ترجمة وتحرير: نون بوست
منذ أكثر من قرن، قدمت لنا أفلام الخيال العلمي صورا عن مدننا المستقبلية. كان بعضها لامعا مشرقا وإيجابيا، في حين كان البعض الآخر مظلما وقذرا وقاسيا. بينما نتطلع إلى القرن الحادي والعشرين المليء بالمدن العملاقة والابتكارات التكنولوجية الاستثنائية، يجب أن نتساءل حول كيفية تأثير رؤيتنا للخيال العلمي على المدن التي نقوم بتشييدها، وماذا يمكننا أن نتعلم من بعض هذه الصور الخيالية المعروفة؟
في البداية، كان هناك “متروبوليس”
يعد فيلم ميتروبوليس، أهم أعمال المخرج فريتز لانغ، أولى الرؤى المستقبلية للمدن الحضرية. في حين لم يكن الفيلم نفسه، سواء من الناحية الجمالية أو الموضوع، روائيا بشكل خاص في ذلك الوقت، إلا أن رؤيته الشاملة لمدينة مستقبلية دون طبقة متوسطة، حيث يعيش الأثرياء في مساكن أعلى بكثير من تلك التي يسكنها العمال الفقراء الذين يكدحون في الأسفل، قد استمر تأثيرها لمدة قرن على السينما والهندسة المعمارية.
تلاعب فيلم متروبوليس برؤية المدينة الفاسدة التي تستند بالأساس على المدينة العمودية. وتقترح هذه الرؤيا أن مدننا الكبيرة المستقبلية ستهيمن عليها ناطحات سحاب ضخمة
في ذلك الوقت، لم يلاقي الفيلم قبولا على الإطلاق من قبل كل من النقاد والجماهير. وقد كتب مؤلف الخيال العلمي الشهير، هربرت جورج ويلز، نقدا قاسيا للفيلم مشيرا إلى أنه سرق قصة روايته، التي تبلغ من العمر 30 سنة، والتي تعرف باسم “النائم المستيقظ”. وحيال هذا الشأن، كتب ويلز: “لقد شاهدت مؤخرا أكثر الأفلام سخافة. لا أعتقد أنه هناك فيلم أسخف من ذلك. كما أنه يركز على الحماقات والكليشيهات والتفاهات ويتخبط في دائرة مفرغة تدور حول التقدم الميكانيكي، والتقدم بشكل عام، ممزوجا بعواطف من خيال المخرج”.
وبصرف النظر عن قصة المدينة الفاسدة التي يسردها الفيلم، تحاكي الجوانب الجمالية للمعمار المقدمة في الفيلم، بطريقة لا يمكن إنكارها، نماذج أخرى من المعمار، تتراوح بين مزيج ملهم من الطراز المعماري المستقبلي وفن الزخرفة وأساليب الهندسة المعمارية القوطية. وعلى الرغم من هذه التصاميم المعمارية القديمة المتوارثة واضحة المعالم، كان فيلم متروبوليس مؤثرا جدا نظرا لتصويره بطريقة شاملة حياة المدينة المستقبلية. ولم تكن سينما الخيال العلمي في القرن العشرين الوحيدة التي استوحت هذه الجوانب منه، بل كان مصدر إلهام لمجموعة كاملة من المهندسين المعماريين والمصممين والمخططين.
إلى حدود القرن العشرين، أصبحت فكرة المدينة العمودية مرتبطة بشكل جوهري برؤى الخيال العلمي للمدينة الفاسدة، حيث يعيش الأغنياء في القمة، بينما يتزاحم الفقراء في الشوارع الكئيبة في الأسفل
تلاعب فيلم متروبوليس برؤية المدينة الفاسدة التي تستند بالأساس على المدينة العمودية. وتقترح هذه الرؤيا أن مدننا الكبيرة المستقبلية ستهيمن عليها ناطحات سحاب ضخمة، ولن تستطيع نشر بصمتنا الخاصة في المعمار. وبدلا من ذل، سنعمل على تشييد بنايات شاهقة ستضم في نهاية المطاف جميع جوانب المجتمع البشري داخل مبنى واحد.
إلى حدود القرن العشرين، أصبحت فكرة المدينة العمودية مرتبطة بشكل جوهري برؤى الخيال العلمي للمدينة الفاسدة، حيث يعيش الأغنياء في القمة، بينما يتزاحم الفقراء في الشوارع الكئيبة في الأسفل. لقد تم رسم هذا التصور الواقعي للتسلسل الهرمي الطبقي بطريقة معمقة في العديد من نصوص الخيال العلمي المثيرة للاهتمام، بداية من رواية الكاتب جيمس غراهام بالارد “البرج” وصولا إلى قصص حديثة، على غرار سلسلة “ألترد كاربون” “وإليسيون”.
إلى الأسفل مع بليد رانر
يعد فيلم بليد رانر ثاني أهم فيلم بعد متروبوليس في قائمة أكثر الأفلام تأثيرا في الرؤى الحضرية في الخيال العلمي التي تم تصويرها على الإطلاق. لقد سرق فيلم بليد رانر رؤية المدينة العمودية المستقبلية من فيلم متروبوليس، لكنه استنبط تصويرا مذهلا للحياة الحضرية على مستوى الشوارع في المستقبل. وتوصف الشوارع على أنها قاتمة ومظلمة ورطبة باستمرار، وتعج هذه الرؤية، التي تصور اضمحلال مستقبل العمران، بتفاصيل حية.
عند إلقاء نظرة عن قرب، تتمثل أغرب المفارقات في فن العمارة في القرن الواحد والعشرين في التأثير المتزايد لأفلام على غرار بليد رانر على المباني في الحياة الواقعية
تعد الرؤية المستقبلية للمدن على مستوى الشوارع صاخبة وقذرة ومزدحمة، وغالبا ما يتواتر شعور أن كل ابتكار تكنولوجي جديد يظهر سيعمل جنبا إلى جنب مع الابتكارات التي سبقته. تجعل هذه الفكرة المهمة الفيلم مختلفا عن الرؤى المستقبلية الاستشرافية التي تعمل على تصميم مدن الخيال العلمي من نقطة الصفر. بدلا من ذلك، يحتوي العالم الذي يصوره فيلم بليد رانر على مزيج مكثف من الصناعة، وربما هذا ما يضفي واقعية أكثر عليه.
عند إلقاء نظرة عن قرب، تتمثل أغرب المفارقات في فن العمارة في القرن الواحد والعشرين في التأثير المتزايد لأفلام على غرار بليد رانر على المباني في الحياة الواقعية. وتعتبر الحركة التي أطلق عليها، الحركة المستقبلية في الخليج، نوعا خاصا جدا من الهندسة المعمارية والتصميم الحضري الذي يشق طريقه إلى الشرق الأوسط.
دبي، مدينة المستقبل الفاسدة.. اليوم
تهيمن هذه الموجة الجديدة من التصميمات الضخمة، المستوحاة من ألعاب الفيديو وأفلام هوليوود، على بلدان الخليج الغنية بالنفط أصحاب الملايين الذين يعملون على تطوير كل جوانب الحياة لمستقبل مذهل. وتعتبر دبي مركزا للهندسة المستقبلية المعمارية في الخليج. وقد زار المهندس سيد ميد، أحد المصممين الرئيسيين وراء فيلم بليد رانر، المدينة سنة 2005. وفي تصريح له، أكد ميد أن “الشرق الأوسط يعتبر مثالا رائعا عن كيفية ترابط الواقع والمستقبل، الأمر الذي يكشفه بوضوح حجم ونطاق ورؤية بعض المشاريع في المنطقة. أود أن أكون جزءا من أفق هذه المنطقة وأساعد على تشكيله من أجل غد أفضل”.
أوضح ستيفن غراهام أن “هناك تشابه مذهل ومثير للقلق بين العديد من جوانب هذه الديستوبيات، أو المدينة الفاسدة المستوحاة من الخيال العلمي والممارسات المنتشرة حاليا في دول الخليج على سبيل المثال
تحاكي الحياة الفن، ليحاكي الفن بعد ذلك الحياة. وتتجلى هذه العلاقة الأبدية بوضوح في تطور عمارة مدننا، خلال القرن الماضي. وقد يكون تأثر هذه المدن الكبرى المستقبلية، على غرار دبي، برؤى الخيال العلمي المترسخة بشكل جلي في وجهات النظر الدستوبية، من أكثر الأمور إثارة للدهشة. ويرى ستيفن غراهام، وهو أكاديمي مهتم بالعلاقة التي تربط بين المدن والخيال التأملي، أن بعض هذه النماذج المعمارية الجديدة المنتشرة على نطاق واسع بدأت تتخذ منحى مثيرا للقلق.
من جهته، أوضح غراهام أن “هناك تشابه مذهل ومثير للقلق بين العديد من جوانب هذه الديستوبيات، أو المدينة الفاسدة المستوحاة من الخيال العلمي والممارسات المنتشرة حاليا في دول الخليج على سبيل المثال. ففي الواقع، تقطن النخبة في شقق في أعلى المباني الشاهقة (البنتهاوس) وتتنقل بالمروحيات والطائرات الخاصة، بينما يفقد الآلاف من العمال الذين يتكفلون بتشييد هذه الصروح أرواحهم، سنويا، جراء أعمال البناء هذه”.
فيلم “هي”: المدينة الفاسدة القائمة على الاستطباق
عرض فيلم المخرج سبايك جونز الصادر سنة 2013، هي، واحدة من أكثر نماذج المدينة المستقبلية إثارة في السنوات الأخيرة. ويقدم الفيلم، الذي يروي قصة علاقة عاطفية بين رجل ونظام تشغيل الحاسوب الخاص به، نظرة عن مستقبل واضح السمات ومشرق لمدينة لوس أنجلوس، التي ستتمتع بالعديد من الخاصيات المميزة. لم يقع تحديد الإطار الزمني لأحداث الفيلم بشكل واضح، ولكن ترجح عديد الفرضيات أن القصة تدور في منتصف أو أواخر السنوات العشرين من القرن الحالي.
الأمر الأكثر إثارة للاهتمام في الرؤية المستقبلية التي يقدمها الفيلم، الجوانب التي لم يتطرق إليها. فنجد أن الاستطباق هيمن بالكامل على مدينة لوس أنجلوس المستقبلية، كما بات البيض يشكلون أغلبية سكان العالم، الذي أصبح بدوره أكثر رقيا
ما يمكن ملاحظته على الفور فيما يتعلق بمدينة لوس أنجلوس المستقبلية، التي صورها فيلم “هي”، هو أنه ورغم هيمنة المباني الشاهقة على خط الأفق، إلا أن هناك غيابا واضحا للسيارات. وصَور الفيلم مدينة لوس أنجلوس على أنها تعج بقطارات الأنفاق الواسعة والأكثر عملية، بالإضافة إلى القطارات عالية السرعة، والممرات الرحبة المخصصة للمارة، التي تشبه كثيرا حديقة “ذا هاي لاين” الشهيرة بمدينة نيويورك. ويمكن استثناء مشهد وحيد تدور تفاصيله في الشارع، ليشهد ظهور سيارة أجرة تقليدية. في الواقع، لم تكن المدينة نتاج استخدام مفرط لرسوميات حاسوبية، بل هي عبارة عن مزيج بين مجموعة من الصور التي التقطت لمدينة لوس أنجلوس في الوقت الحاضر وأخرى لشانغهاي، أنجزت ببراعة.
لعل الأمر الأكثر إثارة للاهتمام في الرؤية المستقبلية التي يقدمها الفيلم، الجوانب التي لم يتطرق إليها. فنجد أن الاستطباق هيمن بالكامل على مدينة لوس أنجلوس المستقبلية، كما بات البيض يشكلون أغلبية سكان العالم، الذي أصبح بدوره أكثر رقيا، مع وجود مجموعة صغيرة من الأقليات العرقية الأخرى التي تظهر في هوامش الفيلم من حين إلى آخر. لكن لم تكن هذه الأقليات سوى عناصر دخيلة على هذا العالم واضح السمات والفسيح.
السيارات المحلقة، الهايبرلوب ومستقبل النقل
تتمثل إحدى المسائل الهامة التي يمكن استخلاصها من المدينة المستقبلية في فيلم “هي” في أن المستقبليين ومصممي الخيال العلمي ما زالوا يخوضون في موضوع طرق تنقل سكان هذه المدن الضخمة. ومن جهته، أوضح مصمم الإنتاج لفيلم “هي”، كيث باريت، أن تجنب استخدام السيارات في مشاهد الفيلم لم يكن سوى قرار عملي نسبيا.
كما تحدث باريت عن مصدر استلهام خيارات تصميم الفيلم التي تمحورت حول الإنسان، قائلا: “درسنا خصائص عدد من المدن المختلفة، وفي نهاية المطاف وقع اختيارنا على مدينة شانغهاي من أجل تصوير بعض اللقطات الخارجية للمباني الشاهقة وللممر الدائري المعلق فوق الشارع. وهذا ما جعلنا في غنى عن عرض مقاطع تنقل للمشاهد حركة المرور. وفي الحقيقة، لم أرغب في القيام بهذا الأمر، لأن السيارات كانت ستحُد الفيلم داخل إطار زمني معين. وإلى جانب ذلك، لم تكن لنا قدرة تحمل تكاليف مئات السيارات”.
كانت أفلام الخيال العلمي في القرن العشرين قد وعدت بمستقبل تملأ فيه السيارات الطائرة المدن. وتشير عديد العناصر، ابتداء من الطرق السريعة المعلقة وانعدام الازدحام المروري في فيلم “العنصر الخامس” أو “العودة إلى المستقبل 2″، وصولا إلى السيارات الطائرة الأيقونية التي تعرف بالسبينارز في فيلم “بليد رانر”، إلى أن مدننا المستقبلية ستكون معلقة في الهواء من دون شك. في الوقت الذي يتم فيه تطوير وسائل نقل مستوحاة من المروحيات الرباعية بنسق متسارع، أصبحت فكرة السيارة الطائرة التي قدمتها أفلام الخيال العلمي إحدى الأفكار التي تجاوزها عامة الأشخاص، والتي من المستبعد أن تتحقق فعلا.
من بين أكبر العوائق التي تواجه هذه الفكرة المبتكرة أنها ستشمل إجراء إعادة تشكيل تام لنماذج التصميم العمراني الحالية، وهو أمر يصعب تحقيقه في نهاية المطاف
بغض النظر عن الفكرة المثيرة للاهتمام التي تشير إلى أن السيارات في المستقبل سيكون لديها عجلات قيادة وسيظل البشر هم الذين يقودونها، أصبح من الواضح أن وسائل النقل الحضري في المستقبل ستكون على الأرجح عربات ذاتية القيادة ولا تشبه بأي شكل من الأشكال مفهوم السيارات في الوقت الحالي. برزت واحدة من بين العديد من الرؤى المتميزة للمستقبل، في فيلم “تقرير الأقلية” للمخرج ستيفن سبيلبرغ، حيث نجد تصورا ذكيا لما ستكون عليه وسائل النقل الجماعي في سنة 2054. ويعرض الفيلم مدينة يستخدم فيها القطار المغناطيسي المعلق بصفة كبيرة، وعلى هذا الأساس يتنقل المواطنون من مكان إلى آخر في مقصورات خاصة تعمل بشكل مستقل.
من بين أكبر العوائق التي تواجه هذه الفكرة المبتكرة أنها ستشمل إجراء إعادة تشكيل تام لنماذج التصميم العمراني الحالية، وهو أمر يصعب تحقيقه في نهاية المطاف. ومع ذلك، تجسد طبيعة العربات ذاتية القيادة صورة للمدينة المستقبلية، في ضوء الابتكارات التكنولوجية الحالية، التي تبدو في الواقع وكأنها تنبؤات أكثر من كونها ابتكارا مذهلا.
بعد سنتين من صدور فيلم “تقرير الأقلية” ظهر فيلم “أنا روبوت” للمخرج أليكس بروياس، الذي تدور أحداثه في المستقبل تحديدا سنة 2035. ويعرض الفيلم واحدة من أكثر أنظمة النقل واقعية في المستقبل التي رأيناها حتى هذا اليوم، بالإضافة إلى تصوراته المستقبلية للسيارات المستقلة التي تتطلع إلى أن تكون فعالة. وفي حين لا تزال سيارات المستقبل تبدو وكأنها سيارات عادية، إلا أنها تحتوي على لوحة عرض رأسية بالإضافة إلى أنظمة التحكم الصوتي، وكل التقنيات التي تجسد التبني الشامل لهذا الاتجاه السائد.
تعد أكبر الاختلافات بين هذين الفيلمين من ناحية النظرة المستقبلية للمدن هي المركبات التي تحوم حول المدينتين. في حين يعرض فيلم “تقرير الأقلية” نظرة مستقبلية للمدينة، حيث يتم بناء سكك مغناطيسية جديدة بحيث يمكن للقطارات المغناطيسية المعلقة أن تسير في جميع أنحاء المدينة، فإن فيلم “أنا روبوت” يظهر مدينة حضرية حيث لا تزال طرقها شبيهة بالطرق الحالية ولكن وسائل النقل تسير تحت الأرض. لا تزال هناك شوارع مثل التي نحظى بها الآن، ولكن كلما انتقلت إلى وسط المدينة، كلما قل عدد السيارات، بحيث وجدت مساحات واسعة للمشاة.
أكثر كلمة يتم تداولها الآن في العالم، والمتعلقة بالتصميم الحضري للمدينة الحديثة، في كلمة “المدينة الذكية”، تشمل هذه الفكرة أساسا كل الأشكال الجديدة من المعلومات وتقنيات الاتصالات من أجل تحسين النظام الإداري الحالي لمدينة القرن الواحد والعشرين
على الرغم من أن شبكات الطرق السريعة تحت الأنفاق في فيلم “أنا روبوت” تثبت أن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث إلا في عالم الخيال العلمي، إلا أن حقيقة تنقل وسائل النقل الجماعي تحت الأنفاق ليست بفكرة غير معقولة بتاتا. وفي هذا السياق، تقوم استثمارات إيلون مسك الضخمة في مجال تطوير تقنيات النقل هايبر لوب بتمهيد الطريق لإنشاء نظام نقل تحت الأرض. لعل أهم جوانب هذه التقنية هو المجهود الذي يبذله مسك لتأسيس شركة بورينغ، وهي شركة ناشئة تسعى إلى تطوير أنفاق متطورة بالإضافة إلى تطوير تقنيات الإنشاء الضرورية. كما تركز على تشييد أنفاق هايبر لوب ومسارات للمشاة وراكبي الدراجات.
المدينة الذكية أو المدينة المراقبة
تكمن أكثر كلمة يتم تداولها الآن في العالم، والمتعلقة بالتصميم الحضري للمدينة الحديثة، في كلمة “المدينة الذكية”. تشمل هذه الفكرة أساسا كل الأشكال الجديدة من المعلومات وتقنيات الاتصالات من أجل تحسين النظام الإداري الحالي لمدينة القرن الواحد والعشرين. والجدير بالذكر أن بعض ابتكارات المدينة الذكية قد تكون لديها أثار إيجابية فقط. على سبيل المثال نجد الطريقة التي اعتمدتها برشلونة، حيث جنحت إلى تعديل نظام إشارات المرور حتى يتزامن مع وقت مرور الحافلات وسيارات الإسعاف. من ناحية أخرى، يقترح البعض أن مصطلح “المدينة الذكية” يمكن أن يستبدل بمصطلح “المدينة المراقبة”، حيث أن العديد من هذه الابتكارات التكنولوجية تتطلب بطبيعتها جمع بيانات حول كل شيء وحول كل شخص يعيش في ذاك الفضاء.
أصبحت بعض الأفكار السائدة في فيلم “تقرير الأقلية” أكثر واقعية يوما بعد يوم. ففي الواقع، يصور الفيلم نظرة للمستقبل، حيث يتم فيه تعقب كل مواطن لحظة بلحظة بينما يعيشون حياتهم في المدينة. وقد قدمت هذه الخاصية على أنها نظام مراقبة صديق للمستهلك، موجه لتقديم إعلانات مصممة خصيصا لتلبية احتياجات كل فرد على حدة. هل يبدو ذلك مألوفا؟ في الحقيقة، يعتبر ذلك أفضل من تلقي وابل من الإعلانات عن أشياء لا علاقة لها بك، أليس كذلك؟
من المثير للاهتمام أنه بقدر ما اعتمدت فكرة سبيلبرغ للمراقبة الجماعية على المسح الدقيق لقزحية العين في كل مكان يذهب إليه الفرد، إلا أن العالم الحقيقي قد تجاوز هذه الرؤية التي يقدمها فيلم “تقرير الأقلية”. في العالم الواقعي، تجاوزت هذه التقنيات الحديثة مثل الهواتف الذكية ونظام التعرف على الوجه، الفكرة البدائية لنظام مسح قزحية العين.
في الوقت الذي بُنيت فيه أغلب المدن الحديثة على قمة قرون من التنمية والثقافة، يتم بناء بعض المدن حول العالم انطلاقا من نقطة الصفر. وتمثل سونغدو، جنوب مدينة سول عاصمة كوريا الجنوبية، إحدى هذه التجارب الاجتماعية الضخمة.
حولت المراقبة الجماعية في المدن الصينية الحالية البلاد إلى تجربة اجتماعية ضخمة. ويقدر وجود أكثر من 200 مليون كاميرا مراقبة فعلا مثبتة في أرجاء البلاد. علاوة على ذلك، تم وضع أنظمة التعرف على الوجه في العديد من الأماكن العمومية، مما يسمح للدولة بتتبع المواطنين والنشاط الإجرامي. كما تم تزويد ضباط الشرطة بنظارات مخصصة للتعرف على الوجه لتعقب الحشود وتحديد المجرمين المطلوبين للعدالة.
تجربة سونغدو
في الوقت الذي بُنيت فيه أغلب المدن الحديثة على قمة قرون من التنمية والثقافة، يتم بناء بعض المدن حول العالم انطلاقا من نقطة الصفر. وتمثل سونغدو، جنوب مدينة سول عاصمة كوريا الجنوبية، إحدى هذه التجارب الاجتماعية الضخمة. وقد تم اعتبار هذا التطور، الذي بني من العدم طوال 10 سنوات وكلف أكثر من 40 مليار دولار، أذكى مدينة في العالم.
في هذه المدينة، تم تثبيت أجهزة استشعار في كل شيء، مما يساهم في إدارة تدفق حركة المرور واستخدام الطاقة. كما تم إنشاء كل منزل مرفق بأدوات تحكم في الإنترنت إلى جانب إدارة القمامة عن طريق أنابيب مفصلة ترسل النفايات انطلاقا من كل منزل مباشرة إلى مصب يقع تحت الأرض. بالإضافة إلى ذلك، تخصص نسبة 40 بالمائة من المساحة الحضرية للمنتزهات الخضراء، علاوة على توفر محطات شحن المركبات الكهربائية في كل مكان.
كان من المقرر الانتهاء من بناء سونغدو بحلول سنة 2015، لكن الأشغال لا تزال قائمة حيث تم الانتهاء من نصفها بالفعل. ويقال إن السلطات بصدد إقناع الناس بالانتقال إلى المدينة. وقد وصف أحد التقارير المدينة بأنها تشبه “مدينة أشباح تشرنوبيل”، في حين وصفها صحفي بشكل أقل إطنابا بأنها “هادئة بشكل مخيف”. تحيل قصة سونغدو إلى أنه لا وجود لمدينة يمكن بناؤها ببساطة من العدم. وفي أسوأ الأحوال، قد تتحول المدينة إلى متحف مهجور، وفي أفضلها، قد تصبح على وجه السرعة عتيقة من الناحية التكنولوجية.
العالم باعتباره مدينة ضخمة عملاقة
على الرغم من بناء العديد من المدن الذكية من العدم في أرجاء العالم، يمكن القول إن مدننا الضخمة الهائلة ستهيمن على المشهد الحضري المستقبلي. وستكون هذه المدن الضخمة، التي تضم عشرات الملايين من الأشخاص، موجودة في الغالب في الدول الناشئة التي تعتبر حاليا متخلفة وتعاني من سوء التجهيز في مواجهة موجة التحضر السريع الوشيكة.
في هذا السياق، تتصدر طوكيو قائمة أكبر المدن في العالم، حيث تحوي قرابة 37 مليون شخص. وقد توقعت دراسة إسقاط سكاني حديثة، أجريت في جامعة أونتاريو، أنه بحلول سنة 2075 سوف تكون كينشاسا عاصمة الكونغو ومومباي عاصمة الهند ومدينة لاغوس في نيجيريا أكبر ثلاث مدن على سطح الأرض. ومن المتوقع أن يفوق تعداد السكان في جميع هذه المدن 57 مليون نسمة.
في الحقيقة، تعتبر هذه الأرقام مخيفة. ويصعب تصور عالم مستقبلي تجسد فيه هذه المدن العملاقة رؤى استثنائية للتطور التكنولوجي للحضارة الأفريقية تذكرنا بدولة واكندا في فيلم بلاك بانثر. بدلا من ذلك، قد تكون رؤية فيلم إليزيوم باعتبارها حيا فقيرا ضخما مستبصرة أكثر. والجدير بالذكر أن المدينة الضخمة تمثل منطقة حضرية عملاقة مستمرة. وقد لعب الخيال العلمي دورا في تصوير الفكرة التي تقول إن المدن التي تتوسع بشكل كبير تندمج في نهاية المطاف مع بعضها البعض في العديد من المناسبات. قدمت سلسلة ميغا سيتي وان ذات البعد الخيالي، التي تصور بشكل رائع شخصية جادج دراد، نظرة مستقبلية للولايات المتحدة الأمريكية.
تضمنت هذه النظرة المستقبلية إدماج أغلب حيثيات الجانب الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية في كيان مدينة ضخمة. في المقابل، قدم فيلم الرجل المدمر بطريقة أكثر لطفا مستقبلا يتضمن مدينة ضخمة تدعى لاس أنجليس، التي تضم كلا من مدينة لوس أنجلوس وسانت بربرا وسان دييغو.
على صعيد آخر، لعل أكثر رؤية عبثية للمدينة الضخمة من شأنها أن تقود هذه الفكرة إلى نهايتها المنطقية. ففي عالم حرب النجوم، تعد كورسنت كوكبا تم الاستيلاء عليه من قبل مدينة ضخمة. ويجسد هذا المثال رؤية عميقة لما أطلق عليه أكيومينوبوليس، وهو المفهوم الافتراضي للمدينة العالمية.
بطبيعة الحال، تصور رؤية حرب النجوم لهذه المدينة الضخمة من الناحية المثالية الخيالية، حيث أن كلمة “كورسنت” في حد ذاتها تعني في الحقيقة التألق واللمعان. ونادرا ما يتم تصوير المستوى الأرضي لمدينة كورسنت في أفلام حرب النجوم. لكن، عندما يتم ذلك بشكل وجيز نرى فوضى نموذجية للغاية من النيون والأوساخ مشابهة لتلك الموجودة في فيلم بليد رانر. وحتى النزعات المثالية الخيالية لحرب النجوم لا تستطيع أن تصبغ الجانب السفلي للمدينة الضخمة برونق خاص.
أين الوجهة إنطلاقا من هنا؟
رغم وفرة تصورات الخيال العلمي المستقبلية المختلفة بشأن مستقبلنا، يبدو أنه يصعب أكثر من أي وقت مضى توقع ما قد يبدو عليه عالمنا خلال 50 سنة المقبلة. هل سنعيش في مدن عمودية من الصفيح منغمسين في عوالم الواقع الافتراضي المثالية على طريقة فيلم ريدي بلاير وان؟ أم هل ستتسارع وتيرة الدخل غير المتكافئ في عالم منقسم حيث يعيش الأغنياء في ناطحات السحاب الضخمة في حين يتزاحم الفقراء حول أحياء متسخة شبه فقيرة؟ هل ستحررنا التكنولوجيات الحديثة من الأعمال الوضيعة، أم أنها ستساهم في خلق عالم بائس حيث نكون فيه عبيدا للأجهزة وتحت مراقبة مستمرة؟
المصدر: نيو أتلاس