مع كل عدوان على قطاع غزة، يلجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى سياسة الاعتقال الإداري في مدن وقرى الضفة المحتلة ومدينة القدس، فهو الوسيلة الأسهل لزجّ أكبر عدد من الفلسطينيين المؤثرين داخل السجون، ومنعهم من ممارسة أي شكل من أشكال النضال.
ومنذ بدء حرب الإبادة المستمرة منذ 11 شهرًا، طال الاعتقال الإداري مختلف الشرائح والفئات العمرية، واستهدف الاحتلال في حملاته الواسعة الصحفيين والأسرى المحررين والناشطين، وحتى كبار السن والأطفال والنساء، فقد اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 10 آلاف و400 فلسطينيًا من الضفة والقدس.
خرج بعض أسرى الضفة والقدس بعد شهور قضوها في زنازين الاحتلال، لا يعرفون شيئًا عن العالم الخارجي، فحين خرج بعضهم من غياهب المعتقلات الإسرائيلية كانت أشكالهم تحكي عن التعذيب الذي تلقوه على أيدي السجّان، حيث الهزال الشديد وحالة الإعياء والوضع النفسي السيّئ، منهم تجرأ ليروي تجربته وآخرون امتنعوا بسبب تهديدات الاحتلال.
تحدث “نون بوست” مع عدد من الأسرى المحررين في الضفة الغربية، ووصفوا لنا حياتهم اليومية داخل سجون الاحتلال، وما تعرضوا له من انتهاكات وتنكيل.
الراديو سلاح ممنوع، والجوع والضرب وسيلتا ضغط
في مايو/ أيار 2023 اُعتقل الباحث والناشط السياسي ياسر مناع من بيته، وتحول للاعتقال الإداري عدة مرات طوال فترة الحرب على غزة، حتى أُفرج عنه في أبريل/ نيسان 2024.
كيف علمت بالحرب على غزة؟ يقول مناع لـ”نون بوست”: “يوم السابع من أكتوبر قرابة الساعة السابعة صباحًا، خرجت إلى ساحة القسم لممارسة الرياضة الصباحية، وما إن وطأت أرض الساحة “الفورة” حتى ناداني أحد الأسرى، وأبلغني أن مجموعة من الصواريخ تُطلق من قطاع غزة إلى مناطق أبعد من مستوطنات الغلاف”.
ويتابع:” أخذت الأمر بداية على أنه من باب الدعابة، لم نصدق أن هذا حدث، ثم نادى أسير آخر بأن هناك كلمة للضيف بعد قليل، حينها ساد الاعتقاد بأن “حرب التحرير” قد انطلقت شراراتها”.
وقتها سحب الاحتلال أجهزة التلفاز، وتم تفتيش جميع الأقسام بحثًا عن الهواتف النقالة، وذلك لقطع الأسرى عن العالم الخارجي، ومن ثم بدأت الانتهاكات تتزايد وتيرتها ضد الأسرى، حيث الحرمان من الطعام والإهانة والاعتداءات بالضرب.
أمّا بشأن كيفية تداول الأخبار بين الأسرى، ففي البداية كان ينادي بعضهم الآخر عبر النوافذ الخلفية للغرف لتبادل الأخبار، لكن بعد تعرضهم للضرب عدة مرات بسبب هذه الطريقة، اضطروا إلى تغيير أسلوبهم، وأصبحوا يكتبون الأخبار على أوراق صغيرة مهترئة، ويتبادلونها بين الغرف أثناء توزيع الطعام، والقول للمحرَّر مناع.
وذكر أن إدارة السجون تعمل على بثّ الإشاعات بطريقة مقصودة، سواء أكان عبر المقابلات أم عن طريق المتعاونين معها، وذلك لتعزيز الشعور بعدم الاستقرار والضغط النفسي، وكان الكثير من الأخبار مزيفة مصدرها إدارة السجن، وهدفها إحباط الأسير.
وأشار مناع إلى أن الأسرى يتلهفون لأي خبر عن حرب غزة، فكانوا يبحثون عن الأخبار من عدة مصادر، كالأسرى الجدد الذين يُعتبرون المصدر الأكثر مصداقية، أو من الأسير الذي يخرج إلى المحكمة ويلتقي بالأسرى من أقسام أخرى ربما لديهم راديو مهرَّب، أو سؤال المحامي الذي كان يكتفي في أغلب الأحيان بالتلميح إلى أنه ممنوع من التصريح من جانب المحكمة، بالإضافة إلى الأسرى الجنائيين أثناء التنقلات والحافلات، لكن معظم أخبارهم لا تكون دقيقة.
ومن المواقف الصعبة التي مرّت عليه أخبر مناع “نون بوست”، أنه حين كان في سجن الرملة سأل أحد الأسرى الجنائيين عن آخر الأخبار، فقال له إنه تم الاتفاق على الصفقة، وإن الحرب قد انتهت، لكن تبين لاحقًا أن المعلومة غير صحيحة، وفي كل يوم كان يأتي خبر جديد يناقض الخبر السابق، وبعد فترة أصيب وزملاؤه بإحباط شديد، معلقًا: كنا نشعر وكأننا نعود إلى نقطة الصفر دون إبرام صفقة التبادل”.
ولم يلتقِ مناع بأي أسير اُعتقل من قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر، رغم وصول العشرات منهم إلى سجون الاحتلال، لكن كانت لهم أقسام خاصة، عدا عن مواعيد الفورة المختلفة -الساحة التي يخرج إليها الأسرى لمدة ساعة يوميًا-.
وقت الإفراج عن مناع التقى بابنه الصغير قيس الذي وُلد وهو في السجن، لم يتمكن من تخيل ملامحه كما يقول، فمشاعره كانت مختلطة بين الفرح بمولوده الجديد وما يجري في غزة، علمًا أنه خسر حوالي 15 كيلوغرامًا من وزنه، وذلك بفعل سياسة التجويع التي تمارسها إدارة السجون، حيث الطعام الرديء القليل.
لا يعرف أسرى الضفة لو انتهت الحرب أم لا تزال مستمرة
ويحكي محرر آخر، طلب التستر على هويته لأسباب أمنية، تجربة اعتقاله لـ”نون بوست” أنه بعد حرب غزة بأسبوع اُعتقل من مدينة الخليل، وكان الاعتقال الحادي عشر، فقد قضى في سجون الاحتلال ما يقارب 15 عامًا، لكن الاعتقال الأخير كان الأقسى.
يقول: “أكلت ضربًا من السجان عن الأمة كلها (..) كسروا أضلعي دون تقديم العلاج، وفي حال طلبت مسكنًا للآلام يضربني السجّان أكثر”.
ويصف وضع أسرى الضفة في المعتقلات الإسرائيلية بأنهم يعيشون ما بين الضرب والجوع والمرض، لافتًا إلى أن الإهانة والتقليل من شأن المقاومة للاستفزاز، وفي حال حدثت مشاداة كلامية بين الأسرى لاعتراضهم على رداءة الطعام أو كميات الماء، يعلق السجان: “خلي الضيف والسنوار يحضروا لكم الطعام”.
وذكر أن الهاتف والراديو والتلفزيون هي أسلحة بالنسبة إلى السجان، وفي حال قُبض على أسير بحوزته هاتف محمول أو راديو مهرّب يعاقب القسم بأكمله، مشيرًا إلى أن إدارة السجن كان تبث الشائعات طيلة الوقت، فكان الأسرى لا يعرفون لو انتهت الحرب أم لا تزال مستمرة.
وتأثر المحرر الضفاوي كثيرًا وقت الإفراج عنه، ولم تتعرّف عليه والدته لخسارته أكثر من 30 كيلوغرامًا، موضحًا أنه لم يكن يكترث للأكل رغم رداءته، لكن كان يعيش في حالة خوف، خاصة بعدما كان يسمع ما يمارَس ضد أسرى غزة، حيث الجوع والترهيب والاغتصاب وإطلاق الكلاب البوليسية.
ووقت خروجه من السجن بعد 8 شهور، جعلته إدارة السجن يوقّع على ورقة بعدم الإدلاء لوسائل الإعلام، وإلا سيتم إعدامه.
سحب إنجازات الأسرى السابقة وسب الذات الإلهية
بعد حوالي أسبوعين من حرب غزة، اُعتقل نجيب مفارجة من رام الله، حيث أمضى 10 شهور منقطعًا عن العالم الخارجي كما يقول لـ”نون بوست”، واصفًا تلك المدة داخل سجن نفحة بأنها الأصعب عليه من سنوات اعتقاله السابقة.
ويصف سنوات اعتقاله السابقة بـ”المسخرة ” مقارنة بالمرة الأخيرة، حيث سادية السجّان الذي تحول إلى سجّان نازي.
ويذكر أنه لم يكن وزملاؤه الأسرى يعرفون شيئًا عن العالم الخارجي، فقط حياتهم داخل الأسر تتلخّص في “السادية والعقاب الجماعي والتجويع والإهمال الطبي، ومصادرة المكتسبات التي انتزعها الأسرى من إضراباتهم السابقة”.
ويوضح مفارجة أن التجويع كان يتمثل في التحكم بالسعرات الحرارية، فالجسم يحتاج يوميًا 2200 سعرة، لكن الطعام الذي يقدم 1300 سعرة، بحيث الكيلو الواحد 7 آلاف سعرة موزعة على 10 أيام، وبهذه الحسبة يخسر الأسير كل شهر 3 كيلوغرامات، وبالتالي خسارة الوزن لجميع الأسرى كانت واضحة.
وذكر أنه منذ الأيام الأولى تم استبدال الخبز العربي بشرائح رقيقة، أما الأرز -في كأس بلاستيك بمعدّل معلقتين- فكان يقدَّم دون استواء، كان فقط منقوعًا في الماء، وعند الاعتراض يبصق السجان في الصحن، أما الشوربة دون ملح، مجرد ماء فيه ذرة أو بازيلاء أو فاصولياء.
وكان مصدر الملح للجسم هي حبات الزيتون التي تُمنح لهم كل جمعة، دون الحصول على فاكهة، مشيرًا إلى أنه تم سحب الشوكولاتة من “الكنتيا” -كافتيريا السجن-، حيث اعتبرها المتطرف بن غفير رفاهية، بينما العشاء بيضة واحدة.
ولفت مفارجة إلى أن السجان صادر كل شيء اكتسبه الأسرى في الإضرابات السابقة، حيث تم سحب المعالق والملابس والأحذية والراديو والتلفاز والمصحف وسجادة الصلاة والمسبحة والكتب، ويوميًا هناك مرات غير معدودة للتفتيش بطريقة غير آدمية، مشيرًا إلى أن إدارة السجون تركت لكل أسير ملبوسه الذي يرتديه و”حفاية” وفرشة وغطاء فقط.
وكان وضع الأسرى مزريًا للغاية، حيث كان يوضع حوالي 15 أسير في غرفة تكفي لـ 6 أسرى فقط.
ويستذكر وقت التفتيش أو الترحيل بالبوسطة -مركبة نقل الأسرى للمحكمة-، أنه يتم تكبيل أيدي الأسرى للخلف، ويعصبون أعينهم ويجبرونهم على خفض الرأس إلى الأسفل لإذلالهم، حتى وقت الإفراج عنهم.
وتعمّد السجان إهانة الأسرى بالاعتداء الجسدي والنفسي واللفظي، عدا عن هتك أعراضهم وقذف شرفهم وسب الذات الإلهية، بينما الضرب كان بالهروات ورش الغاز، عدا عن وجود دبابة على باب كل سجن إسرائيلي.
أما عن الرعاية الطبية، أكّد مفارجة أنه لا توجد عيادات ولا أطباء ولا حتى “حبة مسكن”، حتى من اُعتقل قبل السابع من أكتوبر ويعاني المرض لم يقدَّم له أي فحص طبي أو علاج.
ولم يقتصر تعذيب أسرى الضفة في المعتقلات الإسرائيلية، بل أكدت مؤسسات الأسرى أن “حملات الاعتقالات المستمرة ترافقها جرائم وانتهاكات متصاعدة، منها عمليات تنكيل واعتداءات بالضرب المبرح، وتهديدات بحقّ المعتقلين وعائلاتهم، إلى جانب عمليات التخريب والتدمير الواسعة في منازل المواطنين، والاستيلاء على المركبات والأموال ومصاغ الذهب، إلى جانب عمليات التدمير الواسعة وهدم منازل تعود لعائلات أسرى، واستخدام أفراد من عائلاتهم رهائن، إضافة إلى استخدام معتقلين كدروع بشرية”.