“القروض قد تترك البلد المستهدفة في بعض الأحيان فقيرة كما كانت من قبل، لكن مع مديونية أكبر وصفوة حاكمة أكثر ثراءً”، كانت تلك العبارة التي خلص إليها عالم الاقتصاد ميشيل تشوسودوفيسكي بشان تجارب الدول مع القروض، لكن رغم كل تجارب إفقار الدول بالديون، تصر دول نامية على خوض غمار نفس التجربة التي لن تطرح نتائج جديدة في النهاية، سوى مزيد من الإفقار لعموم الشعب، ووحل اقتصادي للأجيال القادمة.
السقوط في شراك الديون.. انفراجة يعقبها أزمة
على مدار العقد الماضي، حرصت الصين على إغراء دول تعاني من أزمات اقتصادية أو تتصف بكثافة سكانية عالية، وفي سبيل ذلك، عملت على إبرام اتفاقيات تجارية عبر بحر الصين الجنوبي وآسيا الوسطى، سعيًا لبسط نفوذها في إفريقيا والشرق الأوسط وصولاً إلى أوروبا.
لكن بوسيلة أخرى استطاعت بكين أن تنفذ إلى قلب الدول الأكثر احتياجًا، عن طريق إثقال كاهلها بالديون، متفوقةً في ذلك على المؤسسات الدولية المانحة للقروض، وفي هذا السياق أشار مركز “AIDDATA” العالمي للبيانات الاقتصادية إلى أن القروض المالية التي قدمتها الصين للدول الأخرى بين عامي 2014 و2017 فاقت بكثير القروض الأمريكية في نفس الفترة.
الصين مستمرة في إقراضها الدول النامية ومنها جيبوتي
كشف تقرير لصندوق البنك الدولي بأن الصين تمنح قروضًا مالية للدول الأخرى خصوصًا النامية تفوق كثيرًا ما تقدمه أمريكا في هذا المجال، إذ وصل مجموع القروض التي قدمتها الصين لدول أخرى بين عامي 2014 و2017 إلى أكثر من 394.6 مليار دولار في حين وصل مجموع القروض الأمريكية خلال نفس المدة إلى 354.3 مليار دولار.
مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية علقت بأن الصين مستمرة في إقراضها الدول النامية، الأمر الذي دفع محللين إلى التحذير من مصائر الدول الصغيرة التي تقترض أكثر ما تستطيع تسديده، والفرص الإستراتيجية التي تنفتح أمام الصين نتيجة لذلك.
ويرجع تفوق الصين إلى حصولها على فوائد مالية من تسديد هذه القروض تتراوح بين 10 و15% خلال خمس سنوات، بينما تصل الفوائد التي تفرضها أمريكا على قروضها إلى الدول الأخرى أكثر من 25%، وهذا الأمر بحد ذاته شجع الدول المختلفة للتوجه نحو الاقتراض من الصين بدلاً من أمريكا في السنوات الأربعة الأخيرة.
واجهت الصين انتقادات كثيرة تتعلق بما تحدثه القروض التي تقدمها للدول الفقيرة على حقوق الإنسان في إفريقيا
وتأكيدًا على طموحات بكين لزيادة نفوذها العالمي، قالت صحيفة فاينانشال تايمز إن الصين تفوقت على البنك الدولي في حجم القروض إلى الدول النامية، إذ قدمت قروضًا بلغت 110 مليارات دولار على الأقل إلى حكومات وشركات في دول نامية عامي 2009 و2010 في حين بلغ حجم قروض البنك الدولي نحو 100 مليار دولار.
القروض الصينية تُعرض بشروط أفضل من شروط البنك الدولي، مما دفع البنك إلى البحث عن سبل للعمل مع بكين لتفادي المنافسة في مثل هذه القروض، وتجدر الإشارة إلى أن الصين لديها احتياطات من النقد الأجنبي تتجاوز تريليوني دولار، وزادت منذ 2009 دعمها للشركات المملوكة للدولة لتجوب العالم بحثًا عن أصول وإمدادات من المواد الخام.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي قالت الصين إنها بصدد زيادة قروضها لإفريقيا، وبشروط تفضيلية، وستشجع البنوك التجارية على تقديم مزيد من القروض إلى إفريقيا في ضوء تزايد حاجة القارة للأموال، واستبعدت في المقابل تفاقم مشاكل ديون القارة جراء ذلك.
نتيجة لذلك، واجهت الصين انتقادات كثيرة تتعلق بما تحدثه القروض التي تقدمها للدول الفقيرة على حقوق الإنسان في إفريقيا، وهو ما دفع المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ليو جيان شاو الصين بالرد على مثل هذه الاتهامات، في إشارة إلى تصريحات وولفويتز التي نشرتها صحيفة “لو إيكو” الاقتصادية الفرنسية.
أن تقترض أكثر مما تستطيع تسديده
الأمثلة التي يمكن سردها بشأن الوقوع في شراك الديون كثيرة، وكان آخرها دولة جيبوتي التي اقترضت من الصين أكثر مما تستطيع تسديده، وربما تضطر لتسليم أصول إلى بكين مثلما فعلت سريلانكا العام الماضي، فقد اضطرت سريلانكا إلى تسليم غالبية سلطتها على مرفأ هامبانتوتا إلى الصين بعد أن تعذر عليها تسديد ديونها، وهو أمر يقلق واشنطن التي تحتفظ بقاعدة عسكرية رئيسية لها هناك.
ويذكر أن الصين قدمت قروضًا لدول عربية من بينها 1.3 مليار دولار لجيبوتي وحدها، بحسب تقديرات مبادرة الأبحاث الصينية الإفريقية ومقرها الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تبلغ ديون جيبوتي 88% من جملة ناتجها المحلي البالغ 1.72 مليار دولار.
أغلب هذه الديون للصين، لذلك ربما تواجه هي الأخرى احتمال تسليم بعض من أصولها لتسديد ديونها، ومنها “ميناء دوراليه” متعدد الأغراض الذي اكتمل بناؤه العام الماضي، وهو من بين المشاريع الصينية العملاقة التي تحمست لها جيبوتي وتعاقدت عليها مع بكين.
مقارنة بالشروط التي يفرضها البنك الدولي، ودومًا ما تكون قاسية، وفي مقدمتها إلغاء الدعم الكلي عن السلع وتحرير قيمة الخدمات وتعويم قيمة العملة المحلية وتحديد قيمتها الحقيقة مقابل الدولار، وغيرها من الشروط المتعلقة بهيكلية الاقتصاد المصري.
تبقى مصر المقترض الأكبر بين الدول العربية
أما مصر، فتمثل نموذجًا آخر للدول التي فتحت أبوابها على مصراعيها للاقتراض، خاصة من الصين، ففي يناير 2016، اقترضت 1.8 مليار دولار من الصين، تلا ذلك قرض بقيمة مليار دولار بعد 8 شهور فقط، حتى المؤسسات الحكومية لم تسلم من الاقتراض، إذ حصلت شركة المصرية للاتصالات على 200 مليون دولار من مؤسسات صينية في يونيو 2018.
وغير ذلك الكثير من الأمثلة للدول التي دمرتها قروض، لكن رغم تراجع الاقتراض في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بنسبة 30% العام الماضي، لكن تظل مصر على رأس الدول العربية الأكثر اقتراضًا خلال العام الحاليّ، بحسب تقرير وكالة “إس آند بي غلوبال” للتصنيفات الائتمانية.
وكشف التقرير أن مصر تبقى المقترض الأكبر بين الدول العربية، مرجحًا أن تصل حاجاتها إلى 46.4 مليار دولار أو 26% من إجمالي الاقتراض الطويل الأجل في المنطقة، يأتي بعدها العراق الذي يتوقع أن يحتاج إلى 35 مليار دولار، ويمثل 19% من إجمالي الاقتراض، ثم المملكة العربية السعودية التي من المتوقع أن تحتاج إلى اقتراض 31 مليار دولار، وتمثل 17% من إجمالي القروض.
بعيدًا عن القارة الإفريقية، فإن دولاً أخرى وقعت في فخ الاقتراض، ففي اليونان استمرت نسبة الدين للناتج المحلى الإجمالي في الارتفاع حتى تفاقمت بشكل واضح
ومن المقرر أن يصل الدين الخارجي لمصر إلى 53.4 مليار دولار، بعد حصول البلاد على قرض صندوق النقد الدولي، أي ما يعادل 471.522 مليار جنيه بسعر الصرف الرسمي، وبحسب بيانات البنك المركزي المصري، فإن إجمالي الدين العام المحلي لمصر ارتفع إلى 2496.5 مليار جنيه (نحو 2.5 تريليون جنيه) في نهاية مارس الماضي، بارتفاع نسبته 11.2% عن نهاية يونيو من العام 2015.
وبعيدًا عن القارة الإفريقية، فإن دولاً أخرى وقعت في فخ الاقتراض، ففي اليونان، على سبيل المثال، استمرت نسبة الدين للناتج المحلى الإجمالي في الارتفاع حتى تفاقمت بشكل واضح، فتدخل صندوق النقد الدولي والدول الأوروبية المانحة بعلاج الاقتراض مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت بشروطهم وخططهم الاقتصادية شديدة التقشف، وهو ما لم تتحمله اليونان كثيرًا، مع نسبة ديون للناتج تفوق 175% عام 2015.
وفي أمريكا اللاتينية، دفعت البرازيل خلال أربع سنوات فقط 90 مليار دولار فوائد فقط للديون، وبسبب صندوق النقد هاجر 4 ملايين من الريف إلى المدينة، حتى إن البنك الدولي تدخل في وضع الدستور البرازيلي وأشعل الصدامات في صفوف الشعب البرازيلي، وعلى الرغم من محاولة تعافي الاقتصاد البرازيلي من هذه الأزمة بعد ذلك فإن آثارها لا تزال باقية حتى الآن.
ومنذ تسعينيات القرن الماضي، تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن 20% من السكان في البرازيل يسيطرون على 80% من ثروة البلاد، ووفقًا لإحصاءات الحكومة 1% من السكان يمتلكون نصف الدخل القومي، كذلك ما لا يقل عن نصف القوة العاملة في البلاد في هذا البلد المكون من 167 مليون شخص يكسب كحد الأدنى للأجور أقل من 77 دولارًا شهريًا.
إنهم ينفقون أموالهم بأفضل طريقة.. “الحزام والطريق” نموذجًا
نالت مبادرة “الحزام والطريق” نصيبها من التشويه أيضًا
في الفترة الأخيرة شاعت تعبيرات مختلفة بين وسائل إعلام غربية وسياسيين غربيين بشأن “نظرية التهديد الصيني” بما فيها “التغلغل الصيني”، ونالت مبادرة “الحزام والطريق” نصيبها من التشويه أيضًا، حيث تم وصف التعاون “الصيني – الإفريقي” بـ”الاستعمار الجديد”.
وأصبحت “مبادرة الحزام والطريق” الهادفة إلى إحياء وتوسيع طريق الحرير الصيني القديم للتجارة أهم ركن في السياسة الخارجية الصينية منذ 2013، فبموجبها يتمدد النفوذ الصيني بشكل ناعم وبثبات، في حين تتمسك الصين بمفاهيم المنفعة المتبادلة والفوز المشترك خلال مسيرة تطوير التعاون التجاري والاقتصادي مع الدول الأخرى.
ووفقًا لتقرير أصدره مركز التنمية العالمية الأمريكي في نيويورك، فإن الدول المشاركة في المبادرة – وعددها 68 دولة – تقع في إغراء مشاريع البنية التحتية الكبيرة التي تكون لها نتائج مالية مزعزعة، وهناك حاليًّا 8 دول من جملة الدول المعنية تواجه مستويات غير مستدامة من الدين، بينها باكستان والمالديف.
أثارت القروض الصينية الضخمة قلقًا في الداخل والخارج إزاء الموقف الضعيف لدول فقيرة أمام ديون بهذا الحجم
لكن هذه المبادرة الصينية لم تخل أيضًا من القروض، ففي إطار مساعي تعزيز تأثيرها في الشرق الأوسط وإفريقيا، أعلنت الصين الشهر الماضي عزمها تقديم قروض للتنمية الاقتصادية بقيمة 20 مليار دولار إلى دول عربية، وفق ما أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ، في إطار منتدى التعاون الصيني العربي في دورته الثامنة.
وأثارت هذه القروض الضخمة قلقًا في الداخل والخارج إزاء الموقف الضعيف لدول فقيرة أمام ديون بهذا الحجم، كذلك أثارت المبادرة التي تشمل تمويل مرافئ وطرق وسكك للحديد في مختلف أنحاء العالم اهتمامًا وقلقًا لدى العديد من الدول، إذ يرى البعض فيها مثالاً على مطامع التوسع الصيني.
وتتهم واشنطن بكين بأن سياستها تؤدي إلى أزمة الديون في إفريقيا، وهو اتهام ليس صحيحًا على الإطلاق، لأن الصين تشجع الاستثمار وتدعم الهيئات المالية لتقديم الدعم والتمويل للدول الإفريقية في مجالات بناء المنشآت التحتية والمناطق الاقتصادية والكثير من المشاريع الإنتاجية.
وتمضي مجلة فورين بوليسي – وفق تقريرها السابق ذكره – في ذكر نتائج المبادرة الصينية، إذ يبدو أن بعض حكام الدول – ومنهم الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة – راغبين في بيع بلادهم لمن يدفع أكثر، الأمر الذي يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة.