قررت هيئة البريد الأمريكية قبل بضعة سنوات من الآن الاحتفال بالشاعرة الأمريكية من أصول أفريقية “مايا أنجلو”، فأطلقت طابع بريد تذكاري يحمل صورتها ودعت كثير من الشخصيات المهمة في المجتمع الأمريكي لحضور احتفالية إطلاق الطابع البريدي الخاص بها كان على رأسهم زوجة الرئيس الأمريكي حينها “ميشيل أوباما” وشخصيات إعلامية بارزة من النساء على رأسهم “أوبرا وينفري” لإحياء ذكرى الشاعرة الأمريكية الراحلة التي عُرفت ذات يوم بـ”الأم الروحية لثقافة الفن الشعبي الأمريكي”.
على الرغم من أهمية الحفل بالنسبة للشعب الأمريكي وبالنسبة لكل شخص يُقدس الشعر والثقافة الأدبية بشكل عام، وعلى الرغم من أهمية الشخصيات الحاضرة من الرئاسة الأمريكية ومجموعة من الإعلاميين البارزين إلا أن كان كشف الصحيفة الأمريكية “واشنطن بوست” و صحيفة “تايم” للخطأ الجسيم الذي ارتكبته هيئة البريد الأمريكية أثار جدلًا ضخمًا في ذلك الوقت حول الحفل ومن حضره، حيث اختارت هيئة البريد بيت من الشعر يُطبع على الطابع الذي يُخلد ذكرى الشاعرة “مايا أنجلو” إلا أنهم اختاروا بيت الشعر الخطأ بحسب ما ورد في صحيفة واشنطن بوست آنذاك، حيث اختارت الهيئة بيتًا من الشعر لم تكتبه الشاعرة من الأساس.
وقف الجميع حينها إجلالًا لذكرى الراحلة “مايا أنجلو” وخلفهم شاشة كبيرة تعرض بيتًا من الشعر يقول “لا يغني العصفور لأن لديه إجابة، يغني لأن لديه أغنية”، إلا أن هذا البيت من تأليف وكتابة الشاعرة “جوان وولش أنجلند” التي نشرته ضمن مؤلفاتها الشعرية في الستينات من القرن الماضي، إلا أن هناك من قرر نسبه للشاعرة “مايا أنجلو”، ربما لأن هناك كتابًا من تأليفها له عنوان “أعرف لماذا يغرد العصفور الحزين” والذي قد يتوافق سياقه مع سياق البيت الشعري المذكور وبالتالي تم نسبه للشاعرة الأخيرة و تناولته كثير من مواقع الإنترنت المختلفة مع اقتباسه لـ”مايا أنجلو” في كل الاقتباسات والتصميمات.
انتشر الخطأ على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل فيروسي غير قابل للسيطرة، وتناوله جميع المغردون والناشرون على مختلف المنصات، ربما كان ذلك من سوء حظ الشخص الذي وُكلت إليه مهمة اختيار بيت الشعر الموضوع على طابع البريد، حيث انساق هو الآخر مع انتشار بيت الشعر الخطأ للشاعرة “مايا أنجلو” وقام باختياره ليوضع على طابع البريد الذي رفضت هيئة البريد الأمريكية بعد ذلك سحب وإتلاف ملايين النسخ من البريد لتعديل الخطأ.
فيديو للكاتب بلال فضل يتحدث فيه عن واقعة هيئة البريد الأمريكي وعن تأثير الإنترنت في الثقافة
ربما كان ذلك نادر الحدوث قبل انتشار تداول النصوص والكتابات على مواقع التواصل الاجتماعي وإن كان متوقع الخلط بين الأصحاب الأساسيين للنصوص والمؤلفات، إلا أن ما حدث من واقعة هيئة البريد الإلكتروني المذكورة هنا سابقًا أن الإنترنت كان المصدر الأساسي الذي اعتمدت عليه هيئة البريد الإلكتروني في حدث مهم مثل تلك المناسبة.
لم تكن المشكلة فقط في خطأ هيئة ضخمة مثل هيئة البريد الأمريكي، ولا في حضور شخصيات بارزة مثل زوجة رئيس الولايات المتحدة حينها لحدث أساسه كله خاطئ بل قد يوصفه البعض بـ”سرقة للملكية الفكرية”، بل تكمن المشكلة الحقيقة في المستقبل، بعد حدث كهذا وتصديق وتوثيق لبيت شعر على طابع أمريكي منسوب للشخص الخطأ، وهي الشاعرة “مايا أنجلو”، من الممكن جدًا أن يتم تصحيح كل اقتباس يقتبس البيت نفسه لقائلته الأصلية الكاتبة “إينجلند” إلى الشخص الخطأ “مايا أنجلو”.
يجد “مايكل ويش” أن تصنيف ما يعرف بـ”الأصليين الرقميين” و”المهاجرين الرقميين” محوريًا للغاية في محاولة فهم ظاهرة “انهيار السياق”
هذه الواقعة من أهم الوقائع الحديثة التي تُثبت وجهًا جديدًا لتأثير مواقع التواصل الاجتماعي لا ينتبه إليه كثير من مستخدمينها، هذا الوجه قد يحول الثقافة التي عرفناها والأدب المحفوظ لسنوات طويلة والاقتباسات التاريخية إلى مجرد نصوص يعبث بها كل من يعرفها ومن لا يعرفها وينسبها للشخص الملائم للسياق الذي يرغب فيه، من الممكن الآن أن ينسب أي مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي أي نص لأي شخصية تاريخية بمجرد نشرها بشكل فيروسي بين المستخدمين الآخرين.
انهيار السياق: هل ثقافة الإنترنت “زائفة”؟
يعتبر الحساب الرسمي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تويتر من أكثر الأمثلة على تأثير ثقافة الإنترنت على السياق في فهم سياسات الحكومة من خلال توتير، حيث يقوم جمهور تويتر بتحليل تغريدات الرئيس كل حسب سياقه
عرّف الباحث الأمريكي “مايكل ويش” الباحث في علم “الأنثروبولوجيا الثقافية أو “الأنثوغرافيا الرقمية” (Digital Ethnography) -هو العلم المتخصص في دراسة تأثير الأوساط الرقمية على التفاعل البشري- تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على النصوص والكتابة بظاهرة أسماها “انهيار السياق” (Context Collapse)، وهي ظاهرة جديدة تشير إلى انهيار في فهم النصوص المكتوبة على مواقع التواصل الاجتماعي، فالنص يخرج لجمهور ضخم يقرأه في ظروف تختلف تمامًا عن الظروف التي كُتب فيها النص الأصلي، وبالتالي يفهمه في سياق مختلف ويبني تصورات مختلفة عنه.
يرى الباحث الأمريكي “مايكل ويش” أن جمهور مواقع التواصل الاجتماعي يرى التعلم والتثقف مجرد عملية من “تجميع المعلومات” فقط، وهو أصل مشكلة انتشار ظاهر “انهيار السياق”
إذا كنت لم تسمع عن مصطلح “الأنثوغرافيا الرقمية”، المجال الذي يتحدث “مايكل ويش” بناءًا على خلفيته، فهو المجال الذي يهتم بالبحث في “الثقافة الرقمية” كثقافة الإنترنت مثلًا، كما يهتم بتأثير التكنولوجيا الرقمية على الثقافة، من خلال بعض الوسائل مثل دراسة طريقة تواصل الطلاب مع بعضهم البعض على خلال تويتر، أو من خلال دراسة الوجوه المختلفة للتواصل بين الناس من خلال ثقافة الأونلاين أو “الاتصال” و ثقافة الأوفلاين “عدم الاتصال”.
وجد “ويش” في أبحاثه أن هناك كثيرًا من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي يكشفون لمتابعيهم تفاصيل عن حياتهم لا يكشفونها عادة لأقرب أصدقائهم في الواقع، وبالتالي فإن السلوك الذي يتبعه المرء على مواقع التواصل الاجتماعي يختلف بشكل واضح عن السلوك الذي يفضل التعامل به في الواقع، وبالتالي ينعكس على النصوص المستخدمة على تلك المنصات، والتي قد تكون في غالب الأمر مكتوبة وموضوعة في سياق يناسب منصات التواصل الاجتماعي أكثر من كونها تخدم النص في سياقه الأصلي لو كان استخدمه صاحبه في الحديث على أرض الواقع.
الرقميون الأصليون والمهاجرون الرقميون
حديث للباحث “مايكل ويش” عن الثقافة الرقمية والمواطنين الرقميين
يُقسم الأفراد في “الثقافة الرقمية” إلى مواطنين رقميين، الفئة الأولى منهم يُدعون بـ”الرقميين الأصليين” وهم من ولدوا وتربوا مع ثورة التكنولوجيا الرقمية، أما الفئة الأخرى فتدعى بـ “المهاجرين الرقميين” وهم من اخترعوا الوسائل التي أدت لثورة تلك التكنولوجيا الرقمية دون توقع منهم لتطورها بهذا الشكل ودون وعي منهم بكيفية التعامل معها أو استخدامها، هنا، تكون الفئة الأولى هي الفئة الأكثر تعرضًا لظاهرة “انهيار السياق”.
ورد مصطلح “الأصليين الرقميين” و “المهاجرين الرقميين” في حديث للكاتب الأمريكي “مارك برنسكي” الذي عُرف بأنه أول من خرج بتلك المصطلحات التي أوضحت الفرق بين ثقافة الفئة الأولى التي لا تقدس المركزية وتعتمد على الفردية بشكل كبير في حياتها وما بين الفئة الثانية “المهاجرين الرقميين” الذين يقدسون التسلسلات الهرمية والمعاملات الروتينية إلى حد الملل الذي قد يقتل الفئة الأولى.
جيل الثقافة الرقمية بارع في استغلال التكنولوجيا للترفيه عن نفسه وليس من أجل تعليم نفسه
يجد “مايكل ويش” أن تصنيف ما يعرف بـ”الأصليين الرقميين” و”المهاجرين الرقميين” محوريًا للغاية في محاولة فهم ظاهرة “انهيار السياق” المذكورة هنا سابقًا، وذلك لأن أبحاث علم الأنثوغرافيا الرقمية قد وجدت أن جيل الرقميين الأصليين “Digital Natives” يجيدون بشكل كبير الاستمتاع بالتكنولوجيا الرقمية لغرض الترفيه عن أنفسهم، ولكنهم لا يبذلون أي مجهود لكي يستخدموا التكنولوجيا الرقمية في تعليم أنفسهم، ولهذا يعتبر جيل المهاجرين الرقميين “Digital Immigrants” أكثر تقديرًا لعملية التعليم والتثقيف التي تمت من خلال علاقة طويلة مع الكتب والبحث بدلًا عن اللجوء إلى الحل الأسرع في البحث عن الأجوبة السريعة والقصيرة من خلال استخدام محرك البحث جوجل.
ما يراد قوله، أن هناك فرق بين من يعرف المعلومة ومن هو قادر على معرفة المعلومة بنفسه، الأول يمكنه معرفة المعلومة بشكل سريع من شبكة الإنترنت، والتي قد تكون خاطئة في بعض الأحيان، أو منسوبة للأشخاص الخطأ كما حدث في واقعة هيئة البريد الأمريكية والشاعرة “مايا أنجلو”، وبين الشخص القادر على معرفة المعلومة بنفسه، وهذا يعني قدرته على تحصيل المعلومة والبحث عنها وتحليلها وانتقادها ومحاولة البحث عن بدائل لها، ربما يكون مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي قادرين على معرفة المعلومة ونشرها وتبادلها وسط آلاف من المتابعين، إلا أنهم بحسب نظرية “انهيار السياق” فإنهم غير قابلين على المعرفة، وهو ما يجعلهم عرضة لانتشار المعلومات الخاطئة والأخبار المزيفة لصنع سياق خاص بهم وحدهم يختلف كليًا عن السياق الأصلي للكلام والنصوص.