على مدى الأيام الماضية، توالت تصريحات متكررة من قبل مسؤولين أتراك وروس، تتناول مساعي تطبيع العلاقات بين تركيا ونظام الأسد، حيث رحّبت وزارة الخارجية التركية بـ”الجهود الروسية” الساعية لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، مؤكدة على استعدادها للعمل على ذلك، وفق قرارات مجلس الأمن الدولي ودون شروط مسبقة.
وقالت الوزارة في بيان لها، إنها “تعرب عن تأييدها لمبادرات روسيا التي تهدف إلى تعزيز التعاون بين تركيا وسوريا”، كما تأمل “أن تشهد سوريا استقرارًا واندماجًا وطنيًا حقيقيًا، من خلال اتخاذ الخطوات التي تتماشى مع مطالب الشعب السوري وتوقعاته المشروعة”.
وأضاف البيان: أن “خطوات التطبيع تعكس أيضًا قرارات مجلس الأمن الدولي التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة، ويجب أن تكون قائمة على مبدأ حسن النية ومن دون شروط مسبقة، وفق منهج واقعي لتهيئة الظروف المناسبة”.
تصريح جديد قد يضاعف الصعوبات التي يواجهها القائلون بعدم جدّية أنقرة في توجّهها للتطبيع مع دمشق، خاصة بعد التصريحات السابقة التي صدرت عن مسؤولين أتراك، عطفًا على ما أدلى به رأس النظام السوري بهذا الخصوص، وما يجري من ترتيبات تشير بشكل حاسم إلى أن طبخة التطبيع بين الجانبين قد نضجت، ولم يبقَ إلا أن توضع على الطاولة الرسمية.
في المقابل، يرى آخرون أن بيان الخارجية التركية يؤكد صعوبة الوصول إلى تطبيع مع النظام، الذي يرفض تطبيق القرارات الدولية الخاصة بسوريا، ناهيك عن عدم الاعتراف بالمعارضة أو تلبية مطالب الشعب السوري، ما يضع قطار التطبيع أمام عراقيل كبيرة ومطبّات لا يمكن تجاوزها.
“تصريحات إيجابية للغاية”، هذا ما وصف به وزير الدفاع التركي يشار غولر، الموقف الأخير لبشار الأسد حول العلاقات مع تركيا في خطابه أمام مجلس الشعب، في 25 يوليو/ تموز الماضي.
الأسد قال إن “أي عملية تفاوض مع تركيا بحاجة إلى مرجعية تستند إليها كي تنجح”، معتبرًا أن “عدم الوصول إلى نتائج في اللقاءات السابقة، سببه غياب المرجعية”، أما هذه المرجعية التي يريدها فهي “إعلان تركيا موافقتها على الانسحاب من الأراضي السورية التي تحتلها، ووقف دعمها للإرهاب” على حد وصفه.
لم تحمل كلمة الأسد أي جديد، سوى قبوله بتعهّد أنقرة بسحب قواتها “كنتيجة وهدف نهائي من المفاوضات”، بينما كان يصرّ سابقًا على الانسحاب التركي كشرط للمفاوضات.
أسباب تعنُّت النظام
لكن من أين يأتي النظام بكل هذه الثقة وقوة الموقف حين يضع شروطًا ومحددات من هذا المستوى في كل مرة يتم التطرق فيها إلى ملف التطبيع مع تركيا؟
سؤال بات تقليديًا، ورغم تقديم إجابات واسعة حوله سابقًا، لكن يمكن إجمالها بثلاثة نقاط، أولًا: تحول ملف اللاجئين السوريين في تركيا إلى مسألة أمن قومي بالنسبة إلى أنقرة، بعد الضغوط الشعبية والسياسية المتزايدة، والتوترات التي حصلت خلال الأشهر والسنوات الماضية على هذا الصعيد.
لذلك تريد الحكومة التركية بشدة إعادة أو عودة أكبر عدد ممكن من هؤلاء اللاجئين إلى بلادهم بأسرع وقت، وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون التعاون مع النظام، الذي يدرك من جانبه مدى حاجة أنقرة إلى هذا الأمر ويستغله لتحسين موقفه التفاوضي، ناهيك عن عدم رغبته بعودة اللاجئين.
ثانيًا: خشية تركيا من حدوث فراغ أمني وعسكري يمكن أن يخلفه أي انسحاب أمريكي قد يحدث من سوريا، أو أي إعادة انتشار للميليشيات الإيرانية في حال وقعت الحرب بين طهران وتل أبيب، رغم تراجُع مؤشرات المواجهة.
ثالثًا: تزايد الشعور بالقلق لدى تركيا من تكريس سلطة تسمّى “الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا”، التي يهيمن عليها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، فرع حزب العمال الكردستاني (PKK) المصنّف على لوائح الإرهاب، وتحولها إلى إقليم كردي على حدودها الجنوبية.
هذه النقاط الثلاث وغيرها أوضحها وزير خارجية تركيا، حقان فيدان، خلال لقائه الأخير مع قادة مؤسسات المعارضة السورية الثلاث، في 8 يوليو/ تموز 2024، حسب ما كشفت مصادر خاصة لـ”نون بوست”.
وبينما اعتبر البعض أن هذا اللقاء كان بمثابة ردّ تركي على لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالأسد قبل ذلك بأسبوعين، حيث جرت العادة أن تلجأ أنقرة إلى مثل هذا الفعل بعد كل زيارة يقوم بها رئيس النظام السوري إلى موسكو أو طهران؛ رأى آخرون أن الهدف من اجتماع مسؤول الديبلوماسية التركية مع قادة المعارضة السورية، كان بهدف وضعهم بصورة التطورات وتوجهات بلاده بخصوص ملف التطبيع مع دمشق.
هل نضجت الظروف؟
لكن ومهما كانت الغاية من هذا اللقاء، فإن الواضح هو انتقال هذا الملف من دائرة التمهيد وتبادل وجهات النظر وعرض المطالب والشروط، إلى دائرة الجاهزية للبدء بالمفاوضات الرسمية، مع استمرار الغموض حول سقف التنازلات التي يمكن أن يقدمها كل طرف من أجل الوصول إلى استئناف العلاقات الديبلوماسية.
المؤشر الأبرز على هذا الصعيد كانت التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي أكد أن تركيا مستعدة بالنهاية للانسحاب من سوريا، وأن لقاء قريبًا يمكن أن يجمع الطرفين بحضور ممثلين عن بلاده وعن إيران.
لافروف أكد أن “أنقرة مستعدة لمناقشة انسحاب قواتها من سوريا، رغم أنه ليس من الممكن بعد الاتفاق على المعايير المحددة لهذه العملية”.
وأضاف في تصريحات لقناة “روسيا اليوم”: “الأتراك مستعدون لذلك، لكنهم يريدون أن نتحدث عن عودة اللاجئين، وعن التدابير اللازمة لقمع التهديد الإرهابي، الأمر الذي سيجعل بقاء الوحدات التركية غير ضروري، لكن يمكنني القول إن كل هذا قيد الإعداد حاليًا”.
الوزير الروسي أشار أن “ممثلين عن سوريا وتركيا وروسيا وإيران شاركوا في اجتماعات سابقة جرت العامين الماضيين، والآن يجري التحضير لاجتماع آخر سيحدث في المستقبل المنظور”.
عودة إيران
عودة الحديث عن مشاركة إيران في هذه العملية لا تبدو تحصيل حاصل، إذ حاولت كل من أنقرة وروسيا إنجاز صفقة تطبيع سريعة، مستغلين، كما بدا وقتها، انشغال طهران بالتهديدات الإسرائيلية-الغربية التي بلغت ذروتها خلال الأسابيع الماضية، ووضعت المنطقة على شفا مواجهة واسعة، لكن نظام الأسد نجح كما يظهر في تمرير الوقت إلى حين هدوء التوتر، بشكل سمح للإيرانيين بالعودة إلى هذا الملف وفرض أنفسهم لاعبًا مؤثرًا فيه.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حثّ إيران قبل عدة أسابيع، على عدم عرقلة عملية التطبيع مع دمشق، داعيًا الأسد إلى لقاء فوري بأي مكان، لكن ذلك لم يحدث، رغم أن وزير دفاعه، يشار غولر، اعتبر أن ما أدلى به رئيس النظام السوري أخيرًا بمثابة مؤشر على أن “الأسد فهم وأدرك ما قد صرّح به أردوغان حول إمكانية اللقاء”.
العودة الإيرانية إلى هذا الملف لم تقتصر على التصريحات، بل انتقلت إلى المستوى العملي، حيث كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن لقاء عسكري-أمني عُقد في مدينة سراقب الخاضعة لسيطرة النظام بريف إدلب الشرقي، قبل عدة أيام، وضمَّ ممثلين عن تركيا وروسيا وإيران والنظام.
لم تنفِ أي من الأطراف هذا اللقاء ولم تؤكده، لكن حدوثه لا يعتبر الأول من نوعه، بل تنبع أهميته من أنه يحدث للمرة الأولى، إثر القبول بمشاركة طهران مجددًا بملف التطبيع بين أنقرة ودمشق، بعد أن كانت تركيا وروسيا ترغبان بتجاوزها على ما يبدو.
أهداف طهران
في تعليقه على هذه النقطة، يؤكد الكاتب والمحلل السياسي التركي طه عودة أوغلو، أن طهران رغم أنها لا تعارض التطبيع بين أنقرة ودمشق، لكنها تعرقل العملية التي لا تريد أن تكون على حسابها.
ويقول في تصريح لـ”نون بوست”: “إيران في العلن تقول إنها تدعم هذا المسار، لكن عمليًا تقوم بعرقلته لأنها شعرت بتهميشها فيه، كما أنها لا تقبل أن يحدث الأمر على حسابها، بل تصرّ على تحقيق مكتسبات منه أيضًا”.
ويضيف أوغلو أن “أهم ما تريده إيران بهذا الخصوص، ألا يكون هناك أي تدخل تركي في مسألة وجودها بسوريا، وهو ما يمكن أن نضعه في إطار التنافس بينها وبين تركيا في هذه المنطقة”.
وعليه، يرى المحلل التركي أن الأرضية باتت مهيَّأة بشكل أكبر لانطلاق المفاوضات بشأن التطبيع بين الجانبين، وتعزز ذلك التصريحات التي اعتبرتها أنقرة إيجابية من قبل بشار الأسد، والتي تلقفتها روسيا كذلك من خلال التعليقات عليها من جانب وزير خارجيتها سيرغي لافروف، الذي نوّه إلى الترتيب لعقد لقاء رباعي في المستقبل القريب.
التطبيع بعيد
أمر يختلف معه في تقديره الكاتب والسياسي السوري المعارض عمر كوش، الذي يستبعد أن تكون الظروف قد باتت مهيَّأة لتحقيق نتائج عملية من هذا المسار.
ويقول كوش في حديث مع “نون بوست”: “من الصعب القول إن الأرضية باتت جاهزة لبدء التطبيع بين النظام وتركيا، لأن هناك نقاطًا عديدة هامة لم يتم الاتفاق عليها بين الجانبين، وبعضها يرقى إلى مثابة شروط”.
ويوضح: “رغم حاجة تركيا إلى الجغرافيا السورية كممرّ تجاري مع دول الخليج العربي، إلا أن هواجسها الأمنية تتقدم على ذلك، وعلى رأس هذه الهواجس عدم الاتفاق حول مصير قسد، باعتبارها إحدى مخرجات حزب العمال الكردستاني الإرهابي، إضافة إلى ملف اللاجئين وعودتهم”.
في المقابل، ما زال نظام الأسد يضع شرطَين للمضي في هذا المسار، الأول وقف تركيا دعمها للمعارضة العسكرية والسياسية، والثاني سحب قواتها من سوريا، رغم سعي روسيا الدؤوب لتفكيك هذه العقد.
ويضيف كوش: “ما يجب التوقف عنده أن المبادرة الروسية تفتقد إلى الرؤية الواضحة لكيفية تذليل هذه العقبات، وكل ما تقوله موسكو تعالوا واجلسوا على طاولة الحوار، وليضع كل طرف ما يريده على هذه الطاولة، بمعنى أنه حتى لو نجحت هذه الوساطة بجمع الطرفين على أعلى المستوى، فإن الإطار المشترك والواضح لحل المسائل العالقة ما زال غائبًا، وأن وجهات النظر حول كيفية حلها لا تزال متباعدة بين أنقرة ودمشق”.
وعليه، يخلص كوش إلى أن التطبيع ما زال بعيدًا وصعب المنال، إذ إنه لا يمكن لتركيا أن تلبّي مطالب الأسد بالانسحاب من الشمال بالسرعة والطريقة التي يتحدث عنها، وغالبًا هي تريد أن تضع وجودها العسكري على الأراضي السورية في إطار قانوني وفق اتفاقية أضنة 1998، وفي المقابل يصرّ بشار على تحقيق مكاسب وخاصة على المستوى الاقتصادي، وهو ما ليس بإمكان الأتراك تقديمه في المقابل.
الدور العربي
الإشارة إلى العامل الاقتصادي تبدو هامة هنا، في ضوء الحديث عن مطالبة عربية بالاشتراك في ملف التطبيع بين أنقرة ودمشق، خاصة مع حديث مصادر تركية عن أن هذا الملف سيكون جزءًا من مباحثات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التي سيعقدها في أنقرة خلال زيارته لها، كما أنه كان محل اهتمام الرئيس التركي وولي العهد السعودي في مكالمتهما الهاتفية التي أجرياها يوم الأحد الماضي.
بل إن العديد من المراقبين كانوا قد وضعوا مسارعة تركيا إلى طلب التطبيع مع نظام الأسد قبل عامين في إطار التنافس، وكذلك أيضًا التقارب التركي-العربي، حيث يريد كلا الجانبين ألا يتم الاستفراد بسوريا، على الأقل من الناحية الجيواستراتيجية.
لكن المحلل السياسي طه عودة أوغلو، يؤكد أن تركيا هي من طلبت انخراطًا عربيًا أوسع في ملف التطبيع مع دمشق، “كي لا تبقى وحيدة في مواجهة حليفَي النظام روسيا وإيران في هذه المفاوضات”.
ويقول لـ”نون بوست” حول ذلك: “لا شك أن الدول العربية بشكل عام، والسعودية ومصر بشكل خاص، تريد لململة البيت العربي، وأن تكون تركيا جزءًا من هذا الترتيب، ولذلك سيكون ملف التطبيع التركي-السوري جزءًا من مباحثات الرئيس المصري في أنقرة بالفعل”.
ويضيف: “أعتقد أن تركيا تريد إشراك الدول العربية المهتمة بهذا المسار، الأمر سيمنحها قوة إضافية بعد أن ظلت منفردة تواجه كلًّا من روسيا وإيران الداعمتَين للنظام، خاصة بعد التحسُّن الكبير في العلاقة بين تركيا والدول الخليجية ومصر، هذه العلاقة المرشحة للتطور إيجابيًا بشكل كبير”.
من الهام جدًّا التوقف عند هذه النقطة، نقطة الدور العربي المطلوب أو المنتظر في ملف التطبيع بين أنقرة ودمشق، وهي معلومات إن صحّت لا تعزز انتقال المسار إلى طور أكثر جدية وحسب، بل تعني كذلك أنه قد يصبح جزءًا من توافقات إقليمية أشمل وأوسع، الأمر الذي يفرض على المعارضة السورية التعامل معه بشكل مختلف، ووضع سيناريوهات جديدة لتحركاتها حوله.