تجد الحكومة الجزائرية نفسها مرة أخرى أمام تحد جديد يتمثل في إخماد الاحتجاجات بولايات الجنوب التي يقول سكانها إنهم يعيشون الحرمان وهم خارج اهتمام السلطات المركزية التي لا تتذكرهم إلا في المواعيد الانتخابية، فكيف ستتعامل حكومة الوزير الأول أحمد أويحيى مع هذا الوضع؟
ورغم إطلاق السلطات في السنوات الأخيرة برنامج تنمية الجنوب الذي رصدت له ملايين الدينارات، واستحدثت ولايات منتدبة لتقريب الإدارة من المواطن بولايات الجنوب، فإن لسان حال سكان المنطقة لا زال يقول هل من مزيد؟ وهذا غير كاف.
غضب في الجلفة
تعيش ولاية الجلفة الواقعة على بعد 300 كيلومتر جنوب العاصمة الجزائر هذه الأيام احتجاجات متكررة للسكان تنديدًا بما أسموه “التهميش والإقصاء”، بعد غياب المسؤولين الرسميين عن حضور مراسم جنازة الراحل العقيد أحمد بن الشريف المنتمي لولايتهم، وهو مجاهد بارز وأول قائد لجهاز الدرك في البلاد.
ودعا المحتجون في مسيرة جابت بعض شوارع الولاية المسؤولين من وزراء ورئيس حكومة للرحيل، لأنهم غابوا عن جنازة هذه الشخصية التاريخية التي يعتبرها المحتجون رمزًا للولاية وللبلاد وتحتاج التكريم والتشييع الرسمي.
حاولت الحكومة تدارك الوضع بعد الاحتجاجات التي عرفتها الولاية، وأرسلت وفدًا وزاريًا يقوده وزير الداخلية نور الدين بدوي لتشييع جثمان المجاهد الراحل، إلا أن ذلك لم يخمد نار الغاضبين الذين استقبلوا وفد الوزير بالاستهجان والاستمرار في الاحتجاج
وحسب ما نقلته الصحافة المحلية، فإن غياب المسؤولين عن جنازة العقيد أحمد بن الشريف راجع لآرائه السابقة المنتقدة للسلطة، خاصة موقفه من الانتخابات الرئاسية لسنتي 2004 و2014 التي فاز بها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي يحكم البلاد منذ 1999، رغم توجيه الأخير رسالة تعزية نعى فيها بن الشريف.
وحاولت الحكومة تدارك الوضع بعد الاحتجاجات التي عرفتها الولاية، وأرسلت وفدًا وزاريًا يقوده وزير الداخلية نور الدين بدوي لتشييع جثمان المجاهد الراحل، إلا أن ذلك لم يخمد نار الغاضبين الذين استقبلوا وفد الوزير بالاستهجان والاستمرار في الاحتجاج.
وجاء في بيان للمحتجين “إن مصابنا جلل بفقدان أحد أبطال ثورة التحرير وأحد مؤسسي أجهزة الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، وهو العقيد أحمد بن الشريف، لذلك نندد بما رافق هذه الفاجعة الأليمة من إهانة وتهميش، اللذين كانا بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس”.
التنمية قبل الفن
بولاية ورقلة التي تقع بها مدينة حاسي مسعود النفطية التي يطلق عليها لقب البقرة الحلوب التي تمول جميع البلاد، منع شباب تنظيم حفل فني لمغني الراي “كادير الجابوني” أحد النجوم البارزين في الوقت الحاليّ الذي تلقى أغانيه ملايين المشاهدة على موقع يوتيوب ويحضر سهراته الآلاف، وتسبب الاحتجاج في إيقاف تنظيم تظاهرة “لنفرح جزائري” التي كان مقررًا أن يحييها عدة فنانين.
واعتبر المحتجون تنظيم هذا الحفل الفني إهدارًا للمال العام، في وقت لا توفر السلطات المحلية لسكان المنطقة أبسط الضروريات، وطالبوا بتخفيض فواتير الكهرباء التي ترتفع بشكل لافت في فصل الصيف بسبب تجاوز درجات الحرارة بالمنطقة في بعض الحالات 50 درجة مئوية تحت الظل.
وفي ولاية بشار الجنوبية الحدودية، احتج السكان أيضًا على الانقطاعات المتكررة في التيار الكهربائي في بلد يصنف ضمن الدول المنتجة للطاقة التي تصدر النفط والكهرباء لدول أجنبية، كما أبدى المحتجون امتعاضهم من تواصل انقطاع مياه الشرب.
تواجه السلطات دومًا صعوبة في امتصاص غضب ولايات الجنوب بالنظر لحساسية المنطقة التي تعتبر عمق البلاد الأمني والاقتصادي، وبسبب طبيعة ديموغرافيا السكان التي ما زالت تحتكم في بعض الأحيان لمنطق القبيلة والأعيان وتغيب عنها أطر التسيير العصرية
وحسب مراقبين، فإن هذا الاحتقان الذي يظهر بين الفينة والأخرى بولايات الجنوب المعروف عن سكانها الهدوء، مرده إلى فشل السياسات التنموية المتتالية رغم ما رصد لها من أموال، التي لم تستطع أن تمحو الصورة التي رسمت في عقول كثير من الجزائريين أن اهتمام الحكومة منصب على ولايات الشمال رغم أن اقتصاد البلاد يمول من ولايات الجنوب المعروفة بثوراتها النفطية والمنجمية.
وسبق لولايات الجنوب أن عرفت احتجاجًا أبرزها اعتصامات البطالين بورقلة المطالبة بحق سكان المنطقة في التوظيف بالمؤسسات النفطية، واحتجاجات سكان تمنراست الرافضة لمشاريع استغلال الغاز الصخري خوفًا من أن تكون لها أضرار بيئية على المنطقة.
وتواجه السلطات دومًا صعوبة في امتصاص غضب ولايات الجنوب بالنظر لحساسية المنطقة التي تعتبر عمق البلاد الأمني والاقتصادي، وبسبب طبيعة ديموغرافيا السكان التي ما زالت تحتكم في بعض الأحيان لمنطق القبيلة والأعيان وتغيب عنها أطر التسيير العصرية.
ردود متباينة
في أول رد له على الاحتجاجات التي تعرفها ولايات الجنوب، لم يخرج الوزير الأول أحمد أويحيى عن خطابه المعتاد المنتقد، وقال وهو يتحدث من تحت عباءة الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي إن الشغب ليس حلًا للمشاكل.
وأضاف أويحيى عقب لقائه مع رئيس حركة مجتمع السلم عبد الرزاق مقري “لنا مشاكل البطالة من بلدية عين قزام (أقصى الجنوب) إلى بلدية حسين داي (وسط العاصمة)، ولا نعتقد أن البطالة حجة لعدد من الشباب لكي يحرموا المواطنين في ولاية ورقلة من حفل ثقافي”.
وحسب أحمد أويحيى فإن المشكل في بشار هو أن الدولة ستقوم بتوزيع سكنات، وهناك عدم رضا بالقوائم، لكن توجد طرق للتعبير والطعن وليس بالتكسير.
وأوضح “في ولاية الجلفة ذهب وفد وزاري إلى هناك للتعزية، وفي تقاليدنا الإسلامية والجزائرية لما يأتي حتى عدوك لكي يعزيك فيجب أن تستقبله، من احتج هناك ليسوا السكان أو عائلة المرحوم أحمد بن شريف بل عدد من الشباب فقط”.
رئيس أكبر الأحزاب الأسلامية في الجزائر عبد الرزاق مقري
لكن البعض يرى في خطاب الوزير الأول هروبًا للأمام وتجاهلًا لانشغالات السكان الحقيقية، ما قد يرفع من وتيرة الاحتجاجات ويشعل درجة الاستهجان لسياسة الحكومة.
أما مقري رئيس كبرى الأحزاب الأسلامية في البلاد فقد أكد “مسيرة سكان الجلفة كانت سلمية وحضارية عبر فيها المشاركون عن حالة التهميش وضعف التنمية، وغياب العدل في التعامل بين الناس في مختلف الجوانب حتى بالاهتمام بالرموز التاريخية من ولاية إلى ولاية، فهل سيسمع المسؤولون هذه النداءات التي تتكرر من منطقة إلى أخرى”؟
وأضاف مقري “للأسف الشديد يستهين النظام السياسي الجزائري كغيره من الأنظمة الشمولية باحتجاجات المطالبين بالكرامة والتنمية والعدل والمساواة وبمطالب الإصلاح والتغيير، وفي أحسن الأحوال يحاول استيعابها لربح الوقت وتفويت الأزمات اللحظية مستأنسًا في ذلك بذهنية الغلبة والسيطرة والأحادية والشعور بالمنعة، والظن بأن لا غالب له في اليوم والغد، فتكبر كرة الثلج وتخرج الأمور عن السيطرة وتصبح الضريبة أفدح بكثير لو حضر العقل في بادئ الأمر”.
البعض يعيب على مقري وغيره محاولة تحميل المسؤولية للسلطة وإن كانت تتحمل الجانب الأكبر، لأن الطبقة السياسية خاصة المعارضة لها يد في الاحتقان الذي تعيشه ولايات الجنوب، فهي الأخرى لا تتذكرهم سوى في المواعيد الانتخابية
وحسب مقري، فإنها طبائع الاستبداد تتكرر في كل زمن وفي كل مصر وتكون النتيجة في كل مرة هي ذاتها.
وأردف قائلًا “إن الواجب تجاه هذه الذهنية المدمرة للأوطان والأمم وهذه السياسات الخاطئة التي تغرق بها السفن بمن فيها، هو مقاومتها بكل الأساليب السلمية مهما كانت التضحيات، بل ومساعدة أصحابها بالمبادرات العملية إن أمكن لإخراجهم مما هم فيه من سُكر بنبيذ السلطة دون كلل ولا ملل، دون اكتراث باختلال موازين القوة كما تبينه نصوص الشريعة وتجارب البشرية”.
لكن البعض يعيب على مقري وغيره محاولة تحميل المسؤولية للسلطة وإن كانت تتحمل الجانب الأكبر، لأن الطبقة السياسية خاصة المعارضة لها يد في الاحتقان الذي تعيشه ولايات الجنوب، فهي الأخرى لا تتذكرهم سوى في المواعيد الانتخابية، إضافة إلى أن بعض المسؤولين المحليين ينتمون لأحزاب المعارضة التي لم تفلح في تقديم البديل إنما كرست الصورة النمطية التي أخذها المواطن عن رئيس البلدية والمنتخب المحلي ونائب البرلمان.