أندريه رجل في أواخر الخمسينيات، يعمل مديرًا ماليًا لمذبح آلي ومصاب بشلل بذراعه اليسرى، يفاجأ بتعيين ماريا، فتاة في أوائل الثلاثينيات كمشرفة للجودة في المذبح، يلاحظ أندرية سلوك ماريا الغريب، فهي تؤدي عملها بشكل كامل، إلا أن تفاعلها مع العاملين للمذبح به برود مريب، كأنها إنسان آلي، مما يؤدي إلى نفور العاملين منها ظنًا منهم أنها متعالية ومتكبرة عليهم.
ماريا تعاني من متلازمة أسبرجر وهو طيف من أطياف التوحد، ما يجعلها غير قابلة على التكيف الاجتماعي في أي مكان، يحاول أندريه التقرب من ماريا في البدء، إلا أن رد فعلها تجاهه، يفسره كنوع من الرفض.
تقع حادثة سرقة في المجزر، مما يتطلب إجراء اختبار نفسي لجميع العاملين به من أجل كشف هوية السارق، في تلك الاختبارات، يكتشف أندريه وماريا أنهما يحلمان نفس الحلم يوميًا منذ فترة، مما يخلق ارتباطًا غير متوقع بينهما رغم فارق السن والحالة، فكيف ستتطور العلاقة بين أندريه وماريا؟ وهل سيكتب لتلك العلاقة النجاح؟
السيناريو
في أول مشهد بالفيلم، غزال وظبية يقفان وسط غابة ثلجية، لا يحدث شيء درامي، فقط يشعر المشاهد أن تلك الغزلان تعرف بعضها منذ قديم الأزل.
تقدم المخرجة إلديكو إنيدي على مدار أربعين دقيقة حياة أندريه وماريا الروتينية بالتفصيل، أندريه يمارس عمله صباحًا في المذبح، يذهب للمتجر مساءً بعد العمل يشتري حاجيات منزله، ثم يشاهد التلفاز وينام.
ماريا لديها روتين مشابه، وإن كان أكثر وحدة، فليس لديها أصدقاء نظرًا لذكائها الاجتماعي المنعدم، ففي الصباح تعمل في الجزارة الآلية، وفي المساء تتناول العشاء وتشاهد التلفاز وتنام.
التفصيل في الروتين يظهر لنا الفراغ العاطفي الذي يعيشه كل من أندريه وماريا
يتقاطع بين كل تلك المشاهد مشاهد للغزال والظبية، ثم تنتقل إنيدي للروتين اليومي مرة أخرى في المجزرة.
– دائمًا ما أحب تناول الشوربة هنا.. أتعلمين لماذا؟
– ربما لأن ذراعك مشلولة.. فمن السهل تناول الشوربة بيد واحدة.
ماريا تصد أندريه في أول مقابلة بينهم في مطعم العمل.
هذا التفصيل في الروتين يظهر لنا الفراغ العاطفي الذي يعيشه كل من أندريه وماريا، والمجرزة الآلية كمكان تؤكد لنا هذه الحقيقة، فالمواشي مثل أندريه وماريا في تلك المجرزة محبوسة في حظائر متكدسة ولها روتين تغذية صارم وقاسٍ، هذا الروتين ينتهي بذبحها وسلخها من أجل الاستهلاك البشري.
أندريه معجب بماريا، لكنه يخشى من اتخاذ خطوة تجاهها نظرًا لفارق السن ولخوفه من الرفض، وهو آخر ما يريد التعرض له في سن السابعة والخمسين.
ماريا على الجانب الآخر لا نستطيع فهم مشاعرها تجاه أندريه، فهي تعامله ظاهريًا ببرود، لكن في منزلها تعيد تمثيل المحادثات التي صارت بينهما، كأنها تود أن تعود بالزمن وتسحب كلامها الفظ تجاهه.
لا ندرك مشاعر ماريا الحقيقية تجاه أندريه إلا بعد أن يكتشف الاثنان أنهما يتقابلان في الحلم كل ليلة، أندريه هو الغزال وماريا الظبية، ماريا تحب أندريه أيضًا إلا أنها نظرًا لضعفها في التواصل الاجتماعي، تعجز عن التعبير عن ذلك.
أغلب حبكات الأفلام الرومانسية تحتوي ثلاث مراحل، الأولى وقوع طرفين في الحب، الثانية أن يظهر تحدٍ يهدد العلاقة الوليدة بين الطرفين، الثالثة التغلب على التحدي وبقاء الحبيبين للأبد، أو الفشل في مواجهة التحدي والانفصال
بعد اكتشافهما أنهما يتشاركان الحلم، يبدأ ماريا وأندريه في التقرب من بعضهما، إلا أن قلة خبرة ماريا في التعامل مع البشر وخوف أندريه من الرفض، يعرقل تطور العلاقة، مما يهدد بعودة الاثنين للمربع صفر، مربع الروتين والوحدة.
أغلب حبكات الأفلام الرومانسية تحتوي ثلاث مراحل، الأولى وقوع طرفين في الحب، الثانية أن يظهر تحدٍ يهدد العلاقة الوليدة بين الطرفين، الثالثة التغلب على التحدي وبقاء الحبيبين للأبد، أو الفشل في مواجهة التحدي والانفصال.
سوء الفهم هو أحد أبرز العراقيل التي استخدمتها الأفلام الرومانسية على مدار تاريخها، وأحد أبرز أدوات إثارة التوتر لدى المشاهد، المخرجة المجرية إلديكو إنيدي استخدمت أداة سوء الفهم بشكل رائع، فالعادي أن يكون سوء الفهم بسبب خارجي كأن يوقع طرف ثالث بين طرفي العلاقة، أو داخلي مثلما يكون لدى أحد أطراف العلاقة عيب في الشخصية مثل عدم الثقة أو الغيرة الشديدة.
سوء الفهم هنا نابع من العيوب الجسدية لدى أندريه وماريا، وخوفهم من عدم قبول بعضهم لتلك العيوب، فأندريه يخشى من عدم تقبل ماريا لسنه الكبير، وماريا تخشى من عدم فهم أندريه لنواياها تجاهه، هذه أسباب كلنا كبشر نتفهمها، وبما أن المشاهد يدرك على مدار الفيلم مدى التقارب الروحاني بين أندريه وماريا وكيف أن كلًا منهما سينقذ الآخر من الوحدة، يتوتر المشاهد من أي عرقلة تحدث للعلاقة الوليدة.
المشكلة الوحيدة فقط أن النهاية عندما يصل لها المشاهد، قد يجدها غير قابلة للتصديق، يرجع هذا للطريقة التي بنت بها إلديكو إنيدي الشخصيات.
الشخصيات والتمثيل
أبرزت إنيدي عدة صفات لماريا، كالانطوائية وذاكرتها وحواسها الحادة، وخوفها من اللمس والتقارب من الآخرين.
أليكساندرا بوربيليي أضافت بعض من الضعف والحساسية لماريا، رغم أن تفاعل الشخصية في أول الفيلم مع الآخرين كان آليًا وباردًا، هذه الحساسية كانت مفتاحًا مهمًا في تعاطف المشاهد تجاهها
متلازمة أسبرجر منعت ماريا من أن يكون لها أصدقاء، فليس لديها محمول خاص بها، والشخص الوحيد الذي تثق به هو طبيبها النفسي منذ الطفولة، ولا تقوم ماريا بأي أنشطة نهائيًا وبالتالي فليس لها أي نوع من التجارب، فهي لا تسمع الموسيقى حتى.
في الثلث الأخير من الفيلم، تبدأ ماريا في اكتشاف الحياة ومقاومة هواجسها الداخلية التي تمنعها من التقرب لأندريه.
أليكساندرا بوربيلي أضافت بعض من الضعف والحساسية لماريا، رغم أن تفاعل الشخصية في أول الفيلم مع الآخرين كان آليًا وباردًا، هذه الحساسية كانت مفتاحًا مهمًا في تعاطف المشاهد تجاهها.
استخدمت إلديكو الزجاج كموتيف بصري في مشاهد مختلفة لماريا
على جانب آخر، أندريه غير متقبل نفسه بسبب عامل السن والإعاقة المصاب بها، ولتجاربه العاطفية السابقة التي فشلت جميعًا؛ ما يجعله يشك في حدسه تجاه ماريا عندما تصده في مواقف عديدة، دائمًا يسيطر عليه هاجس الفشل وخوفه من أن يبدو كمغفل عجوز يائس.
جيزا مورتشان أدى الدور بشكل مرهف ومتميز رغم كونه بلا أي خلفية في التمثيل على عكس أليكساندرا، تنظر في وجهه كممثل وترى قدرًا من مشاعر الخوف والحيرة.
الإخراج والتصوير
فكرة إلديكو إنيدي الإخراجية تكمن في أن الحياة قصيرة جدًا كي لا نتبع حدسنا ونداءنا الداخلي، هذه الفكرة تظهر منذ المشهد الأول مع الغزال والظبية، يتبع ذلك مشهد لبقر مسجون داخل حظائر الجزارة الآلية ينتظر مصيره.
أنيدي حققت أحد مستحيلات السينما وهو توجيه الحيوانات بكفاءة، فقد استعانت بمدرب حيوانات من أجل اختيار الغزال والظبية، وعلى مدار خمسة أشهر درب الغزال على التأقلم على البشر والكاميرا!
أسلوب إلديكي في الإخراج اعتمد على التنويع بين التركيز على وجهتي نظر أندريه وماريا (حيث نرى ما يروه)
بعد الاستقرار على اختيار الحيوانات صورتهم على الطريقة السينمائية بحيث صورتهم في أحجام وزوايا مختلفة، على عكس طريقة عالم الحيوان المعتمدة على التصوير عن بعد باستخدام العدسات الطويلة.
النتيجة أن الحيوانات ظهرت بشكل يكاد يكون بشريًا، وهو ما كان مهمًا للغاية لجعل المشاهد يتفهم الصلة الروحية بين ماريا وأندريه.
أسلوب إلديكي في الإخراج اعتمد على التنويع بين التركيز على وجهتي نظر أندريه وماريا (حيث نرى ما يروه) وأسلوب المراقبة (Fly in the Wall Approach) حيث نراقب كمشاهدين حياة أندريه وماريا عن بُعد أو من خلف الزجاج.
ماريا تعيد تمثيل حوار بينها وبين أندريه من خلال ألعابها
عالم إلديكي عالم واقعي بشدة إلا أنه متشبع بالألوان بالأخص الأحمر والأبيض، فكل كادر يظهر اللون الأحمر به بشكل ما ما عدا مشاهد الأحلام.
لا تخشى إلديكي من إظهار بشاعة الدماء في المجزرة، وهو ما يجهزنا لمشهد آخر دموي صعب في نهاية الفيلم، إظهار الدماء جزء من إستراتيجية إلديكي في بناء عالمها الواقعي وانغماس المشاهد به، والصوت في إلديكي مستلهم من البيئة المحيطة، واعتمدت عليه بدلًا من الموسيقى، في اختيار مغاير لفيلم رومانسي.
تكوينات هرباي وإلديكي ثابتة واستخدام حركة الكاميرا بشكل نادر جدًا، ما جعل إيقاع الفيلم معتمد على حركة الممثلين والمونتاج
هذه الاختيارات كانت سببًا أساسيًا في تعاطف وتوتر المشاهد تجاه علاقة أندريه وماريا في الفيلم، فالأسلوب الإخراجي لإلديكي غرس المشاهدين في عالم وحياة أندريه وماريا بحيث يتوحد المشاهد معهما.
مدير التصوير ماتي هرباي استخدم تنويعات فعالة من الإضاءة الدافئة التي مصدرها الشمس في المشاهد النهارية، والإضاءة الباردة في المشاهد الداخلية للجزارة والخارجية الليلية المعتمدة ومصدرها الأنوار الصناعية.
تكوينات هرباي وإلديكي ثابتة واستخدام حركة الكاميرا بشكل نادر جدًا، ما جعل إيقاع الفيلم معتمد على حركة الممثلين والمونتاج، وهو إيقاع كان أسرع من أفلام أوروبا الشرقية بشكل عام، التي تسخدم الكاميرا الثابتة لخلق حالة تأمل لدى المشاهد.
إلديكي من المخرجات المجريات التي كانت مميزة منذ فيلمها الأول، فقد فاز فيلمها الأول (قرني العشرين) بالكاميرا الذهبية في كان 1989، ورشحته المجر للأوسكار حينها.
إلديكي المخرجة يمينًا وهرباي مدير التصوير يسارًا
استمرت في صنع الأفلام في التسعينيات إلى أن توقفت في 1999 بعد فيلمها الأخير (سايمون الساحر)، فطوال 18 عامًا لم تستطع تمويل مشاريعها بسسب ميزانيتها الضخمة أو انسحاب ممثلين في اللحظات الأخيرة.
كتبت سيناريو الفيلم في فترة سنة واستطاعت الحصول على تمويل من المركز المجري للسينما نظرًا لميزانية الفيلم البسيطة، عرض الفيلم في مهرجان برلين 2017 وفاز بالدب الذهبي، وعرض في مصر في سياق بانوراما الفيلم الأوروبى، وانتهى به الأمر مرشحًا للأوسكار وممثلًا للمجر في جائزة أفضل فيلم أجنبي العام الماضي.
تريلير الفيلم