من مقاومة مباشرة بين الفلسطينيين ومحتلهم، بلا اتفاقيات وسيطة ولا دول راعية ولا ضغوط مستنزفة.
لكن شيئًا من هذا الإعلان لم يحصل، ومنذ ذلك الحين وعلى مدى الأعوام 2018 و2019 و2020 أطلقت القيادة الفلسطينية جملةً من التهديدات والتصريحات والتلميحات عن سعيها لإلغاء الاتفاقيات التي تجمعها مع دولة الاحتلال، في بعض الأحيان تمّ ذكر أوسلو والتنسيق الأمني بصراحة واضحة، وفي أحيان أخرى كان الحديث مبهمًا بإشارة عشوائية لاتفاقيات ما.
وفيما اعتبر الفلسطينيون أن هذه الإعلانات مجرد “جعجعة” إرضاءً للشارع الفلسطيني، أو “مناورة” لإعادة الاحتلال لطاولة المفاوضات، أو دفع الإدارة الأمريكية -خاصةً في حقبة ترامب– لإيلاء اهتمام أكبر بالقيادة الفلسطينية بدلًا من تهميشها، دعت مكونات سياسية وحقوقية فلسطينية القيادة للمبادرة والإعلان عن إلغاء الاتفاقية وسحب الاعتراف بدولة الاحتلال، لا سيما أن القانون الدولي يدعم حق الفلسطينيين بإنهاء الاتفاقية في ظل الانتهاكات الإسرائيلية لبنودها، وعدم تحقيق تقدم في أي ملف من ملفات المرحلة النهائية.
الفلسطينيون في ميزان الربح والخسارة
أنشأت اتفاقية أوسلو الموقعة في سبتمبر/ أيلول 1993 كيانًا فلسطينيًا تحت مسمّى “السلطة الفلسطينية”، وحددت له مناطق نفوذ وفقًا لصلاحيات أمنية وإدارية بما تقدّر مساحته بـ 20% من الأراضي الفلسطينية، وقرابة الـ 5 ملايين نسمة، وتولد عن هذا الكيان مؤسسات وتشكيلات أوجدت لخدمة أدواره، بدءًا من السفارات والممثليات الخارجية، مرورًا بالقطاع الأمني فسلطة النقد، وسلطة الضرائب وقطاع التأمين والتجارة الدولية والبنوك، وسلطة السياحة والآثار، وقطاع المنظمات الأهلية.
وأُلقيت على كاهل السلطة مسؤولية التعليم والصحة والتنمية والأمن الداخلي، ونتيجة لذلك اختلف النمط الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الفلسطيني خلال عدة سنوات بعد أوسلو.
ورغم هذه التغيرات التي أوجدت “سلطة سياسية معترف بها دوليًا للفلسطينيين”، إلا أن أوسلو في كثير من الأحيان كانت مجرد غطاء يخفي جرائم الاحتلال وانتهاكاته بحق الفلسطينيين، بل يقدم له مبررات “غياب الشريك التفاوضي” لتجاوز الاتفاقية على المستوى الرسمي والشعبي والدولي، بدءًا بالتضييق على السلطة الفلسطينية سياسيًا واقتصاديًا، وانتهاءً بالاستفراد بالشعب الفلسطيني واستلاب أرضه وتهجيره وفصله عن محيطه العربي، دون أن تحقق الاتفاقية انتهاءً لقضية الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، أو وقفًا لأعمال العنف الإسرائيلية، أو خاتمةً لسلام أممي بإشراف دولي في القدس.
بل كانت أوسلو بوابة لتجاوز الفلسطينيين واستغلال كل ما يتاح لهم من منح دولية وعلاقات اقتصادية عابرة للقارات، وإنجازات قانونية للضغط عليهم وتهديدهم ودفعهم للمزيد من التبعية، وحتى على المستوى العربي أخذت العلاقات الإسرائيلية العربية أبعادًا تُغيّب الفلسطينيين من اتفاقية وادي عربة مع الأردن عام 1994 حتى حزمة السلام الإبراهيمي عام 2020، دون أن يحصل الفلسطينيون من الأولى أو الأخيرة على أي من المزايا أو المنافع، ما حوّل الحاجة للتخلص من أوسلو إلى إلحاح شديد في العقل الفلسطيني.
وفي البحث عن إجابة قانونية لكيفية التخلص من أوسلو تظهر إشكاليتان، هما أقرب إلى الحل منهما إلى المعضلة، أولاهما أن الاتفاقية الموقعة بين دولة الاحتلال “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها ممثلًا للفلسطينيين قد انتهت صلاحيتها القانونية نتيجةً لفشل المفاوضات، ولانتهاء الفترة الانتقالية المحددة بـ 5 سنوات (مايو/ أيار 1999)، ما يعني أن الاتفاقية تعتبر منتهية وفقًا لقواعد القانون الدولي، وأن توقف عمل أطرافها بها لا يُفترض أن ينتج عنه تبعات قانونية.
أما الإشكالية الثانية فهي أن الاتفاقية في بنودها ونصوصها لا تنسجم مع أحكام القانون الدولي العرفي ولا لوائحه، بل تتناقض مع قواعد آمرة فيه، ما يجعلها باطلة المبنى والمعنى، حيث تترك للاحتلال صلاحية استمرار الاستيطان والسيطرة على 60% من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وما يرتبط بها من مصادرة حقوق الفلسطينيين في الثروات الطبيعية، وحرية إنشاء مرافق حكومية دون قيود أو عوائق، وتقييد صلاحيات السلطة الفلسطينية وإلزامها بإجراءات مجافية للقانون بحق سكانها (اعتقال المقاومين وملاحقتهم).
ومن اللافت أن نصيبًا من هذا التناقض والبطلان يتحمل الجانب الفلسطيني مسؤوليته، فالتنازل عن حق العودة وعن الهوية الوطنية الفلسطينية يخالف القرارين 194 و242، وتجريم الكفاح المسلح مخالفة لنصوص القانون الدولي (المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة) التي تعتبر الكفاح المسلح من وسائل تقرير المصير والدفاع في مواجهة القوات الغازية، كما أن الالتزام بالمفاوضات فقط لحل “النزاع” مخالف للمادة 33 من الميثاق الذي يقرّ 6 وسائل وآليات دولية لحل النزاعات، تجاهلها الجانب الفلسطيني وتمسك بالمفاوضات وحدها.
لكن أوسلو رغم هذه الإشكاليات استطاعت الاستمرار مدعومة بحاجة أطرافها لوجودها نتيجة لما تقدمه لكل منهما من منافع، ممثلةً بالتنسيق الأمني وتخفيف العبء العسكري والأمني لجيش الاحتلال، والتحلُّل من عبء شؤون السكان الفلسطينيين والتزاماته الدولية.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن وجود كيان فلسطيني على جزء من أرض فلسطين، واضطلاعه بأدوار إدارية حتى لو كانت “دون دولاتية”، والاعتراف الدولي بالسلطة وبهويتها وشخصيتها في الأمم المتحدة، وما يتفرع عنها من منظمات دولية وإقليمية جعلت في الحفاظ على أوسلو أولوية لها، وارتباطًا بوجودها، وتأكيدًا على أن للفلسطينيين من يمثلهم حتى لو رفض الاحتلال الاعتراف بذلك.
السيّئ أم الأسوأ؟
وفقًا لهذا التكييف القانوني، بإمكان الفلسطينيين إعلان التراجع أو إنهاء اتفاقية أوسلو، لكن المقاربة القانونية وحدها غير كافية، بل يجب أن تكون متوائمة مع مقاربة سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة، فالعمل على إنهاء أوسلو يفترض تقديمًا مسبقًا لمنظومة فلسطينية بديلة عن المنظومة الحالية (أفضل منها)، قادرة على تأسيس علاقات دبلوماسية متوازنة، وأن تكون واجهة سياسية للتعامل مع ما يتعلق بالقضية الفلسطينية على المستوى الأممي والدولي (مناقشات الأمم المتحدة والجامعة العربية والمنظمات الدولية).
كما يفترض بهذه المنظومة البديلة أن تكون قادرةً على الإمساك بالروابط التجارية والاقتصادية الداخلية (الضرائب والرواتب لأكثر من 170 ألف موظف حكومي)، والخارجية (الجمارك والعلاقات الاقتصادية الدولية) القائمة حاليًا، وأن تحافظ على النظام التعليمي والصحي والاجتماعي الفلسطيني القائم (6 ملايين فلسطيني) دون إضافة المزيد من التفتيت عليه، وأن تُعيد فلسطينيي الشتات إلى دائرة الفعل، وهي المنظومة التي لا تتواجد حاليًا.
يريد الفلسطينيون الحفاظ على نظام سياسي فلسطيني قادر على كل ما سبق، لكنه بالإضافة إلى ذلك ناطق بلسان صمودهم ومقاومتهم، رافض للتنسيق الأمني ومجرّم له، متحلل من التبعية الدولية والعربية، يضم تحت عباءته جميع أطيافهم وتناقضاتهم، يحمل رؤية مستقبلية متنوعة الخيارات والأساليب لحلّ قضيتهم وليست منفردةً بالمفاوضات فقط، بإمكانه أن يبدأ من حيث “تنتهي أو تتوقف أو تستريح” السلطة الفلسطينية، وأن يصحح المسار وفقًا لتوافق وطني، وفي ظل غياب هذا البديل، فإن الإبقاء على أوسلو “ظاهريًا” سيبقى بالنسبة إلى الفلسطينيين تفضيلًا للسيّئ عن الأسوأ.
من الواقعي القول إنه يصعب تفكيك نظام تأسس بدعم دولي وإقليمي على مدى 30 عامًا بجرّة قلم، لا سيما مع الشبكة المتداخلة من المسؤوليات والوظائف التي يضطلع بها، والحقيقة المرّة أن الفلسطينيين -بعيدًا عن العاطفة- يدركون جيدًا أن إلغاء أوسلو قد يدفع إلى إلغاء وجودهم السياسي والتمثيلي بشكل كامل.
وهذا يفسر الإدراك المتأخر لبعض الفصائل الفلسطينية لهذه الجزئية ومشاركته في العملية الانتخابية البرلمانية والبلدية 2005-2006، رغم رفض اتفاقية أوسلو وتأكيدها على نتائجها الكارثية، ويفسر أيضًا توجه معظمهم للمطالبة بإعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية (إصلاحها أو تفعيلها أو ترميمها) بدلًا من هدم النظام القائم بأكمله.
على الصعيد الخارجي، يدرك الفلسطينيون أيضًا أن العودة بالزمن إلى ما قبل أوسلو لن تكون مجدية، فالظروف الإقليمية والدولية والعربية اختلفت وتناءت، وفيما كان البديل الوحيد لمنظمة التحرير هو الأردن، فقد أضحى في يد حكومة الاحتلال اليوم بدائل أكثر ملائمة بالنسبة إليها من منظمة التحرير، وتعفيها من عبء وجود نظام سياسي فلسطيني لا يمكن تجاهله>
لا سيما أن اعترافها بالمنظمة كممثل شرعي لم يتضمن “وحدانية” وتفرُّد هذا الممثل، ما يتيح لها مراجعة موقفها من السلطة والمنظمة في أي وقت، وهو ما دفعها بكل أريحية لطرح بدائل لها في سيناريوهات اليوم التالي للحرب، مثل التحالف الأمني العربي أو إدارة دحلان، أو سلطة العشائر والوجهاء، وجميعها بدائل متعاظمة السوء بالنسبة إلى الفلسطينيين، وتحمل بذور فناء أكيدة لهم، ولا ترى في القضية الفلسطينية أكثر من مصلحة أو تبادل خدمات.
الكثير ممّا يمكن فعله
من زاوية أخرى، إن مخاطر إلغاء أوسلو أو صعوبة إيجاد بديل للسلطة الفلسطينية لا يجب أن يعني بالنسبة إلى الفلسطينيين فقدانًا للأمل، بل يمكن اعتبار ذلك دافعًا للتفكير خارج الصندوق بإعادة تكييف ما يملكونه من جهد لتحسين ظروفهم الناشئة عن أوسلو، بشرط توفر إرادة حقيقية بعيدة عن المصالح الشخصية الضيقة التي ترى في استمرار المنظومة الفلسطينية بشكلها الحالي خدمةً لمصالحها.
يبدأ ذلك من تفعيل الجهود السياسية والدبلوماسية والقانونية لمحاكمة الاحتلال وتجريمه على جميع انتهاكاته في المناطق الفلسطينية عام 1967، وتنظيم حراك دبلوماسي دولي يدفع نحو تنفيذ القرارات والآراء الدولية المرتبطة بذلك، ويتضمن تجريم الدول الداعمة للاحتلال في انتهاكاته حتى لو كانت عربية، ولن يتوفر ذلك إلا بالتحلل من أشكال التبعية والإملاءات الخارجية كافة، وبقلب الطاولة على جميع من يستخدم القضية الفلسطينية لخدمة مصالحه وينأى بها عن آمال وحقوق شعبها.
يتزامن ذلك مع ضمان التأييد الشعبي والتكاتف الفلسطيني من خلال تجديد النظام الحالي، بتنظيم استفتاء يضمّ الفلسطينيين في جميع مناطق تواجدهم لتحقيق إجماع حول الخطوات والآليات الواجب اتخاذها، وللتراجع عن التهميش والإقصاء الذي أصابهم إبّان أوسلو، ويجب أن تكون هذه الخطوة مقرونة بإنشاء مؤسسات فلسطينية جامعة، تضطلع بمهام قانونية ودبلوماسية وجماهيرية لدعم أي حراك لفلسطيني الداخل ومساندته.
30 عامًا على اتفاقية أوسلو.. الفلسطينيون بين مسارَي البندقية والمفاوضات
على المستوى الداخلي، من المهم إعادة تقييم جميع الاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال على أُسُس قانونية سليمة، وبجداول زمنية واضحة ومحددة وبإجماع فلسطيني كامل، يكفل على الأقل التراجع عمّا اقترفته أوسلو من تنازلت، والحفاظ على ما منحه القانون الدولي للقضية الفلسطينية من مكاسب (أقلها دولة فلسطينية على حدود 1967 دون مستوطنات).
ويجب إعادة تفعيل الكفاح المسلح باعتباره ورقة ضغط على عنق الاحتلال -في أضعف الحالات-، ولا يكون ذلك إلا بالتراجع عن نبذ الكفاح المسلح، واعتباره شكلًا من أشكال تحصيل حق تقرير المصير.
سيقول البعض إن هذا خيالي، لكن الحقيقة أن السابع من أكتوبر كان خياليًا أكثر من ذلك بكثير، ورغم ذلك تحقق، وسيقول آخرون: “فقدنا الأمل”، لكن الواقع يقول إن الفلسطينيين عندما يفقدون الأمل “يجترحونه”، والحقيقة المرّة تقول إن “الآن” هو فرصة للفلسطينيين لرسم طريقهم قبل أن يُساقوا إلى المجهول، وأن تحقيق الكثير ممكن ومتاح ولا ينقصه سوى الإرادة السياسية الحقيقية للتغيير، والإيمان بأن التغيير لن يأتي إلا بثمن، وأن دفعه الآن أهون من الإفلاس لاحقًا.