منذ إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي عثوره على جثث 6 أسرى من المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية في نفق موجود في رفح جنوبي قطاع غزة، لم تتوقف ارتدادات الحدث الذي فجّر موجة غير مسبوقة من الضغط في أوساط الجمهور الإسرائيلي والمستوى السياسي، شملت هجومًا واسعًا على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، المتهم بالمماطلة حتى يلقى كل الأسرى المصير ذاته.
أما جثث الأسرى، من بينهم ضابط في الجيش الإسرائيلي وأسير أمريكي الجنسية، أكدت مصادر عبرية أن ثلاثة منهم كانوا جزءًا من قائمة الأسرى المنوي إطلاق سراحهم في أول دفعة من صفقة التبادل التي عطّلها نتنياهو، فيما كشفت وزارة الصحة الإسرائيلية أن وفاة المختطفين الستة كانت قبل 48 إلى 72 ساعة من فحصهم برصاص أُطلق من مسافة قصيرة.
منذ انتشال الجثث، قطعت التطورات المتلاحقة على نتنياهو صفو الأسابيع الأكثر أريحية منذ انطلاق حرب الإبادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، بعد أن مثّل أغسطس/ آب نقطة تحول حيث نجح فيه بعكس كل معادلة الضغوط، وقطع شوطًا في إطار التمترس وقطع الطريق أمام كل محاولات وقف إطلاق النار بقطاع غزة، وكلّله أخيرًا بقرار المجلس الوزاري المصغّر بإبقاء السيطرة الإسرائيلية على محور فيلادلفيا.
الضغط العسكري بديلًا عن المفاوضات
تمسّك نتنياهو لشهور عديدة بشعار “الضغط العسكري” هو الطريق الأنسب لتحقيق أهداف الحرب وتحرير الأسرى الإسرائيليين، معتبرًا أن سير العمليات العسكرية على الأرض والضربات الكثيفة كفيلة بأن تدفع المقاومة إما إلى الانهيار وإما إلى الاستجابة لمحدداته، لعقد أية صفقة أسرى تكون فارغة المضمون والجوهر، ولا تنهي الحرب أو تحقق أي مكسب استراتيجي تستفيد منه المقاومة والشعب الفلسطيني.
لم يحقق الضغط العسكري أيًا ممّا وعد به نتنياهو، وعلى مدار أشهر الحرب الأولى استخدمت “إسرائيل” شتى أنواع القوة الغاشمة، باحثة عن أثر لهجمات يفترض أن تحقق الصدمة والإرباك في صفوف المقاومة وقيادتها، وهو الكفيل بدفعها إلى ارتكاب الأخطاء، أو البحث عن خيارات الخلاص الجزئي تحت وطأة الضربات.
بقي نتنياهو متمسكًا بقاعدة أن “الضغط العسكري” سيجد أثره، منتقلًا من المراهنة على العمليات العسكرية بداية من اقتحام مستشفى الشفاء، ثم اجتياح الشجاعية وجباليا، مرورًا بالتحشيد الضخم حول اجتياح خان يونس الذي تلا الهدنة الإنسانية الأولى في بداية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وليس انتهاءً بالبروباغاندا الكبيرة لاجتياح رفح وصولًا إلى التمسك بالبقاء في محور فيلادلفيا الحدودي، دون نتيجة فعلية تذكر لنجاعة هذه السياسة سوى زيادة الضغط على أهالي القطاع وتعظيم مأساتهم الإنسانية.
إن المرونة التي أبدتها المقاومة في المفاوضات، هي مرونة استندت بالدرجة الأساسية إلى إعادة ترتيب أولوياتها في مراحل التفاوض، نظراً لأن ما يتم التفاوض عليه هو اتفاق يتألف من مراحل متعددة، وعمل نتنياهو على تفسيرها وتقديمها لجمهوره ونخبته السياسية على أنها الجدوى المنتظرة للضغط العسكري، عادًّا أن ما يحصل دليل على نجاعة استراتيجية، وأن القادم دفع المقاومة للموافقة على صفقة يحرر وفقها أسراه ويحرم المقاومة من ورقتها الاستراتيجية، ويعود إلى استئناف الحرب من حيث كانت.
في الخلفية، يعي نتنياهو أن شروط المقاومة الرئيسية التي تشكّل مدخلًا للاتفاق والمتمثلة بالتمسك بالانسحاب الكامل من قطاع غزة، وعودة أهالي شمال قطاع غزة غير المشروطة إلى أماكن سكنهم، والالتزام الإسرائيلي بالوقف الكامل لإطلاق النار، ستعني فعليًا نهاية الحرب، وستجعل من خيار العودة إلى القتال بعد إنهاء المرحلة الأولى من الصفقة خيارًا صعبًا جدًا سيعيد العمليات العسكرية إلى المربع الأول.
وهذا يتناقض جوهريًا مع حاجته السياسية لإطالة أمد الحرب، وهدفه الاستراتيجي بإعادة فرض السيطرة الأمنية والعسكرية على قطاع غزة، وهو ما دفعه إلى إفشال كل جولات المحادثات السابقة، انتهاءً بوضع السيطرة على محور فيلادلفيا كحائط صدّ أمام أي أفق تفاوضي ممكن.
عبّر نتنياهو عمّا سبق بوضوح عبر قوله: “من الصعب أن نعود إلى القتال إذا توقفنا عنه لفترة طويلة”، وهو ما أعاد تأكيده مرة أخرى في مؤتمره الصحفي الأخير، بالقول إن “إسرائيل” إن انسحبت من فيلادلفيا لـ 42 يومًا، لن تنجح في العودة إليه حتى بعد 42 عامًا.
مقتل الأسرى: سيناريوهات متعددة
إن سيناريوهات وملابسات متعددة قد تكون أدت إلى مقتل الأسرى الستة الذين عثر جيش الاحتلال على جثثهم، وبتسلسل الأحداث يمكن الدفع بإجراء ربط افتراضي ما بين عدة حوادث، قد تكون المقاومة قد اختبرت بها سلوك جيش الاحتلال من جهة، وشكل استجابة الجمهور وأهالي الأسرى في “إسرائيل” لها، وصولًا إلى اللحظة الذهبية.
في حالتين سابقتين وبفارق زمني محدود نسبيًا، أعلن جيش الاحتلال تمكّنه من انتشال جثث لأسراه من منطقتين في خان يونس، في يومي 25 يوليو/ تموز و20 أغسطس/ آب المنصرمين، وللمفارقة لم تجرِ عمليات قتالية كبرى في محيط الأنفاق التي عثرَ فيها الجيش على الجثث، ولم تحوَّل الأنفاق الموجودة فيها الجثث إلى كمائن على غرار ما حصل في مناطق أخرى، وبشكل خاص جباليا.
تلا هذه الحالات الحدث الغريب وغير المفهوم الذي شمل إطلاق سراح الأسير البدوي كايد فرحان القاضي، الذي وصل إلى جنود جيش الاحتلال بنفسه، مع أخبار متعددة حول السيناريو الذي حدث ما بين “نجاحه في الهرب” أو “انسحاب الآسرين” أو “عثور الجيش عليه بالصدفة”، دون خبر يقين حول ما حدث.
دون سابق إنذار أيضًا، وبعد أيام، ومن قبيل “المصادفة” ضمن أنشطة التمشيط الاعتيادي لجيش الاحتلال في رفح، يعثر الاحتلال على جثث الأسرى الستة وقد قُتلوا قبل ساعات من العثور عليهم، ومن بينهم الأسير الأمريكي الذي سبق أن أعلنت كتائب القسام فقدان الاتصال مع المجموعة الآسرة له.
بجمع سريع لبانوراما الأحداث السابقة، يكون الدفع بأن ثمة سيناريوهين أساسيين: الأول أن كل هذه الأحداث منسّقة اختبرت خلالها المقاومة تأثير العودة المستمرة لأسرى في جثامين، وفحصت سلوك الجيش في التعامل مع معلومات ذهبية حول أماكن الجثث، واستخدمت الأسير البدوي كأداة لإرشاد الجيش عن مكان تواجد الجثث الجديدة، ما يجعل المشهد كله جزءًا من استراتيجية تصعيدية قررت المقاومة اتخاذها أمام تعنُّت نتنياهو وتمسكه بالبقاء في فيلادلفيا، ومحاولة وضع المقاومة أمام ممرات إجبارية تقتضي بالقبول بشكل من أشكال إعادة احتلال غزة، بالموافقة على بقاء الجيش الإسرائيلي في محور فيلادلفيا والسيطرة الأمنية بشكل مباشر أو غير مباشر على محور نيتساريم.
والسيناريو الثاني أن الحدث جاء نتيجة ضرورات عملياتية مرتبطة بتشخيص الآسرين لوجود خطر محدق اقترب من مكان الأسر، وأن الضرورات الميدانية لا تسمح بنقل الأسرى إلى مكان آخر، ما جعل الخيار إعدام الأسرى والإجهاز على أية احتمالية لنجاح جيش الاحتلال في تحريرهم، ما يعكس أن المقاومة قد اتخذت خيارات حاسمة تقتضي استخدام كل الأدوات، بما فيها تصفية الأسرى لمنع الاحتلال من تحقيق أي نجاحات يبحث عنها نتنياهو.
لم تنفِ تصريحات الناطق باسم كتائب القسام أبو عبيدة حول الحدث أيًا من السيناريوهين، وإن كان التفسير الضمني للتصريحات يميل إلى السيناريو الأول، فإن مجرى الأحداث يعزز الثاني، خصوصًا أن حدث اكتشاف جثث الأسرى لم يتخلله أي اشتباك أو استهداف لمجموعة من المقاومين في محيط مكان الحدث، فيما لم يتطرق أبو عبيدة أو أي مصدر آخر من المقاومة لملابسات حدث إطلاق سراح الأسير فرحان.
أيًا كان السيناريو الأدق، فهو في المحصلة تعبير واضح حول اتخاذ المقاومة تدابير صارمة في مواجهة تمسك نتنياهو بالبحث عن فعالية مفترضة لاستراتيجية “الضغط العسكري”، معولًا على طول مدة الاقتتال وإجهاد واستنزاف المقاتلين ومنظومات القيادة والسيطرة، ما يمكن أن يوقع الآسرين في أخطاء تسمح بعمليات تحرير ناجحة، وهو ما استلزم إجراءات مضادة.
مواجهة الاستعصاء التفاوضي وتعنُّت نتنياهو
حملت الأسابيع الأخيرة تغيرات متعددة، أخرجت نتنياهو من دائرة الضغط إلى دائرة الارتياح التفاوضي، بعد النجاح في توجيه مجموعة من الضربات، أبرزها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والقائد العسكري في “حزب الله” فؤاد شكر، وتوجيه الضربة الاستباقية لـ”حزب الله” لإجهاض الردّ المتوقع.
وفي الوقت الذي تلاشى تدريجيًا احتمال نشوب تصعيد إقليمي في المنظور القريب، وعودة الحشود الأمريكية في الشرق الأوسط إلى ذروتها، أدرك نتنياهو أن مجازفته الأخيرة قد نجحت في تحصيل نقاط تقدُّم وعكس معادلة الضغط على المقاومة وموقفها التفاوضي، ما دفعه إلى إظهار تعنت مضاعف تحوّلَ إلى رفض مطلق لكل صيغ الانسحاب من محور فيلادلفيا، وإضافة اشتراطات جديدة مرتبطة بمحور نيتساريم وعودة أهالي شمال قطاع غزة إلى أماكن سكنهم، إضافة إلى التنصُّل الصريح من استحقاق الوقف الكامل لإطلاق النار.
إن التردد الأمريكي من الخوض في مسارات ضغط فعلية على نتنياهو، بل اللجوء إلى طرح صيغ تنسجم جزئيًا مع حاجة ورغبة نتنياهو في إبقاء سيطرته على محور فيلادلفيا وعبره على قطاع غزة، إضافة إلى غياب قدرة الوسطاء على التأثير الجدّي على الموقف الإسرائيلي وتوجيه كل الضغط على المقاومة للقبول بالصيغ الجزئية الجديدة للوصول لاتفاق، يلبّي الحاجة الأمريكية الملحّة للهدوء قبل الانتخابات، دون أن يلبّي متطلبات الحد الأدنى للمقاومة.
كلها أسباب وفّرت في مجموعها مساحة كافية ليزيد نتنياهو من تعنته، ويرفع من سقف الاشتراطات، ويواجه حتى المعارضة الداخلية في “إسرائيل” بقرار محسوم في الكابينت الأمني والسياسي، بإبقاء السيطرة على الشريط الحدودي بين قطاع غزة ومصر.
أمام هذا المشهد وتعقده، احتاجت المقاومة إلى استراتيجية مواجهة تعيد التوازن إلى المشهد، وتعيد نتنياهو إلى دائرة الضغط، وتعيد النقاش بفعالية حول جدوى استراتيجية الأخير في تحقيق الأهداف التي رفعها، وفي الجوهر أيضًا جدوى الضغط العسكري في تحقيق نتائج، وهو ما كان أولًا في إعلان عودة العمليات الاستشهادية ردًّا على استئناف الاحتلال لسياسة الاغتيالات، واستمرار المجازر في قطاع غزة، وهو قرار يحمل في جوهره نقل الضغط إلى الجبهة الداخلية للاحتلال وفتح كل الساحات.
أما ثانيًا، فالمعادلة التي أعلنها الناطق باسم كتائب القسام، وسبقها بتقديم نموذج واضح حول هذه المعادلة، الضغط العسكري لن يعيد الأسرى إلا في توابيت، لكن بشكل مغاير هذه المرة، فلن يكون مقتل الأسرى فقط بفعل القصف والضربات الإسرائيلية، بل برفع مستوى الحساسية لدى الآسرين.
فالحفاظ على حياة الأسرى لم يعد بأي ثمن كان، خصوصًا إن كان الثمن المخاطرة بأن ينجح الاحتلال في تحريرهم بالقوة، وبالتالي القرار يعني ضمنيًا تغييرًا في قواعد إطلاق النار لدى الآسرين، وتخفيف أصبعهم على الزناد، ما يعني بشكل أو بآخر أن مرحلة الوقت المفتوح لحياة الأسرى انتهت، وأن كل يوم من استمرار العمليات العسكرية وتوسعها في مناطق القطاع سيعني فعليًا المخاطرة باكتشاف المزيد من هذه الجثث، إذا اقتضى التقدير الميداني للآسرين وجود خطر مباشر في المحيط.
نجحت استراتيجية المقاومة في إعادة ترتيب المشهد من جديد، وفتحت حادثة استعادة الأسرى الستة في توابيت وجثثًا موجة واسعة من الغضب في الجمهور الإسرائيلي وفي المستوى السياسي، دفعت العديد منهم إلى التصريح بقوة حول ضرورة المسارعة لعقد صفقة تنقذ حياة من تبقى من الأسرى.
إضافة إلى زيادة الضغط على الهستدروت والنقابات العمالية والمهنية في دولة الاحتلال، لاتخاذ خطوات داعمة للوصول إلى صفقة تبادل للأسرى، ترافقت مع الموقف العلني لوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي طالب فيه بسحب قرار الكابينت المتمسك بالبقاء في فيلادلفيا، لكونه يقف عائقًا أمام النجاح في الوصول إلى صفقة أسرى، ما عزز من الخطوة الكبيرة التي تمثلت بخطوة الإضراب الكبيرة التي دعا إليها الهستدروت في 2 سبتمبر/ أيلول.
خيار نتنياهو: “هنيبعل جماعي” للأسرى
لم يكن متوقعًا من نتنياهو أن يذعن أمام حدث استعادة جثث الأسرى، وقد كانت شهور الحرب كفيلة بأن تظهر بوضوح أن نتنياهو لن يتوانَ عن التضحية بكل الأسرى في سبيل تحقيق أهدافه وخدمة مشروعه السياسي، غير آبه لما يمكن أن يشكّله هذا الأمر من ضرب للعديد من المفاهيم التي سادت دولة الاحتلال لعقود، وفي المقدمة منها الحديث عن قيمة الفرد اليهودي، وهو المبرر السابق لدفع ثمن كبير مقابل كل أسير خلال صفقات التبادل.
ما خرج به نتنياهو في مؤتمره الصحفي لم يكن سوى خطاب تأكيد ما سبق، وهو أنه في الجوهر قد قرر منذ إعلان الحرب على الشعب الفلسطيني أن ينفّذ الإجراء العسكري المعروف بإجراء “هنيبعل”، الذي يُتّخذ بهدف إفشال عمليات الأسر، ويقوم على فكرة أن يهاجم الجيش الإسرائيلي أسراه وآسريهم لضمان عدم نجاح العملية حتى لو على حساب قتل الأسرى الإسرائيليين.
فعليًا، نفّذ نتنياهو أطول إجراء “هنيبعل” في تاريخ “إسرائيل”، وهو إجراء عمل على تنفيذه على مدار 11 شهرًا من القتال في قطاع غزة، الذي لم يتوانَ فيه جيش الاحتلال عن ضرب أهداف بقوة نارية غاشمة، رغم وجود تقدير بوجود أسرى فيهم.
الآن، وبعد أن اتضحت المعادلة الجديدة للمقاومة بأن استمرار الضغط العسكري سيؤدي إلى مقتل المزيد من الأسرى، بشكل أو بآخر، بنيران الاحتلال أم بنيران الآسرين، قرر نتنياهو المضي في المزيد من هذا الضغط العسكري، وهو ما يعني المضي في المزيد من عمليات القتل للأسرى للتخلص من عبء قضيتهم، ومن الضغط الذي تشكله على عاتقه لدفعه للخوض في مسارات للوصول إلى صفقة لإطلاق سراحهم.
إذًا ما الفارق الآن؟ الفارق أن الجمهور الإسرائيلي بات يعلم تمامًا أن الأمر غير قابل للجدل واحتمالات الخطأ والصواب، وأن المضي في المزيد من العمليات العسكرية، يعني المضي في الدرب اللازم لجلب المزيد من جثث الأسرى في قطاع غزة بدلًا من استعادتهم أحياء.
يضع هذا الأمر أهالي الأسرى أمام سباق مع الزمن من أجل اتخاذ كل الخيارات للضغط على الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو على وجه التحديد، للذهاب إلى صفقة تبادل للأسرى، والأمر سواء أمام مستوى الضغوط الموجّهة من الجيش الإسرائيلي والأذرع الأمنية في “إسرائيل” الداعمة للوصول إلى صفقة، والحالة ذاتها على جهود الوسطاء.
وكإجمال للوضع، نجحت المقاومة في إحداث اختراق هام في جدار الجمود التفاوضي، وإعادة نتنياهو إلى موضع يكون فيه تحت الضغط مع رسالة صريحة وواضحة، أن استمرار الضغط العسكري سيقابله استمرار اكتشاف جثث لأسرى كان يفترض أن تشملهم الصفقة، وأن الحسابات الصفرية للمقاومة يمكن أن تحدث العديد من التغيرات الراديكالية في معادلات متعددة، وأهمها فكرة استمرار الحفاظ المكلف على أرواح أسرى سبق وأن حسم نتنياهو خياره بالتضحية بهم.
وبينما قدّم نتنياهو خطابًا امتد على مدار 60 دقيقة حمل تهديدًا ووعيدًا ودرسًا في التاريخ والجغرافيا، ليؤكد فيه مضيه في سياساته التي اتّبعها منذ بداية الحرب، فإن هذا الخطاب قد عكس أيضًا حجم الضغط الذي سبّبته الهجمة المرتدة للمقاومة، والارتدادات التي سبّبتها داخل “إسرائيل”، بما فيها الغضب الكبير من نتنياهو من المواقف العلنية لوزير حربه غالانت، الذي يطمح إلى الإطاحة به وتغييره في أسرع وقت ممكن لولا المحاذير التي قد يحملها مثل هذا الإجراء، وفي المقدمة تصعيد الحراك المعارض في الشارع الإسرائيلي، وإضافة بُعد جديد على توتير العلاقة مع الولايات المتحدة.
يرى العديد من الأطراف في خطاب نتنياهو أنه خطاب “حرق المراكب” والحسم المطلق للخيارات، وفي مقدمتها التضحية بأي أفق فعلي للوصول إلى صفقة، إلا أنه خطاب يعكس في جوهره أن نتنياهو يخشى بقوة من أن يتأثر جمهوره اليميني بحجم الحراك الداخلي والصدمة في “إسرائيل” من مآلات الأسرى ومصيرهم بهذا الشكل، وبالتالي سعى باستماتة إلى تقديم الخطاب اللازم لتصليب هذا الجمهور الذي استعاد حديثًا صدارته في أوساطهم.
في كل الأحوال، أعاد الوضع الحالي النقاش بفعالية في مقترحات الصفقات، وأعاد تحرك الولايات المتحدة لتقديم مقترح جديد تحت عنوان “الفرصة الأخيرة” تعرف مسبقًا أنه لن ينجح في الوصول لاتفاق، لأن نتنياهو قرر مسبقًا إغلاق هذا الباب.
إلا أنه لم ينجح في إغلاقه في الوضع الذي كان يبحث عنه وكان يعتقد أنه وصل إليه، وهو وضع اللاضغط الذي أجهزت عليه المقاومة، وأعادت الزخم للحراك الضاغط داخل “إسرائيل” بمستويات غير مسبوقة، مع استمرار إرسال الرسائل التي تدخل ضمن إطار الحرب النفسية، والتي كان لها الأثر الكبير في إجهاض مفاعيل وتأثيرات خطاب نتنياهو، بعد أن باغته القسام برسالة مسجّلة من إحدى الأسيرات الإسرائيليات المنتشلة جثثهم، تحمّل نتنياهو مسؤولية المماطلة في عقد صفقة وتدعو إلى تصعيد التحركات الشعبية للضغط عليه.