ككل سنة في هذا الموعد بالذات، يتجدد الجدل في المملكة المغربية بخصوص طقوس البيعة والولاء للعاهل المغربي التي دأب المغاربة على تأديتها للملك منذ عقود عدة، جدلًا كبيرًا بين المغاربة، بين من يصفها بالأعمال الرجعية والمتنافية مع الدولة الحديثة، ومن يرى أنها من صميم الحداثة.
طقوس تجديد البيعة
أول أمس الثلاثاء، ترأس الملك محمد السادس بصفة أمير المؤمنين التي تطلق عليه في المغرب، مرفوقًا بولي العهد الأمير الحسن والأمير رشيد، حفل تجديد البيعة له برحاب المشور السعيد أمام القصر الملكي بمدينة تطوان شمال المغرب، بمناسبة الذكرى الـ19 لاعتلائه عرش المملكة، وهي ذكرى توافق 30 من يوليو من كل عام.
وفي مستهل هذا الحفل قدم وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت وولاة وعمال الولايات والعمالات وأقاليم المملكة وولاة وعمال الإدارة المركزية لوزارة الداخلية، الولاء لأمير المؤمنين محمد السادس، وبعد ذلك تقدمت وفود وممثلو مختلف جهات وعمالات وأقاليم المملكة في صفوف متراصة، لتجديد البيعة والولاء.
يعود تاريخ هذا الطقس إلى عام 1934، ويقال إن “الوطنيين” المغاربة من سنوه لتحدي السلطات الفرنسية
خلافًا للعادة، لم يمتط العاهل المغربي الفرس، وظهر واقفًا في سيارة مكشوفة وهو يحيي الوفود التي تقدم له الولاء في هذه المناسبة التي تعد من أهم التقاليد الملكية في المغرب، إذ من خلالها يتم الجمع بين الجانب السياسي والجانب الديني، فيتم تجديد البيعة للملك والتأكيد على الولاء له وللأسرة العلوية التي تحكم المغرب، والتمسك به قائدًا للبلاد وممثلها الأسمى.
وخلال الحفل يرتدي مجددو الولاء والبيعة اللون الأبيض، ويقفون في الساحة منتظرين الملك وفي المقدمة عبيد القصر بطرابيشهم الحمراء، وعندما يخرج إلى مقابلتهم، ينحنون أمامه 5 مرات بشكل يشبه الركوع، ويرددون عبارات تُشيد به من قبيل “الله يبارك في عمر سيدي”، وقُربهم خَدم للملك يرددون عبارات الثناء بصوت عالٍ.
اختتم الحفل بإطلاق المدفعية 5 طلقات، بينما كان الملك محمد السادس يرد على تحية وهتافات ممثلي مختلف جهات وأقاليم المملكة، بحضور رئيس الحكومة سعد الدين العثماني ورئيسي غرفتي البرلمان ومستشاري الملك وأعضاء الحكومة والمندوبين السامين ورؤساء المجالس الدستورية وكبار ضباط القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية والمدير العام للأمن الوطني والمدير العام لإدارة مراقبة التراب الوطني والمدير العام للدراسات والمستندات، وعدد من الشخصيات المدنية والعسكرية.
ويعود تاريخ هذا الطقس إلى عام 1934، ويقال إن “الوطنيين” المغاربة من سنوه لتحدي السلطات الفرنسية التي احتلت المغرب منذ عام 1912، ويمثل عقد البيعة رُكنًا أساسيًا بالنسبة للنظام السياسي في المغرب، ويتعلق الأمر هنا بالكيفية التي أمكن بها للمؤسسة أن تستمر عبر عدة قرون وأن تلائم نفسها مع شكل النظام الحديث للحكم.
إهانة للمواطنين
يرى العديد من المغاربة أن هذه الطقوس تمثل إهانة وانتهاكًا لكرامة المواطنين، فالبيعة لم تعد فقط مجرد “طقس” لتجديد شرعية سلطة الملك، وإنما تحولت مع الطقوس المرافقة لها، إلى مناسبة لإهانة كرامة الشعب، وفق قولهم.
ويرى معارضو هذه الطقوس أن إجبار من يفترض أنهم يمثلون الشعب على الركوع تحت حوافر الفرس الذي يمتطيه الملك أو على جنب السيارة التي يجلس فوقها لإعلان سموه ورفعته عن بقية أفراد الشعب، يعتبر إهانة كبرى لهم خاصة أن كل الدول تخلت عن هذه الطقوس.
تقتضي السياسة المخزنية إعلان النخب السياسية التي تمتلك السلطة الحقيقية ولائها للملك
نفس هؤلاء المعارضين يرون أن البيعة في المملكة المغربية في العصر الحاضر، بشكلها الحاليّ ورمزيتها والإيحاءات المرجعية التي تحيل عليها طقوسها، لم تعد فقط أداة لتزكية وتجديد شرعية السلطة الحاكمة، وإنما مناسبة سنوية لإذلال الشعب وتحقيره.
هذا الرأي عبر عنه عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح، التابع إلى حزب العدالة والتنمية الذي يقود حكومة المغرب عصام الرجواني، حيث قال في تدوينة على حسابه الخاص بموقع “فيسبوك”: “طقوس قبيحة وشنيعة في مغرب القرن الـ21.. الركوع لغير الله منكر في الدين وسلوك حاط بالكرامة وقيمة المواطنة.. ذِلة ما بعدها ذِلة”.
القيادي في جماعة العدل والإحسان الإسلامية منير الجوري عبر بدوره عن امتعاضه من طقوس البيعة وحفل الولاء الذي يُقام كل سنة في احتفالات عيد العرش، وكتب في تدوينة على حسابه الخاص بموقع “فيسبوك”: “في الحقيقة أحس بأن أشياء كثيرة تنقصنا.. أولها الكرامة الآدمية”، مرفقًا تعليقه هذا بصورة لحفل الولاء.
بدوره نشر البرلماني عن فيدرالية اليسار الاشتراكي عمر بلافريج مقطع فيديو ينتقد فيه مراسم البيعة والولاء التي اعتاد المغاربة تقديمها للملك كل عيد عرش.
ويسعى الملك من خلال هذه المراسم وفق المعارضين لها إلى تكريس الولاء الشخصي له من خلال إظهار كل فروض الطاعة والولاء وفق الطقوس المخزنية المتوارثة التي تقوم على الانحناء والركوع بشكل جماعي ومنضبط.
وتقتضي السياسة المخزنية إعلان النخب السياسية التي تمتلك السلطة الحقيقية في إدارة وتسيير شؤون أقاليم المملكة، سواء على الصعيد المركزي أم على الصعيد المحلي من ولاة وعمال وقواد وأعيان، ولاءها للملك، وتقديم فروض الطاعة والولاء التي يتم تضخيمها، بعدما كانت في السابق تتم وراء أبواب القصر السلطاني.
ربط الحاضر بالماضي.. البنية الأنثروبولوجية للمغاربة
في مقابل ذلك، يرى الباحث في العلوم السياسية المغربي رشيد لزرق أن التصريحات المنتقدة لهذه الطقوس تنم عن عدم معرفة أصحابها للبنية الأنثروبولوجية للمغاربة، فالعمق التاريخي له أهمية بالغة في الأنظمة العريقة كالنظام المغربي، لكونها تربط الحاضر بالماضي الذي يمثل المخيال الجمعي للمغاربة.
وقال لزرق في حديثه لنون بوست “عراقة الدولة المغربية تتمثل في معرفة الإرث الأنثروبولوجي وقدرتها على ربط الحاضر بالماضي، وهذا ما جعل الملكية تصمد وتكون لها بيعة متجددة مند أكثر من 12 قرنًا، من خلال مشروعيتها المتعددة التاريخية والنضالية والديمقراطية، ومن خلال دسترة الخيار الديمقراطي، فالدول تبنى بالتراكم”.
ويضيف الدكتور المغربي “بعض السياسيين يريدون قطع الجذور، بفعل جهلهم بسياق وتاريخ نشوء الدولة والطقوس، وهو الأمر الذي لا نسمعه مثلًا في بريطانيا العظمى التي تعبر عن المخيال المجتمعي الإنجليزي، وكل من يندد بهذه الطقوس لا تخرج تصريحاته عن منطق المزايدة لا أكثر، فهؤلاء المزايدون لا يعرفون عن وطنهم سوى ما قرأوه في المقررات الفرنسية أو في الكتب الصفراء المستوردة من الشرق”، وفق قوله.
يعود السبب وراء هذا التشبث الإنجليزي بهذه المراسيم كونها تمثل العمق التاريخي للمملكة
“الوطن والتاريخ والأمة والملكية”، وفق رشيد لزرق “لهما مدلولات أنثروبولوجية تعبر عن عمق الدولة المغربية ولا يمكن فهمها من خلال التمركز الذاتي سواء كان غربي على طريقة الحداثة الفرنسية أم مشرقي على طريقة التمركز الوهابي”.
وتعقيبًا على تصريحات بعض السياسيين المنتقدين لهذه الطقوس يقول رشيد: “السياسي الرزين يفهم بلاده عن طريق استحضار مثل العمق التاريخي، ولا يمكن ممارسة السياسة بمنطق خالف تعرف، فمن أسباب بقاء العائلة المالكة في المخيال الشعبي الإنجليزي، رغم تغيير النظام البريطاني نحو الملكية البرلمانية، هو تمسكها بالقواعد والعادات والآداب الملكية التي تربط الحاضر بالماضي، وتذكر الجميع دائمًا بالماضي العريق للمملكة وتاريخها، فرغم تغيير شكل الحكم، فإن العادات والطقوس ما زالت على حالها”.
ويضيف “مثلًا النائب عن فيدرالية اليسار الاشتراكي عمر بلافريج دخل البرلمان يوم افتتاح الدورة البرلمانية مرتديًا بدلة (سلهام) عبد الرحيم بوعبيد كهدية من عائلته والطربوش الشخصي لبن سعيد ايت يدر كهدية شخصية منه بهدف استحضار رموز عائلية ونضالية”.
ويؤكد الباحث المغربي “قواعد التعاملات والآداب غير المكتوبة داخل محيط الأسرة الملكية التي تُعد غير مألوفة أو غريبة بالنسبة لثقافات أخرى في العالم اليوم، لا تزال سارية ومن الواجب على الإنجليز اتباعها بصرامة، رغم نفي موقع المملكة الرسمي وجوب أي قواعد فيما عدا اتباع أبسط التصرفات التي تنم عن الاحترام والذوق مثل اللقب الذي تنادَى به الملكة (جلالتكِ) أو أفراد العائلة (سموك الملكي) أو طرق التحية والانحناء”.
ويعود السبب وراء هذا التشبث الإنجليزي بهذه المراسيم كونها تمثل العمق التاريخي للمملكة وتعطي إحساسًا للإنجليز بعظمتهم وتمكنهم من ربط الحاضر بالماضي، وفق ما قاله رشيد لزرق في تصريحه لنون بوست.