لا أحد يبحث عن واقعه في السينما، فقد جُعلت هذه الشاشة لتشغلنا عن النظر إلى ما حولنا بالأساس، صحيحٌ أننا بحاجة إلى الشعور ببعض الألفة تجاه ما نراه وإقامة العلاقات مع عناصره وإسقاطها عن وعي أو دون وعي على ذواتنا وواقعها، لكن ذلك لا يجب أن يحول دون الشعور بالغربة، ذلك المتخيَل الذي به نكون على يقين من أننا لم نسقط مرة أخرى في الواقع الذي منه هربنا.
تركز فنون ما بعد الحداثة على قيمة المتخيَل فيها، فتعمل على تذكير المتلقي بهذه الحقيقة هادمة بذلك وهم الواقع الذي توحي به المحاكاة، أنتج ذلك نمطًا جديدًا من النص الدرامي الواعي بذاته المتخيلة، إنه نصٌ واعٍ بكونه نصًا وبكونه متخيَلاً.
يمكن اقتفاء الآثار الأولى لهذا الأسلوب الأدبي في نصوص قديمة جدًا، ولكن يبدو أن أول من ميزها باسم ما، كان وِليَم هَوَرْد غاس William H. Gaas سنة 1970، فأطلق عليها مصطلح Metaficiton الذي لا أجد له تعريبًا دقيقًا ومناسبًا، فاكتفيتُ بالعبارة الرائجة “ماوراء القصِ”، وليس غريبا أن يكون ذلك إثر انتشار أفكار الموجة الجديدة الفرنسية La nouvelle vague التي انطلقت في الخمسينيات من السينما، فالعلاقة بين الوسيطيْن (الكتابُ والشاشة الفضية) عضوية وجدلية.
لقد ظل القص الماورائي إلى زمن غير بعيد ميزة الأعمال التجريبية أو سينما المؤلف Cinema d’Auteur (هل يمكن استثناء أعمال مونتي بايثون Monty Pythonالكوميدية؟) ثم بدأ يتسرب إلى سينما الجماهير خصوصًا مع سلسلة الصرخة Scream في التسعينيات، واليوم باتت الكتابة الماورائية إحدى أسلحة مارفل Marvel التي مكنتها من تجاوز نفسها وتحقيق نجاحات كبيرة في شباك التذاكر، لقد تحول أسلوب الكتابة المذكور إلى ما يشبه الموضة الفنية في السنوات الأخيرة، وأحد أدوات الكوميديا الرئيسية، ليس غريبا إذًا أن يكون أهم أفلام مارفل الكوميدية مبنيًا تمامًا على الكتابة الماورائية، أتحدث طبعًا عن ديدبول Deadpool!
إحدى أهم ميزات القصِ الماورائي، وعيهُ بالصنف السينمائي The Genre، لذلك كان ديدبول نقيض بطلٍ نموذجيٍ Antihero.
كنت قد تحدثت في مقالة سابقة عن الفيلم الأول لديدبول، إذ كان مفاجأة عظيمة على مستوى الكتابة، لذلك بدا التحدي صعبًا على ريان رينولدز Ryan Reynolds بطل السلسلة وهو يغامر بإنتاج الجزء الثاني والمشاركة في كتابته، فميزة ديدبول في طرافة الفكرة، ولأن أي جزء جديد سيستعيدها وجوبًا، ويكررها، فهو سيخسر جانب الطرافة من قبل أن يُعرض، وكان على رينولدز أن يمرقَ بشكل أكثر جموحًا من الفيلم الأول ليقدم الإضافة، فهل كسب الرهان؟
إحدى أهم ميزات القصِ الماورائي، هو وعيهُ بالصنف السينمائي The Genre، لذلك كان ديدبول نقيضَ بطلٍ نموذجيٍ Antihero، فوجود شخصيته في عالم مارفل الذي يعجُ بالأبطال الخارقين، قائمٌ على نقضهم حتى يتسنى له أن يؤسس وعيًا/نقدًا لهذا العالم من الداخل، وهكذا، كان على شخصية ويد ولسن Wade Wilson (الذات البديلة alter ego لديدبول) أن تملك في آنٍ ما يميزُ أبطال المارفل، وأن تعدَمها، ليحدث اعترافُ المشاهدِ به كبطل خارق، ثم ليحدث الإدراك بأنه “منتَجٌ” مختلفٌ أي لا يؤدي ذات الوظيفة.
أجل يتعرض ويد ولسن لسلسلة الأحداث الكلاسيكية التي تجعل منه بطلاً كلاسيكيًا: الحادثة الدرامية والتجربة الخطرة والعالِم الشرير والتحور الجيني، وربما حكاية الانتقام أيضًا، لكن ديدبول يتميز عن هؤلاء بعناصر مضادة للصورة الكلاسيكية: إنه ليس شخصًا طيبًا في المقام الأول، بل قاتل “مجرمين” محترف، المال دافعه الأساسي وليس تحقيق العدالة، وحتى بعد التحور الجينيِ، كانت دوافعهُ ردود فعل “طبيعية” كالانتقام والرغبة في الحياة أو إنقاذ أحبته، لم يكن من بينها تلك الفكرة النبيلة لتحقيق العدل أو الخير كما يفعل الأبطال الكلاسيكيون.
يناقش ديدبول الذي يضطلع أيضًا بوظيفة الراوي، صنف الفيلم الذي هو بطله بشكل مفتوح مع المشاهد، فيتنكر للصنف الذي يفترضُ أنه يمثله أي “أفلام الأبطال الخارقين”، ويعرض في الجزء الأولِ انتماءً للسينما الرومانسية حينًا وأخرى لسينما الرعب، أما الجزء الثاني ـ الذي يعنينا هنا ـ فقدم على أنه فيلم عائلي!
نخلص إلى معنى جديد للفيلم العائلي، فهو ذلك الفيلم الذي ينبش في فكرة العائلة، وكيف تتأسس لا على روابط الدم بل على روابط الإيمان بالآخر، والوقوف إلى جانبه في المحن
لقد بنيت الدهشةُ في التصريح الأول (فيلم رومانسي) من فكرة مسبقة للمشاهد تقول إنه جاء ليشاهد فيلم أبطال خارقين، أي أنها معرفة من خارج سياق الفيلم، أما في المرة الثانية (فيلم عائلي)، فالدهشة تملكنا لأننا نعرف طبيعة أفلام ديدبول (وقد شاهدنا الأول) ونعرف أن حجم العنف والكلام البذيء والإيحاءات الجنسية تجعله لا يصلح للمشاهدة العائلية مطلقًا، وبهذه الدهشة يتحقق الغرضُ من التصريح: تقويض الصنف السينمائي والتشكيك في فائدته والعمل المستمر على اختراق حدوده والتحرر منها.
في النهاية، نخلص إلى معنى جديد للفيلم العائلي، فهو ذلك الفيلم الذي ينبش في فكرة العائلة، وكيف تتأسس لا على روابط الدم بل على روابط الإيمان بالآخر، والوقوف إلى جانبه في المحن، خلاصة رومانسية لا تخلو من تكلف ومن وعظ ليس نادرًا وجوده في أعمال كهذه، وهي برأيي نقطة ضعف هذا الجزء الأساسية.
بعد أن خرج ديدبول الأول بنَفَسه الساخر ونظرته الناقدة لسينما الخارقين، كان على مارفل أن تساير نفسها، وترضخ للنقد الذي مارستْه على منتجاتها، فكان على سلسلة أفلام الوولفرين Wolverine أن تستجيب وتقدم شيئًا جديدًا، حدث ذلك بشكل لم يتوقعه أحدٌ في الحلقة الختامية من قصة الوولفرين التي صدرت السنة الماضية بعنوان Logan، ففيها، يتخلى البطل الوولفرين (أو لوغان) عن الكثير من ملامح صورته الكلاسيكية “البلاستيكية” ويتحول إلى شخص حقيقيٍ محسوس، شخصٍ يملك همومًا ورغبة عن الحياة، ويتحول المشهدُ إلى شيء قاتم ذي نكهة واقعية، وسخرية سوداء، بل إن الفيلم استعاد بعض دعابات ديدبول ذات الكتابة الماورائية، فداخل الفيلم، يقرأ لوغان قصة إكس مان مصورة، أي أنه يقرأ قصته داخل قصته، ولقد حقق الفيلمُ بفضل ذلك نجاحًا كبيرًا.
وعندما خيل إلينا أن الوولفرين استعاد هيبته عند أحباء عالم المارفل، أطلق ديدبول قُمرته السليطة مرة أخرى، ليزور ثانيةً ذات القالب القصصي ولكن على طريقته، ففي فيلم لوغان، يعمل الوولفرين على حماية فتاة متحولة مثله (Mutant)، وهي العلاقة نفسها التي تربط ديدبول بالفتى البدين فايرفست Firefist، لا يخفي الفيلم هذا التشابه بل إنه يعلنه ويسعى بإلحاح إلى التذكير به.
تعمل هذه الشخصيات على تركيز أسس قصصية كلاسيكية تسمح لديدبول باختراقها
لا ننسى تلك اللعبة الصغيرة التي تجسد النهاية المريعة لوولفرين في لوغان، لقد كان ديدبول يتسلى بها في شماتة مضحكة، إذ إنه يعي جيدًا من بطل قصص مارفل الأول، ويعي أنه لم يكن يومًا في مقدمة شخصيات هذا العالم، لذلك يبدي طموحًا مثيرًا للإعجاب.
إنه لا يكتفي بلعب دور البطل داخل القصة الموكولة إليه، بل ينظر إلى ما وراء القصة ليظفر ببطولة عالم المارفل برمته، لا ينفك يقارن نفسه بلوغان في شتى المواقف حتى مشهد النهاية المغرق في السخرية، إذا كان لوغان “قادرًا” على الموت، فديدبول “قادر” أيضًا، لكنه يتمنع، ربما لأنه “الأبرع”، أو ربما لأنه ـ عكس لوغان ـ لا يزال يملك عائلة كبيرة ومستقبلاً أفضل.
لقد مر القصُ الماورائيُ أيضًا عبر أسرة ديدبول داخل عالم مارفل، ففرقة “الناس ـ إكس” X-People تتأسس تقريبًا على السخرية من فرقة الرجال إكس X-Men الشهيرة التي يتزعمها لوغان، لا يتوقف الأمر على الاسم الساخر الذي يدعي احترام الاختلاف الجندري، بل يتعدى إلى القدرات المضحكة التي يتميز بها أفرادها، فضلاً عن زمن حياة الفرقة الموجز.
مع ذلك، تعمل هذه الشخصيات على تركيز أسس قصصية كلاسيكية تسمح لديدبول باختراقها، فإذا كان الجميع “مجنونًا”، لن يكون إدراكه (الاختراق) من قبل المشاهِد ممكنًا، هكذا لعب كيْبِل Cable (جوش برولين Josh Brolin) بأمانة دورًا كلاسيكيًا شبيهًا بدور شفاغتسينغر Schwarziniger في فيلم المدمر Terminator الشهير، ولقد سمح أسلوبه الكلاسيكي بإنجاح تعليق ديدبول إلى حد بعيد حين قال وهو يقاتله: “أنت شخصية قاتمة جدًا! لابد أنك من عالم دي سي كومكس”.
يحاول ديدبول أن يناقش الأصناف السينمائية، كفكرة الفيلم العائلي التي يعيد تعريفها، مؤكدًا أنها تبدأ دائمًا بجريمة قتل
أجل، لا حدود لسخرية وايد ويلسن، ولا ضير أن تتجاوز السخرية عالم مارفل، إلى العالم المنافس، دي سي كومكس DC Comics، لم تكن تلك المرة الوحيدة، ففي مشهد آخر، قال معللاً تحول علاقته بخصمه إلى تحالف “كنت أقاتل مُحرمَلاً (caped man) شرسًا قبل أن أكتشف أن اسم أمه مارثا أيضًا!” وهو بذلك يشير ساخرًا إلى مشهد قتال سوبرمان ضد باتمان الذي انتهى بتحالفهما لذات السبب.
والإشارة إلى عوالم قصصية أخرى من أهم أدوات القص الماورائي، فلا شيء أفضل من الإشارة الأدبية، يذكر المشاهدَ أو القارئ بأنه إزاء عالم خيالي، لذلك كان ديدبول يعجُ بهذه الإشارات، ربما بشكل يصعب حصره، ولنا على الإنترنت مقالات كثيرة تحاول ذلك، لكن ما يجب الالتفات إليه هنا، أن ديدبول لا يكتفي بالإشارة فحسب، بل في كثير من الأحيان يقوم بدور النقد السريع والمختزل express.
فالإشارة إلى هذا المشهد من باتمان ضد سوبرمان مثلاً، فيه تضمين بسخافة الفكرة وضعفها، أما الإشارة إلى أغنية فيلم فروزن Frozen ففيها تصريح بتشابهها المريب مع أغنية فيلم ينتل Yentl.
وفي مستوى أبعد، يحاول ديدبول أن يناقش الأصناف السينمائية، كفكرة الفيلم العائلي التي يعيد تعريفها، مؤكدًا أنها تبدأ دائمًا بجريمة قتل (يذكر مثالاً على ذلك، فيلميْ ديزني الأسد الملك وبامبي، ثم مضيفًا في سخرية فيلم المنشار SAW)، على أنه يبرع خصوصًا في الحديث عن عالم صناعة أفلام الأبطال الخارقين، إن ديدبول لا ينتقل في مدينةٍ أمريكية خيالية مثل غوثام سيتي (مدينة باتمان) أو متروبوليس (مدينة سوبرمان)، بل في إستوديو هوليودي مفضوح بفضل عباراته الساخرة.
ينقل لنا النصُ كواليسَ الفيلم بكاميرا الفيلم نفسه، هنا نقطة ضعف في السيناريو لكن لنتجاوزها (“كان عليك استعمال هذه الحيلة في المشهد الأول!”)، وهنا معركة ضخمة لم تكلفنا سوى بعض من العمل على الكمبيوتر لا غير (“اِستعدوا لمعركة سي جي آي CGI ضخمة قادمة!”)، وهنا سنستعمل ممثلاً لا يشبه مطلقًا الشخصية الأصلية كما ظهرت في النسخة الورقية (“إنه قصير عكس النسخة الورقية”!)، أما عن عملية تشكيل فريق X-People فالغرض منها ليس إنقاذ روسل Russel وإنما التحضير لحلقات جديدة وكثيرة تضمن للمنتجين أرباحًا لا محدودة (“أريدهم من اليافعين حتى تستمر السلسلة لعشر سنوات قادمة!”).
مشكلة هذه الأعمال أن جزءها الأول كان مبهرًا لأنه شيء جديد من نوعه، لذلك، فمهما كانت عبقرية الجزء الثاني، فهو سيفقد هذه الميزة منذ البداية
أضف إلى كل ذلك، مشهد البداية باللقطة البطيئة التي تزور مختلف تفاصيل الصورة، فمنذ البدءِ يُفشِل الفيلمُ كلَ محاولةٍ من المشاهِد للتماهي مع عالم القصة، يمارسُ ديدبول نقده وسخريته بشكل خفيف وعبقري ومضحك فلا يترك لنا وقتا طويلاً لهضمه، لذلك لم يكن بسيطًا التفطنُ إلى بعض الهنات فيه.
مشكلة هذه الأعمال أن جزأها الأول كان مبهرًا لأنه شيء جديد من نوعه، لذلك، فمهما كانت عبقرية الجزء الثاني، سيفقد هذه الميزة منذ البداية: نحن نعرف ماذا ينتظرنا تقريبًا، ربما يمدد رينولدز في مساحة الحرية واللامعقول، ربما يتجاوز النص وعيه بذاته إلى نقده لذاته، لكن الفكرة واحدة والصورة صارت متوقعة بالفعل.
الأسوأ أن ديدبول رغم حسه النقدي العالي وكثافة المساحة النقدية في حواره، لم ينجح في أن يقدم مثالاً أفضل مما ينقده، فالبنية السردية (البدءُ بنقطةٍ متقدمة ثم العودة إلى البداية ثم التقدم إلى الأمام) مكررة، والموسيقى ليست مبتكرة، والشخصيات تكاد تكون مألوفة وتطورها خلال القصة يتراوح بين العادي والسيء (روسل، كيبل…). لقد اهتم ديدبول بكل قصص مارفل ودي سي كومكس إلا قصَته هو!
لا يمكنني أن أحصر كل أدوات الكتابة الماورائية في ديدبول، ويمكن أن أضيف على ما ذكرتُ، استعمال شارة البدء والنهاية ليصبحا جزءًا من الفيلم نفسه، وهدم الحائط الرابع أي التوجه مباشرة للمشاهد ومخاطبته، مناقشة منطقية الأحداث التي يلعبُ الراوي دور البطولة فيها، عدم الفصل بين الشخصية والممثل بحيث قد تتعلق الأحداث بماضي الممثِل (اللقطة الهستيرية التي تسخر من أحد أسوأ الأدوار التي قدمها) وربما مستقبله (كمطالبة أكاديمية الفنون بمنحه الأوسكار) وغير ذلك كثير.
لا شك أن الكتابة الماورائية سلاحٌ سحريٌ في هذا العصر، لا تسمح للكاتب بإحداث شيء من المرح والظُرف على النص فحسب، بل تفسح أيضًا مجالاً غير مسبوق من الحرية في الكتابة، لكن هذه الآداة وحدها لا تكفي مثلما لا يكفي الهدمُ لبناءِ شيءٍ جديدٍ مكانه.
وعلى كل حالٍ، فهذه الكتابة وإن أصبحت موضة مستهلكة في السينما الأمريكية، فهي لا تزال مكانًا مجهولاً تمامًا على السينما العربية، بل إن وجودها في الأدب العربيِ نادرٌ جدا، لو استثنينا محاولات بسيطة هنا وهناك، وسلسلةُ فانتازيا الرائدة للفقيد أحمد خالد توفيق، ربما لذلك وجدتُ صعوبة في ترجمة المصطلح الإنجليزي، فالدراسات العربية بهذا الخصوص تكاد تكون منعدمة، وأرجو أن لا يكون الحال كذلك في قادم السنوات.
بالمناسبة، لا تغادروا القاعة عند ظهور شارة النهاية، فما بعدها هستيري!