تقع جمهورية قبردينو بلقاريا التي تبلغ مساحتها 12 ألفًا و500 كيلومتر، وتمتد حدودها لمسافة 696 كيلومتر، في منتصف شمال القوقاز بجوار أعظم الأنهار الجليدية في العالم، ومن الجنوب تحدّها جورجيا، ومن الشمال إقليم ستافروبول، ومن الشرق والجنوب الشرقي أوسيتيا الشمالية، أما من الغرب فتحدّها قره شاي شركيسيا.
قبردينو بلقاريا جمهورية شابة تقطنها 3 أعراق رئيسية، ويبلغ عدد سكانها حوالي 900 ألف نسمة، يعيش القَبَاردِيون في السهول ويشكّلون أغلبية بنسبة 57% من سكان الجمهورية، ويحتل الروس المرتبة الثانية بنسبة 23%. أما البلقار، وهم مجموعة عرقية ناطقة بالتركية، فيعيشون في المرتفعات الجبلية ويشكّلون 13% من مجموع السكان، والباقي قوميات أخرى. وغالبية القبارديين والبلقار مسلمون سنّة على المذهب الحنفي.
نستكشف طبيعة هذه البلاد ضمن ملف “ديار الإسلام في روسيا” وفيه نسرد تاريخ منطقة سيبيريا وجمهوريات شمال القوقاز التي تضم الشيشان وإنغوشيا وداغستان وقبردينو بلقاريا وقره شاي شركيسيا، وجمهوريتي تتارستان وبشكيريا، وهي أقاليم روسية تقطنها غالبية مسلمة، يقدر عددها بنحو 25 مليونًا.
خلف القضبان
تشكّل جمهورية قبردينو بلقاريا أهمية كبيرة بالنسبة إلى روسيا بسبب موقعها الجيوسياسي كمحطة عبور في شمال القوقاز، وهي من أعلى المناطق القوقازية، حيث تقسم البلد إلى 3 أقسام، %33 السهول و16% المرتفعات و51% مناطق جبلية.
كذلك تتمتع قبردينو بلقاريا بثروة حيوانية وإنتاج زراعي وفير، يوجد بها 3 آلاف و300 نوع من النباتات الطبيعة، وحوالي 100 مصدر للمياه المعدنية، وأكثر من 100 بحيرة. ويمثل القطاع الصناعي العمود الفقري لقبردينو بلقاريا، إذ تشكّل الصناعة نحو 60% من عائدات البلد.
يعمل السكان في الحرف التقليدية والزراعة وتربية الخيول وقطعان الأبقار والماعز والأغنام، كما أن صناعة السجاد مهنة شائعة في المناطق الجبلية، إلى جانب ذلك أصبحت البلاد في السنوات الأخيرة وجهة سياحية مميزة.
منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، شهدت قبردينو بلقاريا نشاطًا إسلاميًا كبيرًا، كما يتضح من العدد المتزايد للمساجد والمؤسسات الإسلامية، وقد تنامى دور الدين في الحياة الاجتماعية والسياسية بشكل خاص بين جيل الشباب الذي يُشار إليهم أحيانًا باسم “المسلمين الجدد”.
أما الوضع الاجتماعي في قبردينو بلقاريا مزرٍ جدًّا، إذ تعاني البلاد من انخفاض مستويات المعيشة وارتفاع معدلات البطالة والفساد والجريمة المنظمة، ما جعلها واحدة من أفقر مناطق الاتحاد الروسي رغم كل القطاعات الطبيعية التي يتمتع بها البلد، والتي هي كافية للسكان للعيش بوفرة. وهناك سبب رئيسي لارتفاع معدلات البطالة، وهو حرمان الغالبية العظمى من المزارعين من استئجار الأراضي.
رغم أن قبردينو بلقاريا واحدة من أهم المناطق الرائدة في مجال الزراعة، حوالي 55% من أراضيها صالحة للزراعة، إلا أنه تم تسليم معظم الأراضي الصالحة للزراعة لإيجار طويل الأجل (49 عامًا مع حق التمديد) إلى عشرات المسؤولين وأقاربهم من مناطق أخرى في روسيا، والذين ليسوا من مواطني قبردينو.
إن الفقر والحرمان من الحقوق والفساد ليسا كل القصة، فعلى مدى السنوات الـ 25 الماضية، قضت روسيا تدريجيًا على هوية البلد وأية عناصر وطنية، فهناك هجوم مستمر على جميع البلقار والقبارديين تحت ذريعة الانفصال، وتعمل موسكو على تأجيج التوترات العرقية لإثارة البلقار والقبارديين ضد بعضهم، كما تعتمد على الخوف أكثر من تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية.
واليوم اللغة الرسمية في قبردينو بلقاريا هي الروسية، ثم القبردية والبلقارية، لكن هناك تمييزًا ضد اللغتين القبردية والبلقارية، ولا يتم استخدامهما في تداول الوثائق أو ممارسة الأعمال التجارية أو المؤسسات الحكومية، وقليل جدًّا من يتحدث بها.
كما صارت اللغة الروسية مادة إلزامية في جميع المدارس، وتمّ إغلاق المدارس الابتدائية التي كانت تدرّس باللغتين القباردية والبلقارية، وفي أحسن الحالات تقليل الوقت المخصص لدراسة اللغة الأم في المدارس الحكومية إلى ساعة واحدة فقط في الأسبوع.
كذلك تكتظ البلد بنصب تذكارية لشخصيات روسية كانت مسؤولة عن تنفيذ سياسات قمع للسكان الأصليين، بجانب أن الشوارع تحمل أسماء زعماء بلاشفة وعسكريين روس، وكل شهر سبتمبر/ أيلول تُرغم قبردينو بلقاريا على الاحتفال بمرور 450 عامًا على ما يسمّى “الانضمام الطوعي” إلى روسيا.
والواقع أن قبردينو بلقاريا شهدت حركات انفصالية صغيرة، أراد بعض البلقار الانفصال في جمهورية لوحدهم، في حين أراد القبارديون الانفصال عن موسكو، ورغم أن حركات الانفصال لم تصل إلى نفس الحجم الذي وصلت إليه مناطق أخرى في شمال القوقاز، فإن مستوى العنف ارتفع مؤخرًا.
وفي السنوات الأخيرة انتشر الفكر الجهادي في قبردينو بلقاريا، وتشير بعض التقارير الرسمية إلى انضمام 200 مواطن من قبردينو بلقاريا إلى “داعش”. وما زالت قوات الأمن الروسية تشنّ بانتظام حملات قتل واعتقال ضد من تسميهم بـ”الانفصاليين والإرهابيين”.
الأرض والتقاليد
يعتبر البلقار والقبارديون من السكان الأصليين لشمال القوقاز، فالقبارديون هم إحدى القبائل الشركسية الـ 18 التي عاشت في وسط القوقاز منذ آلاف السنين، ولم ينجوا منهم اليوم سوى 10 قبائل، ويعيش معظم الشركس بعيدًا عن أراضيهم، ويسمّون أنفسهم “شعب الأديغا”.
رغم التقسيمات الروسية التي وضعت الشركس تحت 4 مسميات ووحدات سياسية مختلفة، فإن هذه المجموعات الأربع هي الشعب نفسه، ويبلغ إجمالي عددهم في الاتحاد الروسي، وفقًا لتعداد عام 2021، 751 ألفًا و487 شخصًا.
أما البلقار جيران القبارديين، فهم قبيلة صغيرة تعيش في سفوح جبال القوقاز الوسطى، وتنحدر من القبائل التركية، ويبلغ عددهم حوالي 71 ألف نسمة، وهم مرتبطون بقبيلة القراشاي.
لعلّ الفارق الأكثر أهمية بين هذين الشعبين هو أن البلقار كانوا من سكان القرى الجبلية المرتفعة، بينما القبارديون كانوا رعاة ومزارعين في السهول. ورغم اختلاف لغة الشعبَين، فإنهما تعايشا وتاجرا مع بعضهما منذ مئات السنين.
حكمت العادات والتقاليد الحياة الاجتماعية للقبرديين والبلقار، حيث كانت مجالسهم تقرر مسائل الحرب والسلم، وتحلّ الخلافات حول الأراضي والممتلكات وكذلك الخلافات بين العائلات، أما المسائل الهامة الكبيرة على مستوى كامل البلاد فكانت تُبحث في مجالس النبلاء.
ويتحدث القبارديون لغة مشتقة من اللغة الشركسية، وكانت تُكتب بالأبجدية العربية، ثم تحولت إلى اللاتينية ثم السيريلية عام 1936، الأمر نفسه بالنسبة إلى اللغة البلقارية التي كتبت بالأبجدية العربية حتى عشرينيات القرن العشرين، ومنذ عام 1939 تحولت إلى الأبجدية الروسية.
أما بالنسبة إلى الدين، فقد كان القبارديون وثنيون ثم تحول بعضهم إلى المسيحية، وبدءًا من القرن السادس عشر انتشر الإسلام بين القبارديين بسبب تأثير العثمانيين والقرميين، فقد خلقت العلاقات التجارية مع الموانئ العثمانية على البحر الأسود حافزًا للقبارديين للتعرّف إلى الإسلام.
وبحلول أوائل القرن التاسع عشر، كان معظم القبارديين مسلمون على المذهب الحنفي. أما البلقار فقد اعتنق معظمهم الإسلام بداية من القرن الثامن عشر بسبب اتصالهم بالشركس.
تاريخيًا، اعتمد القبرديون والبلقار بشكل أساسي على الأعمال الزراعية وتربية القطعان، ومن أهمها تربية الخيول، وكانت الأخيرة ذات قيمة كبيرة بسبب سرعتها ورشاقتها، لدرجة أن جيوش الإمبراطوريات كانت تعتمد على خيول القبارديين.
كذلك انخرط القبارديون في إنتاج زراعي واسع، وكانوا يسيطرون على أفضل المراعي الجبلية في وسط القوقاز بين جبل البروس ونهر مالكا العلوي ونهر كوما.
في تاريخ الشعب الشركسي، لا يوجد أمير أكثر شجاعة واحترامًا من إينال العظيم، فمن عام 1427 إلى عام 1453 وحّد إينال الشركس في دولة واحدة بعد أن مزّقهم الغزو المغولي، وكانت بلاد الشركس في عهده تمتد من نهر الدون شمالًا إلى جبال القوقاز، ومن البحر الأسود وشبه جزيرة القرم إلى بلاد الشيشان، وقسم إينال شركيسيا إلى عدة مقاطعات، وكانت قبارديا واحدة منها، ثم بعد وفاته أصبحت الأخيرة مستقلة.
ظلت قبارديا خط الدفاع الأول لمجتمعات الجبال، ومن القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر أسّس القبارديون دولة قوية، وسيطروا على الممرات الجبلية الرئيسية وطرق التجارة عبر القوقاز، كما كان أمراء قبارديا على قمة التسلسل الهرمي الاجتماعي في وسط القوقاز، فكانت المجتمعات الجبلية المجاورة، كالبلقار والكراشاي والأوسيتيون والإنغوش، تجمع الضرائب من قراها وتدفع جزءًا منها لأمراء القبارديين، للحصول على حق رعي الماشية في أراضي القبارديين المنخفضة.
بناء الإمبراطورية: اللقاء الأول
عجّت قبارديا بالصراعات الداخلية طوال فترة وجودها، غالبًا ما كانت العائلات الأميرية تتصارع على السلطة، وفي أواخر القرن السادس عشر أدت هذه الصراعات إلى انقسام سياسي شبه دائم، أسفر عن تقسيم قبارديا إلى قسمين: “قبارديا الكبرى” في الغرب و“قبارديا الصغرى” في الشرق.
نظرًا إلى أن قبارديا عانت من هجمات متكررة من جيش خان القرم في منتصف القرن السادس عشر، فقد تحالف أمير قبارديا، تيمروقه ايدار، مع روسيا عام 1557، وزوّج ابنته للقيصر إيفان الرابع، وقد سمح هذا التحالف لقبارديا بصدّ التهديد القرمي، لكن كانت العلاقات الروسية القبردية من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر على قدم المساواة.
ثم بموجب اتفاقية بلغراد عام 1739 بين الدولتين العثمانية والروسية، اعترف الروس والعثمانيون بقبارديا كدولة عازلة مستقلة بين إمبراطوريتيهما، رغم ذلك بدأ الغزو الروسي لقبارديا في عهد الإمبراطورة يكاترينا الثانية بأواخر القرن الثامن عشر، وحاولت تطويق الحدود الشمالية لقبارديا بسلسلة من الحصون لاستخدامها كنقطة انطلاق للاحتلال البلد، وتمّ إنشاء أول قلعة عسكرية على حدود قبارديا عام 1763.
مكّنت هذه القلعة روسيا من توسيع نفوذها وتعزيز أنشطتها التبشيرية في وسط القوقاز، والأهم أنها وفرت مكانًا لإعادة توطين رعايا روس. وفي عام 1764، تبادل ممثلو الدولة العثمانية مذكرات دبلوماسية مع السفير الروسي احتجاجًا على بناء قلعة موزدوك، باعتبارها انتهاكًا صارخًا للمادة السادسة من معاهدة بلغراد.
كما أرسل أمراء القبارديين وفدًا إلى سانت بطرسبرغ في عام 1764 دعا إلى تدمير القلعة، لكن رُفض طلبهم بشكل قاطع، وهو ما أقنع العديد من القبارديين أن الروس عازمون على احتلال أراضيهم. وبالفعل في عام 1769 هاجمت روسيا قبارديا لأول مرة، وأدّى ذلك إلى حرب مستمرة بين البلدَين.
عندما اندلعت الحرب الروسية العثمانية في أواخر عام 1768، رفض العديد من الأمراء القبارديين التحالف مع روسيا، وبحلول صيف عام 1774 رحّب القبارديون بالقوات العثمانية للعمل على أراضيهم، وشنَّ العثمانيون والقرميون والقبارديون هجمات على الحصون الروسية، بما في ذلك قلعة موزدوك.
لكن أدّت الحرب الروسية العثمانية التي دارت رحاها بين عامي 1768 و1774 إلى انتصار روسيا وضمّ قبارديا لها، وأصبح بوسعها تحقيق أهدافها في التوسع في وسط القوقاز دون عائق، وتحسبًا لحرب مستقبلية مع الإمبراطورية العثمانية، بدأت روسيا بتعزيز حدودها الجديدة بشمال القوقاز من خلال بناء الحصون وإعادة توطين القوزاق في المنطقة.
أثارت هذه الواقعة غضب المجتمعات الشركسية، بما في ذلك قبارديا، ومنذ خريف عام 1777 بدأت جيوش أمراء ونبلاء قبارديا شنّ غارات على الحصون الروسية وبلدات القوزاق في خط التحصين الروسي في شمال القوقاز، كما أبرموا تحالفات مع مجتمعات قوقازية أبعد، مثل الشيشانيين والداغستانيين، وبحلول ربيع عام 1779 انتشرت الثورة المناهضة لروسيا وشنَّ القبارديون هجمات منسقة مع جيرانهم.
ورغم النجاح الذي حققه القبارديون، إلا أنه بحلول أواخر خريف عام 1779 هزمت القوات القيصرية المتفوقة تقنيًا نبلاء القبارديين، وأنشأ الروس حدودًا جديدة لمنع القبارديين من التحرك خارجها. وقد أضرَّ هذا الترسيم الحدودي الجديد بسكان قبارديا، لأنه قطعهم عن مراعيهم الحيوية وأراضيهم الزراعية.
ثم بعد انتصارها في الحرب الروسية العثمانية في فترة 1787-1793، أطلقت روسيا محاولاتها الأولى للتوغل عميقًا في البنية الاجتماعية القباردية، من خلال استبدال المحاكم الإسلامية بمحاكم تستند إلى القانون الروسي، ما أدى إلى اندلاع ثورة عارمة، لكن تمّ إخمادها في 9 مايو/ أيار 1805، عندما أصدرت روسيا مرسومًا على مضض يقضي بإعادة المحاكم الإسلامية.
الغزو النهائي: الطاعون والتهجير
شهد الربع الأول من القرن التاسع عشر تحولًا ديموغرافيًا هائلًا في قبارديا، إذ ساهمت الوفيات في ساحات المعارك وإعادة التوطين في انخفاض سريع في عدد السكان الأصليين، لكن وباء الطاعون الذي ضرب قبارديا في العقد الأول من القرن التاسع عشر كان أكثر إيلامًا.
قضى الطاعون على 90% من سكان قبارديا، وبحلول عام 1818 انخفض عددهم من 350 ألفًا إلى 50 ألفًا. ويشير أستاذ التاريخ إيان لانزيلوتي في كتابه “الأرض والمجتمع والدولة في القوقاز”، إلى أن الطاعون سهّل إلى حد كبير استكمال الغزو الروسي لكل أراضي قبارديا، والواقع أن الجنرال يرمولوف، العقل المدبّر للغزو النهائي الوحشي لقبارديا، أشاد صراحة بالطاعون في تسهيل مهمته، إذ قال:
“كان الطاعون حليفنا ضد القبارديين، لأنه بعد أن دمّر سكان قبارديا الصغرى بالكامل ودمّر جزءًا كبيرًا من قبارديا الكبرى، أصبح القبارديون ضعفاء لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على تجميع قواتهم، ولو كان الأمر بخلاف ذلك، لكانت جيوشنا في خطر كبير”.
شملت تكتيكات يرمولوف تطويق القرى القباردية بخطوط تحصين عسكرية، وبناء العديد من القلاع في مواقع استراتيجية، وتوطين الأوسيتيين والقوزاق في المناطق القباردية، بجانب تهجير القبارديين من جميع الأراضي الواقعة شمال الضفة اليسرى لنهر مالكا، وقد أنهت هذه التكتيكات استقلال قبارديا، كما أدّت إلى عزلة القبارديين عن جيرانهم، ولم يتمكنوا بعدها من الحفاظ على اقتصادهم الضخم القائم على تربية الماشية.
بحلول أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، نجحت خطط يرمولوف وسقطت قبارديا بالكامل تحت هيمنة الإمبراطورية الروسية، ثم في فترة 1862-1864 بعد الحرب الروسية القوقازية التي استمرت 100 عام، هجر الروس حوالي 90% من الشعب الشركسي من ضمنهم عشرات الآلاف من القبارديين، وينتشر أحفاد هؤلاء المنفيين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، خاصة في تركيا وسوريا والأردن.
ومنذ غزو يرمولوف لقبارديا في عشرينيات القرن التاسع عشر وبسبب الطاعون والحرب، كانت الكثير من الوديان والمراعي القباردية غير مستخدمة، وهنا سعى البلقار إلى الاستفادة من رحيل القبارديين، من خلال استغلال هذه المراعى وتلبية احتياجاتهم الاقتصادية.
وهو ما أدّى لاحقًا إلى صراع مستمر مع القبارديين الذين حاولوا إعادة تأكيد حقوقهم التاريخية في الأرض، رغم أن العلاقة التاريخية بين البلقار والقبارديين ظلت مستقرة نسبيًا. أيضًا قامت مئات الأسر الأوسيتية والسلافية التي لا تملك أرضًا، بحزم أمتعتها والعيش في أراضي القبارديين.
النداء – فيلم شركسي قصير
جمهورية قبردينو بلقاريا السوفيتية الاشتراكية
في عامي 1912 و1913 كانت هناك ثورة في قبارديا ضد نيكولاس الثاني، لكن تم قمعها بسرعة ثم مع وصول أنباء ثورة فبراير إلى شمال القوقاز، بدأت النخبة المثقفة المحلية بالمنطقة في تنظيم حركة سياسية لتمثيل مصالح شعوب الجبال، وفي مايو/ أيار 1917 اجتمع نخبة من مختلف أنحاء المنطقة في فلاديكافكاز، وأعلنت عن تأسيس جمهورية اتحادية.
أعلنت قبارديا انفصالها عن روسيا وانضمت إلى جمهورية شمال القوقاز الجبلية في عام 1917، ورغم أن هذه الجمهورية استمرت حتى عام 1924، إلا أن فكرة اتحاد القوقازيين الشماليين كانت غير مستساغة بالنسبة إلى روسيا، فرغم أن كلًّا من الحمر والبيض كانوا منخرطين في صراع مميت، إلا أن كلا الطرفين كان متحدًا في تدمير استقلال شمال القوقاز.
في أوائل عشرينيات القرن العشرين بعد الحرب الأهلية في روسيا، ونجاح قوات الجيش الأحمر في القضاء على جيوب المقاومة المناهضة للسوفيت، قسّم الروس قبارديا وبلقاريا إلى منطقتين مستقلتين على أُسُس عرقية.
في ذلك الوقت، توصّل قادة القبارديين والبلقار إلى حل وسط، واتفقوا على تقاسم السلطة والأرض، والحفاظ على العلاقات بين مجتمعيهم من خلال الاتحاد في منطقة إدارية واحدة، وأسفرت هذه التسوية عن تشكيل قبردينو بلقاريا كمنطقة إدارية موحّدة لكلا الشعبَين.
ثم في عام 1928 انتفض القبارديون ضد السياسات السوفيتية التعسفية، ومع ذلك تم قمع ثورتهم. وبالنهاية أدّت المذابح المنهجية التي شنّها ستالين في فترة 1920-1930 إلى تقويض الإسلام وإغلاق المدارس والمحاكم الشرعية، ومنع التعليم الإسلامي بين أبناء المنطقة، لدرجة أنه في عام 1961 لم يتبقَّ في جمهورية قبردينو بلقاريا سوى 13 مسجدًا.
رغم التضحيات التي تحمّلها القبارديون والبلقار خلال الحرب العالمية الثانية، إلا أنهم لم يكونوا بمنأى عن إملاءات ستالين المدمرة بعد الحرب، ففي وقت مبكر من صباح 8 مارس/ آذار 1944، تدفقت قوات الجيش السوفيتي إلى وديان الجبال، واقتحموا منازل البلقار، وأبلغوا السكان بتهجيرهم الوشيك بتهمة الخيانة الجماعية، وأطلقوا النار على أولئك الذين قاوموا التهجير.
نقلت الشاحنات ألفين من القبارديين و 37 ألفًا و713 بلقاريًا، أي ما يقرب من كامل سكان البلقار، على عربات ماشية متجهة إلى السهوب القاحلة البعيدة في كازاخستان وقيرغيزستان، وبعدها اقتطع السوفيت منطقة بأكملها في الشمال الشرقي لقبادريا وضمّها إلى أوسيتيا الشمالية.
كذلك تمّ منح قطعة أرض أخرى لجورجيا، وحُذف اسم البلقار من اسم الجمهورية، فقد كان البلقار من أصغر القوميات في شمال القوقاز، وأكثرهم ضعفًا، وتشير الأرقام السوفيتية إلى أن ما يقرب من 20% من البلقار لقوا حتفهم في المنفى. ثم في 1957، سمح خروشوف للبلقار بالعودة إلى وطنهم بعد 13 عامًا من التهجير، وأُعيد الاسم القديم الجمهورية.
قبردينو بلقاريا بعد الاتحاد السوفيتي
في السنوات الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أعلنت قبردينو بلقاريا سيادتها عام 1991، وبعدها مباشرة اندلعت صراعات بين القبارديين والبلقار، وبرر كل طرف المطالبات بالأراضي المتنازع عليها، ففي ديسمبر/ كانون الأول 1991 صوّت البلقار لإنشاء جمهورية منفصلة، لكن بنهاية المطاف اتفق القبارديون والبلقار على الوحدة تحت هيمنة الاتحاد الروسي.
في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، كان هناك 4 رؤساء لجمهورية قبردينو بلقاريا، فاليري كوكوف (1992-2005)، وأرسين كانوكوف (2005-2013)، ويوري كوكوف (2013-2018)، وكازبيك كوكوف (2018 حتى الآن).
ترأّس فاليري كوكوف الجمهورية من عام 1991 حتى استقال في عام 2005، وقد امتثل لجهود إعادة المركزية التي بذلها بوتين، وتعامل بقسوة مع الحركات الإسلامية، أما خليفته أرسين كانوكوف فرغم تعيينه على أساس كفاءته ونزاهته المفترضة، فقد ارتبط اسمه بسياسات أكثر تعسفًا من سلفه، وكان أكثر انخراطًا مع النخبة التجارية والسياسية في موسكو.
في أعقاب تدهور الوضع الأمني، استبدل الكرملين أرسين كانوكوف في عام 2013 بالجنرال يوري كوكوف، ورغم نجاح نهج الأخير في التعامل مع التمرد الإسلامي المسلح، فقد زاد من التوترات والصراعات العرقية الداخلية، ما ساهم في النهاية في استقالته في أواخر سبتمبر/ أيلول 2018.
ثم في عام 2018، عيّن الكرملين الزعيم المدني كازبيك كوكوف رئيسًا للجمهورية، وأعلن كازبيك أن أولوياته هي تخفيف التوترات ودعم الأنشطة الوطنية وتعزيز مناخ الاستثمار.
مع ذلك لا تزال قبردينو بلقاريا تحت سيطرة موسكو بشكل محكم، ويعتمد بوتين بشكل كبير على الأجهزة العسكرية والأمنية، لكن حتى مع صمت المدافع لا يزال القبارديون والبلقار يضمرون مظالم جماعية ضد روسيا، ويشعرون بالهيمنة الروسية على ماضيهم وحاضرهم.