تسبب فشل الحكومات العربية في التجاوب مع متطلبات ثورات الربيع العربي بحدوث أزمات اقتصادية وسياسية، كان أهمها قضية اللجوء التي لاقت جدلًا واسعًا بين حكومات العالم وشعوبها متأرجحين بين القبول والرفض، خاصةً أن أعداد اللاجئين المرتفعة لم يكن أمرًا يسهل تدبره من الناحية الاقتصادية والاجتماعية في بعض البلدان المضيفة.
صاحبت هذه الأزمة فاجعة متكررة وهي هروب اللاجئين من نيران الحروب إلى أوروبا عبر السفن التي سميت بعد ذلك بـ”قوارب الموت”، حيث أفادت دراسة أجرتها المنظمة الدولية للهجرة أن أكثر من 22 ألف و500 مهاجر ماتوا أو اختفوا، وأكثر من نصفهم ماتوا في أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط، وذلك منذ عام 2014، كما صرحت أن 88% من جميع وفيات المهاجرين حدثت في البحر الأبيض المتوسط.
تصدر هذه القائمة اللاجئون السوريون الذين وصل عددهم إلى 5 ملايين مهاجر، بالجانب إلى ملايين آخرين من ليبيا والعراق ومصر وفلسطين، إذ وصفت الصحيفة البريطانية ذي غارديان هذه الواقعة بأنها “أكبر موجة هجرة جماعية في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”.
المثير للاهتمام في هذا المحور، أن خلال الحرب العالمية الثانية أي قبل 70 عامًا شهد العالم هجرة باتجاهٍ مغاير، فلقد فر عشرات الآلاف من اللاجئين الأوروبيين إلى الشرق الأوسط عبر نفس الطرق بحثًا عن الأمن والسلام الذي دمرته الحرب النازية والسوفياتية في بلادهم آنذاك.
أين لجأ الأوربيون؟ ولماذا؟
أحد المخيمات المصرية التي احتوت اليونانيين واليوغسلافيين
على خلاف المألوف واستنادًا إلى الذاكرة التاريخية، أقامت منظمة الإغاثة واللاجئين بالشرق الأوسط عام 1942 مخيمات في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر لاستضافة اللاجئين الأوروبيين من إيطاليا واليونان وبلغاريا وبولندا ودول البلقان، وهذا بعد أن شوهت نيران الحروب وعمليات الإجلاء القسري استقرارهم ومصيرهم.
أكدت بعض الوثائق الموجودة في أرشيف جامعة مينيسوتا أن هذه المخيمات استقبلت أكثر من 40 ألف لاجئ عاشوا متفرقين في الدول العربية داخل مخيم حلب في سوريا والنصيرات في فلسطين والشط وعيون موسى في مصر، كما كان أغلبهم من النساء والأطفال.
هذه المخيمات استقبلت أكثر من 40 ألف لاجئ عاشوا متفرقين في الدول العربية داخل مخيم حلب في سوريا والنصيرات في فلسطين والشط وعيون موسى في مصر
ففي حوار خاص للإذاعة البريطانية “بي بي سي” مع إيليني كارافيلتسي إحدى المهاجرات اليونانيات التي فرت من بلادها هاربة من الإيطاليين والألمان عبر البحر رفقة أسرتها عام 1941 إلى معسكر النصيرات في غزة وحتى انتهاء الحرب، تقول كارافيلتسي: “أخبرني والداي بأنني كنت موثوقة في حبل وأنزلت إلى قارب صغير، ولكن، بينما ينزلاني رأى والدي أن القارب ممتلئ، وأمرني بالعودة، وبمجرد أن صعدت، قفزت امرأة في القارب الصغير، فغمرت المياه القارب وغرق جميع الأطفال”.
مجموعة من أطفال اليونان في مخيم النصيرات – غزة
عادت هذه الذكريات المؤلمة إلى أذهان المهاجرين اليونانيين السابقين بعد أن شهدت بلادهم موجة هجرة كبيرة على شواطئهم منذ أزمة اللاجئين عام 2015 وقوبلت معظمها بالموت والاحتجاز والترحيل.
كيف عاش اللاجئ الأوروبي في المخيمات العربية؟
أم وابنتها داخل المخيم
يذكر تقرير على موقع “بوبلك راديو انترناشيونال” أن عملية استقبال اللاجئين الأوروبيين لم تكن عشوائية، فعند وصولهم كان ينبغي عليهم أن يسجلوا في أحد المخيمات والحصول على بطاقة تعريف تحتوي اسم اللاجئ ورقمه التعريفي وحالته الاجتماعية ومستواه التعليمي ومهنته، ومعلومات أخرى عن تاريخ الوصول ورقم جواز السفر من أجل إجراء الفحوصات الطبية اللازمة وتوزيع القادمين بترتيب معين على الخيام.
مجموعة من المهاجرين يرقصون داخل الخيم
تمتع المهاجرون بحياة مريحة في هذه المخيمات، إذ تبين بعض الصور أنه كان يسمح للاجئين بالتجول في المدن ومشاهدة الأفلام في قاعات السينما المحلية والسباحة في البحر الأحمر وكأنهم جزءًا من البلد المضيف، كما سُمح لهم ببناء ملاعب للأطفال ومسارح وتقديم عروض راقصة، وحظوا بصحيفة خاصة بهم، إضافة إلى اهتمام المسؤولين بأدق التفاصيل، فعلى سبيل المثال كانت تقدم وجبات الطعام اليومية بما يتناسب مع عادات وتقاليد كل فئة وجنسية.
مهاجرات يعددن الطعام
وبطبيعة الحال، اختلفت ظروف المعيشة داخل هذه المخيمات من بلد إلى آخر، فعلى سبيل المثال شجعت إدارة المخيم في حلب اللاجئين على صنع طعامهم بأنفسهم والقيام بأعمال التنظيف والنجارة، والأمر نفسه طبق في مخيم النصيرات في غزة، وذلك من باب استغلال أوقات فراغهم ومهاراتهم.
مهاجرون يقومون بأعمال النجارة
وعلى النقيض من ذلك، مخيم عيون موسى والشط في مصر الذي أُجبر اللاجئون فيه على العمل في مجالات مختلفة مثل الخياطة والنجارة والبناء والسباكة والنحت، والنساء تحديدًا شاركن في أعمال الحياكة والغسيل والتنظيف، أما الأشخاص الذين يملكون مؤهلات رفيعة فلقد عملوا كمديرين في المدارس ومؤسسات أخرى.
لم يمتلك جميع اللاجئين مهارات مفيدة، ولذلك وفرت المخيمات فرص تدريب نظرية وعملية متعددة، مثالًا على ذلك مخيم عيون موسى الذي حصل فيه اللاجئون اليوغسلافيون واليونانيون على برامج عملية عن التمريض والتشريح والتوليد والإسعاف الأولي بهدف التخلص من نقص العمالة الذي يعاني منه مستشفى المخيم.
مشكلات واجهها الأوربيون داخل المخيمات
كتب مجموعة من أطفال المخيم عبارة “مدرستنا” على الرمال لنقص الأقلام
رغم جميع التسهيلات والخدمات التي حرصت إدارة المخيمات على تقديمها، بدايةً من الفعاليات التدريبية والتعليمية ونهايةً بالأنشطة الترفيهية، كان هناك ثغرات ومشكلات أثقلت مسؤولية الإدارة، على سبيل المثال افتقر سكان المخيم إلى الخصوصية والحرية الشخصية واحتار المسؤولون بشأن توزيعهم للمهاجرين وما إذا كان يتوجب عليهم إعادة ترتيبهم بحسب حالتهم الاجتماعية أو أصولهم العرقية.
ألعاب الأطفال
إضافة إلى نقص الطاقم التعليمي؛ ما تسبب في اكتظاظ الفصول الدراسية في المخيم، جدير بالذكر أنه لم تكن جميع المخيمات تعاني من هذه المشكلة، ففي النصيرات رسم لاجئ مجموعة من اللوحات المبهجة وعلقها على جدران الحضانة وتبرع أشخاص آخرون بمجموعة من الألعاب والدمى، ما جعل أحد مسؤولي المخيم يذهل من إمكانات ومميزات هذه الروضة مقارنة مع الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية.
رغم تنوع المصادر التاريخية عن هذه الواقعة المنسية، تبقى محدودة ومهملة، ولكن هذا لا يقلل من أهميتها وقوة دلالتها ورمزيتها الإنسانية والتاريخية ضد سياسة الدول الأوروبية التي تقابل المهاجربن بالصد والتضييق الشديد
ومن جانب آخر، مدح عامل مساعدات بريطاني يدعى جون كورسيليس الخدمات والظروف التي قدمتها الدول العربية للاجئين، حيث قال “لقد خلقوا جنة صغيرة في الصحراء، وإمكاناتهم المحدودة في كل شيء تجعل هذه الحقيقة أكثر إثارة للإعجاب”، دليل على أن حياة الصحراء القاسية ما كانت لتكون أقل رتابة وصعوبة دون التسهيلات المتواضعة التي قدمتها الدول العربية.
ورغم تنوع المصادر التاريخية عن هذه الواقعة المنسية، فإنها تبقى محدودة ومهملة، ولكن هذا لا يقلل من أهميتها وقوة دلالتها ورمزيتها الإنسانية والتاريخية ضد سياسة الدول الأوروبية التي تقابل المهاجربن بالصد والتضييق الشديد.