تعمل روما جاهدة على التصدي للدور الفرنسي المتنامي في ليبيا المستعمرة القديمة لإيطاليا، مستعينة هذه المرة بالولايات المتحدة الأمريكية الراغبة في العودة إلى الساحة الليبية بعد فترة من الغياب بدأت عقب تولي دونالد ترامب مقاليد الحكم في بلاد العم سام، فهل تنهي روما وواشنطن الدور الفرنسي في ليبيا؟
مؤتمر لتحقيق الاستقرار
بعد مؤتمرات باريس التي لم يكتب لها النجاح، تتجه إيطاليا لعقد مؤتمر دولي لبحث سبل تحقيق الاستقرار في ليبيا التي تعد أحد أبرز نقاط المغادرة الرئيسية للمهاجرين غير النظاميين الأفارقة الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا من شمال إفريقيا.
في هذا الشأن قال رئيس وزراء إيطاليا جوزيبى كونتى أول أمس الإثنين، عقب اجتماع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض: “بالاتفاق مع الرئيس ترامب، أعتزم تنظيم مؤتمر بشأن ليبيا، نود التعامل مع كل القضايا المتعلقة بالشعب الليبي ومناقشتها، ويشمل ذلك كل الأطراف المعنية والفرقاء في منطقة البحر المتوسط بأسرها”.
وكان كونتي قد أعلن في 12 من الشهر الماضي عزم بلاده تنظيم مؤتمر دولي عن ليبيا، الخريف المقبل في روما، لمناقشة جملة من الملفات المتعلقة بالهجرة غير الشرعية والإصلاحات الاقتصادية والوضع السياسي.
العودة الأمريكية لليبيا بدأت بتعيين الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني وليامز في منصب نائب سلامة
المسؤول الإيطالي أوضح أن ترامب وافق على أن تصبح إيطاليا مرجعًا في أوروبا والمحاور الرئيسي بخصوص القضايا الأساسية التي ينبغي التصدي لها، فيما يتعلق بليبيا بشكل خاص، مضيفًا: “المؤتمر سيناقش الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وحماية الحقوق المدنية ومشكلة العملية الدستورية”.
وأشار خلال لقاء جمعه بترامب، الإثنين، إلى أن بلاده من خلال المؤتمر المرتقب ستساهم في مساعدة ليبيا في سن وإقرار القوانين، من أجل الوصول إلى انتخابات ديمقراطية في حالة من الاستقرار التام، وفق كلامه.
من جهته أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال نفس المؤتمر الصحافي، تأييده للسياسة الإيطالية في ليبيا، قائلاً: “نعترف بالدور الريادي لإيطاليا من أجل إعادة الأمن والاستقرار في ليبيا وشمال إفريقيا”.
واشنطن تعود بقوة
إعلان كونتي عزم بلاده تنظيم مؤتمر خاص بليبيا من العاصمة الأمريكية واشنطن عقب لقائه الرئيس ترامب، يرى فيه العديد من المحللين إعلان رسمي لرجوع الولايات المتحدة الأمريكية للساحة الليبية للعب دور تخلت عنه منذ فترة.
فمنذ اصطدام مرشح أمريكا لمنصب المبعوث الأممي في ليبيا ريتشارد ويلكوكس بالفيتو الروسي في مارس/آذار من ذات الماضي وتعيين مرشح فرنسا اللبناني غسان سلامة في هذا المنصب خلفًا للألماني مارتن كوبلر، لم يسجل للإدارة الأمريكية أي وجود ملموس في الملف الليبي، فالرئيس الجديد للإدارة الأمريكية دونالد ترامب لم يعين مبعوثًا خاصًا له في ليبيا، خلفًا للمبعوث السابق جوناثان ونر، كما أن سفراءها المتعاقبين في ليبيا لم يصدر عنهم مواقف فاعلة موازية لمستجدات البلاد السياسية.
تسعى واشنطن للعودة بقوة إلى الملف الليبي
يرى خبراء أن العودة الأمريكية لليبيا بدأت بتعيين الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني وليامز في منصب نائب الممثل الخاص للشؤون السياسية في بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، وأكد حضور وليامز على رأس لقاء مجموعة (3 + 3) بروما في الـ11 من شهر يوليو/تموز الماضي، كممثل لسلامة الغائب عن اللقاء، ليعقبها في اليوم التالي جملة من القرارات المفاجئة تمثلت في تراجع حفتر عن قراره بشأن النفط، واستجابة حكومة الوفاق لطلب حفتر بالتحقيق في مصارف وأموال النفط، هذه العودة القوية لواشنطن.
تقويض للجهود الفرنسية
هذه المساعي الإيطالية الحثيثة للتحكم في مسار الأزمة في ليبيا والرغبة في الاستعانة بواشنطن في ذلك، الهدف منه حسب العديد من المحللين – فضلًا عن إحكام السيطرة على هذا البلد العربي الغني بالنفط – تقويض الجهود الفرنسية هناك، وسبق أن اعترضت روما على الجهود الفرنسية الرامية لعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا نهاية العام الحاليّ قبل عقد مصالحة وطنية في البلاد.
ومن المنتظر أن تصطدم الطموحات الفرنسية بالتقارب الإيطالي الأمريكي، فروما تمتلك صلات قوية مع واشنطن لا تمتلكها باريس التي تتسم سياستها بالاستقلالية نسبيًا، لا سيما في معالجتها للملفين الفلسطيني والإيراني، بعيدًا عن أهداف ومساعي واشنطن.
تخشى إيطاليا من استفراد فرنسا بالملف الليبي وإخراجها دون مكاسب من هناك
يعتبر الدعم الأمريكي الذي أبداه ترامب كونتي تحديًا مباشرًا لتحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خاصة أن باريس سعت في السابق إلى الحصول على دعم أمريكي لتحركها في ليبيا، وهو ما نجح فيه كونتي هذه المرة، حيث اعترفت واشنطن بالدور الريادي لروما في المتوسط.
ويقول خبراء إن إيطاليا كانت تراهن على الوقت لإقناع المجتمع الدولي بعدم جدوى الرؤية الفرنسية التي تنص على إجراء انتخابات نهاية السنة الحاليّة، فالوضع الأمني وغياب المؤسسات يقفان عائقًا أمام إجراء انتخابات نهاية هذه السنة، فضلًا عن عدم المصادقة على مشروع الدستور إلى الآن.
وينظر للمبادرة الفرنسية التي أُعلنت في مايو/أيار السابق على أنها غير واقعية، حيث راهنت على وفاق بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج واللواء المتقاعد خليفة حفتر، وهو أمر مستبعد مع مخاطر لنسف التوازن الهش القائم والعودة للغة السلاح كما حصل في أزمة الهلال النفطي مؤخرًا.
صراع مصالح
هذا الصراع بين الطرفين ليست الغاية منه الحفاظ على استقرار ليبيا والمساهمة في تطورها ورقيها كما يدعي الاثنان، وإنما هو صراع مصالح الغاية منه إحكام السيطرة على البلاد ونهب ثرواتها بمباركة المجتمع الدولي والمنظمة الأممية وفقًا لعدد من الخبراء.
وفي الآونة الأخيرة اشتد الصراع الفرنسي – الإيطالي بشأن ليبيا، في محاولة من إيطاليا لسحب البساط من فرنسا وتهميشها، بعد أن عملت باريس في مرات سابقة على الهيمنة على المشهد الليبي في صدام واضح مع روما وواشنطن.
وتخشى إيطاليا من استفراد فرنسا بالملف الليبي واخراجها دون مكاسب من هناك، وهو ما يفسر استنجادها بحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة ترامب عبر مؤتمر دولي ينسف مخرجات مؤتمر باريس الأخير، وفق مراقبين، ففي تعدد المؤتمرات فشل لها.
خبراء يؤكدون فشل مبادرة باريس
تحرص روما على إجراء مصالحة وطنية في ليبيا لإنهاء النزاعات والصراعات التي يطغى عليها الطابع العسكري، قبل الوصول إلى انتخابات، عكس فرنسا التي تسعى إلى إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن حتى دون المصادقة على مشروع الدستور الجديد، وذلك حتى يتمكن حلفاؤها من السيطرة على البلاد والاستفادة من خيراتها.
ويؤكد خبراء أن باريس مأخوذة في ليبيا بمطامع تاريخية في الجنوب الليبي الذي كان ضمن مستعمراتها في شمال إفريقيا، كما أنها تنظر إلى تمدد الجماعات المسلحة على أنه أحد أكبر التهديدات لأمنها الاقتصادي في منطقة الصحراء الكبرى التي تنشط فيها كبريات الشركات الفرنسية بحثًا عن الذهب واليورانيوم والنفط.
فيما تعتبر إيطاليا نفسها أولى بمستعمرتها السابقة، لا سيما أنها استعادت حضورها فيها مجددًا عبر اتفاقية صداقة وقعت في عهد رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلوسكوني والعقيد الليبي الراحل معمر القذافي عام 2008، استحوذت من خلالها على الجزء الأكبر من استثمارات الغاز والبنى التحتية.