أزمة دواء حادة في تونس.. من يتحمل المسؤولية السلطة أم عصابات التهريب؟

تعيش تونس هذه الأيام على وقع أزمة حادة في القطاع الصحي، حيث تعاني الصيدليات العامة والخاصة نقصًا كبيرًا في الأدوية، ما يجبر المرضى على القيام برحلة بحث شاقة من أجل الحصول على دواء، ندرة في الأدوية يرجعها البعض إلى نقص في السيولة لدى الصيدلية المركزية فيما يرى آخرون أن المتسبب فيها عصابات التهريب.
صيحة فزع
مع تواصل هذه الأزمة، أطلقت نقابة الأطباء في تونس ما أسمتها “صيحة فزع”، وطالب المجلس الوطني للعمادة، في بيان، السلطات بالتدخل العاجل واتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة أزمة الأدوية، في ظل هشاشة الوضع الصحي وغياب إجراءات فعالة ومستدامة لإنهاء الأزمة.
وكانت “الجمعية التونسية للجراحة الصدرية والقلب والشرايين” حذرت في بيان لها في 28 من يوليو/تموز 2018 من النقص الفادح في مخزون مادة “السولفات دو بروتامين” بالمستشفيات الخاصة والحكومية التي تستخدم في إجراء عمليات القلب المفتوح، معلنة توقفها عن إجراء عمليات القلب المفتوح لعدم توافر هذا الدواء.
يشهد احتياطي الدواء في تونس تراجعًا كبيرًا بسبب امتناع عدد من الشركات العالمية عن تزويد الصيدلية المركزية الحكومية
أول أمس الإثنين، أكد رئيس جمعية الصيادلة ناظم الشاكري في تصريح إذاعي، أن ما يفوق 200 دواء مفقود حاليًّا في تونس، مشيرًا إلى أن الجمعية نشرت قائمة تضم 196 دواء منها يتم استعماله يوميًا، وحسب بعض الصيادلة فإن الأدوية المفقودة تتعلق بشكل خاص بالأمراض المزمنة كمرض السكري الخاص بالأطفال والضغط الدموي وأدوية مرض الصرع، وكذلك العديد من الفيتامينات مثل فيتامين “E” ومسكنات الآلام، إلى جانب أدوية منع الحمل.
ويتوجس العديد من المرضى في تونس وخاصة البسطاء منهم، خيفة تواصل أزمة نقص الأدوية غير المسبوقة في البلاد، فكثير منهم بات متوجسًا جراء فقدان أصناف من الأدوية الأساسية في الصيدليات العمومية بالمستشفيات التابعة للدولة أو في الصيدليات الخاصة أيضًا، لما يمثّله ذلك من خطر على صحتهم.
نقص في السيولة
الحكومة التونسية من جهتها أقرت بالأزمة بعد نفي سابق، وأرجعت السلطات سبب الأزمة إلى نقص السيولة الحاصل لدى الصيدلية المركزية، وتستورد الصيدلية المركزية حصريًا الدواء من الشركات العالمية، وتكوّن احتياطيًا لا يقل عن 3 أشهر لتوفير احتياجات القطاعين الحكومي والخاص، مقابل استخلاص مستحقاتها عبر صندوق الضمان الصحي، لكن العجز المالي الذي يعانيه الصندوق أدخل قطاع الصحة في دوامة الاستدانة وتردي الخدمات.
يشهد احتياطي الدواء في تونس تراجعًا كبيرًا، بسبب امتناع عدد من الشركات العالمية عن تزويد الصيدلية المركزية الحكومية التي بلغت ديونها أكثر من 400 مليون دينار (166 مليون دولار)، وفي وقت سابق هدد عدد من المزودين الأجانب للدواء بإدراج تونس على قائمة سوداء للدول الممنوعة من التزويد بسبب مستحقاتها المتراكمة.
تعاني الصيدلية المركزية من أزمة سيولة كبيرة
نقص السيولة لدى الصيدلية المركزية يعود إلى ارتفاع الديون غير المستخلصة من الصندوق الوطني للتأمين على المرض لفائدتها، وبلغ حجم ديون الصيدلية المركزية لدى عملائها ما يناهز 800 مليون دينار (305 ملايين دولار) على غرار المستشفيات الحكومية والصناديق الاجتماعية التي تعيش بدورها أزمة مالية حادة حالت دون سدادها لديونها المتراكمة.
ووصل عجز صندوق الضمان الصحي إلى نحو 2.99 مليار دينار (1.24 مليار دولار) بنهاية يناير/كانون الثاني 2017، وفق بيانات رسمية صادرة عن الصندوق في أغسطس/ آب من نفس العام، حيث تبلغ النفقات اليومية لتمويل الصحة نحو 8 ملايين دينار (3.3 ملايين دولار)، ويقدر في تونس عدد المشتركين في أنظمة الضمان الاجتماعي بـ3.5 مليون شخص، فيما يبلغ العدد الإجمالي للمنتفعين بخدمات التغطية الصحية 7 ملايين شخص، وتغطي تونس 48% من احتياجاتها من الدواء عبر الصناعة المحلية، فيما يتم تدبير النسبة الباقية من خلال الاستيراد عبر عروض دورية تقوم بها الصيدلية المركزية.
الحكومة تتدخل
الوضع المالي الصعب الذي تعيشه الصيدلية المركزية التونسية حتم على الحكومة التدخل لوضع حد لها حتى لا تتفاقم، واتخذت الحكومة في هذا الشأن بعض الإجراءات العاجلة لدعم الصيدلية المركزية للالتزام بتعهداتها تجاه مزوديها، ومواصلة دورها في توريد الأدوية وتزويد المستشفيات والصيدليات.
في هذا الإطار تعهد رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد بتوفير 500 مليون دينار (190 مليون دولار) للصيدلية المركزية، في سياق برنامج إنقاذ لهذه المؤسسة، إضافة إلى دعوة مصنعي الأدوية إلى إبرام عقد أهداف مع الحكومة.
وينص هذا العقد على تعهد أهل القطاع بأهداف تتعلق بالتشغيل والإنتاج والتصدير، وتتعهد فيه الحكومة بمساعدة هذا القطاع، حتى يتمكن من تزويد السوق بالكميات اللازمة من الدواء وتوفيره للمواطن بأسعار معقولة.
رصدت فرق وزارة الصحة العديد من عمليات سرقة الأدوية من المستودعات والمستشفيات ومراكز الصحة الأساسية
بدوره أفاد وزير الصحة عماد الحمامي في وقت سابق أن الدولة ستلتزم استثنائيًا بسداد مستحقات الصيدلية المركزية لدى المؤسسات الحكومية بما يضمن سيولة مالية لها بـ50 مليون دينار شهريًا، كما أكد الحمامي أن الحكومة تعمل على إطلاق برنامج لهيكلة قطاع الأدوية صناعة وتوريدًا وتوزيعًا واستهلاكًا، إضافة إلى التسريع في إصلاح منظومة الصناديق الاجتماعية التي تعاني من اختلال موازناتها المالية وعجز مالي متفاقم.
وكان المدير العام للصيدلية المركزية أيمن المكي قد أكد في تصريح له نهاية الأسبوع الماضي أن المختبرات الأجنبية تعمدت في الفترة الماضية عدم بيع بعض أدوية الأمراض الحساسة في تونس، في مسعى منها للضغط على تونس لتمكينهم من كامل مستحقاتهم.
عصابات التهريب
إلى جانب نقص السيولة لدى الصيدلية المركزية، يرجع تونسيون سبب الأزمة إلى عصابات التهريب، خاصة أن العديد من المخابر التي تنتج الأدوية في تونس تدعي نفاد منتجها دون مبرر، الأمر الذي زاد من شكوك التونسيين من احتمال أن يكون هناك تسريب للأدوية بطريقة غير شرعية وبيعها إلى الدول المجاورة.
وتدعم الدولة التونسية ممثلة الصيدلية المركزية أسعار الأدوية في تونس ما يجعل سعر الأدوية هناك أرخص من سعرها في بلدان مجاورة، وهذا ما يغذي فرضية تهريب الأدوية إلى الخارج، وفقًا لعدد من المتابعين للشأن الصحي في تونس.
ويقول تونسيون إن بعض الصيادلة يبيعون الأدوية للجزائريين والليبيين دون وصفات طبية وبكميات كبيرة، حتى يكون هامش الربح أوفر، فالجزائريون والليبيون يقدمون المال الكثير مقابل شراء أدوية مفقودة في بلادهم.
تخاطر بعض الصيدليات في تونس بصحة المريض
في الفترة الأخيرة رصدت فرق وزارة الصحة العديد من عمليات سرقة الأدوية من المستودعات والمستشفيات ومراكز الصحة الأساسية، وتعهد قضاة تحقيق بالنظر في بعض قضايا الفساد التي تمس القطاع الصحي في تونس خاصة المتعلقة بتهريب الأدوية إلى بلدان مجاورة واستعمال أدوية منتهية الصلاحية.
فضلًا عن ذلك يسعى بعض رجال الأعمال المتهمين بالفساد للضغط على وزارة الصحة حتى تتنازل لهم عن مهمة توريد الأدوية، وهو ما سيثقل كاهل المواطن باعتبار أن الصيدلية المركزية تدعم هذه الأدوية الموردة سنويًا بقيمة 142 مليون دينار (54 مليون دولار).
هذه الأزمة جعلت الوزير عماد الحمامي الذي يعتبر من الوجوه الجديدة لحركة النهضة محل انتقاد كبير في تونس، حتى وصل الأمر بالبعض حد المطالبة باستقالته نتيجة عدم نجاحه في حل هذه الأزمة وفشله في تسيير الوزارة.