منذ شهور والحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة تأخد أبعادًا مختلفة، لا سيما مع سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على محورَي نتساريم “الشهداء” وسط القطاع، ومحور فيلادلفيا “صلاح الدين” جنوب القطاع.
ويرتكز الاحتلال الإسرائيلي على عقيدة قتالية تقوم على السيطرة والبقاء في هذين المحورَين، واعتماد نهج التوسع بين فترة وأخرى لإحباط أية هجمات ممكنة للمقاومة الفلسطينية على هذين المحورين، مع تراجع القتال في مراكز المدن والبلدات في غزة.
استراتيجية الاحتلال
ويركز الاحتلال الإسرائيلي وجيشه على عمليات قصف تستند إلى نموذج “الضاحية” أو القصف “السجادي”، لتهيئة الطرق أمام قواته، ثم الدفع بقوات برّية والتموضع في هذه المناطق والبقاء فيها وتوسعتها.
وتكرر هذا السيناريو أكثر من مرة، لا سيما في محور نتساريم الذي قام الاحتلال بتوسعته لمسافة 4 كيلومترات لحرمان المقاومة من أي عنصر مفاجأة، يقوم على تنفيذ أي عمليات في هذا المحور تقوم على فكرة المباغتة.
ويتكون الممر حاليًا من 3 خطوط عرضية، خُصص الأول لعبور الآليات المجنزرة، والثاني للمركبات والسيارات، فيما بُنيت على الثالث مواقع لتجمع الجنود ومخازن للذخيرة، فيما تمّت إحاطة الممر بسواتر أسمنتية ضخمة وأخرى ترابية مرتفعة، بالإضافة إلى أجهزة الرصد المتطورة، وأبراج للمراقبة، لتأمين قواته من هجمات المقاومة، لكن دون جدوى.
وبالنظر إلى وتيرة العمليات المرتفعة في المحور، فإن المكان بات هدفًا سهلًا للمقاومة، إذ يتيح لمقاتليها حرية المناورة واختيار الهدف بعناية، فضلًا عن رصده وعزله في خطّ جغرافي لم يكن بمقدور الاحتلال تأمينه عندما كانت المقاومة بإمكانيات ضعيفة.
استراتيجية المقاومة
في المقابل، تستند المقاومة إلى عنصر الفهم الجغرافي لعناصرها للأماكن، والقراءة الميدانية المتأنية في العمليات التي تقوم بها في المحوَرين، ضمن خطط وضعتها مسبقًا ولاحقًا للتعامل مع أي عمل إسرائيلي عسكري.
وتركز المقاومة في المرحلة الراهنة على تحويل المحاور التي يتمركز فيها الاحتلال الإسرائيلي إلى منطقة استنزاف، تجعل تكلفة البقاء فيها مكلفًا للغاية على الصعيد العسكري والبشري عبر تكرار العمليات النوعية.
وتستخدم المقاومة الفلسطينية في عملياتها أدوات متنوعة أظهرتها خلال الشهور الأخيرة، أبرزها عمليات القنص القاتلة للجنود خلال تحركهم داخل القواعد العسكرية، بالإضافة إلى عمليات القصف بالصواريخ قصيرة المدى وقذائف الهاون.
وطورت المقاومة الفلسطينية من أدواتها عبر عمليات إغارة نفّذتها عبر مقاومين في هذه المحاور، من خلال كمائن قاتلة أوقعت الجنود قتلى ومصابين، بالإضافة إلى ذلك لجأت المقاومة الفلسطينية لبعض المسيّرات التي تمتلكها لتنفيذ هجمات انتحارية.
ويقرّ القادة العسكريون والأمنيون وعلى رأسهم وزير الحرب يوآف غالانت، بأنه لا جدوى من البقاء في محور نتساريم أو فلادليفيا، في وقت يتمسّك به رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في البقاء، وهو ما يعطل فرصة التوصل إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار.
ويعد شهر أغسطس/ آب 2024 شهر الاستنزاف والثمن الكبير لجنود الاحتلال في هذه المحاور الثابتة، لا سيما مع تنفيذ المقاومة الفلسطينية عمليات متكررة أوقعت قتلى في صفوف القوات الموجودة.
محور للموت: نتساريم وفيلادلفيا
وفق اعترافات الاحتلال الإسرائيلي، فقد خسر الجيش أكثر من 30 جنديًا وضابطًا في محور نتساريم منذ نهاية العام، عدا عن عشرات المصابين بفعل العمليات النوعية التي نفّذتها الأذرع العسكرية للمقاومة.
وفي 25 ديسمبر/ كانون الأول 2023 اعترف الاحتلال بمقتل ضابطين، وفي 24 فبراير/ شباط 2024 اعترف بمقتل ضابط، وفي 27 من الشهر ذاته اعترف بمقتل ضابط آخر، وفي الـ 28 من الشهر اعترف بمقتل ضباط وجندي وإصابة 7 آخرين بجروح خطرة.
وفي 28 أبريل/ نيسان 2024 اعترف الاحتلال بمقتل جنديين وإصابة 8 آخرين، وفي اليوم التالي اعترف الاحتلال بمقتل جنديين وإصابة جندي نتيجة قذائف المقاومة الفلسطينية التي تطلقها على المحور باستمرار.
وفي 10 مايو/ أيار قُتل 4 جنود نتيجة كمين نفّذته المقاومة الفلسطينية في محور نتساريم وسط القطاع، وأعادت المقاومة عملياتها عبر عبوة ناسفة في المحور استهدفت بها دبابة إسرائيلية أدّت إلى مقتل جنديين في 15 يونيو/ حزيران.
وفي 21 يونيو/ حزيران نفّذت المقاومة عملية قصف صاروخي وإطلاق لقذائف الهاون، أسفر عن مقتل جنديين وإصابة 8 آخرين بجراح متفاوتة في المحور ذاته، وفي 2 يوليو/ تموز 2024 قُتل جندي وضابط في عملية للمقاومة.
وفي 10 أغسطس/ آب قُتل جندي إسرائيلي برصاص المقاومة الفلسطينية في محور نتساريم، وفي 12 أغسطس/ آب قُتل جندي إسرائيلي بعملية قنص جرت له في المحور، وفي 17 أغسطس/ آب قُتل ضابطان في المحور ذاته.
وخلال الفترة الممتدة ما بين 23 أغسطس/ آب وحتى 28 أغسطس/ آب قُتل 6 جنود وضابط إسرائيلي نتيجة عمليات المقاومة الفلسطينية في محور نتساريم، عبر عدة أدوات منها القنص والاشتباك المباشر وتفجير العبوات.
أما فيما يتعلق بمحور فلادليفيا، فإن الاحتلال الإسرائيلي بدا أكثر حرصًا على عدم نشر خسائره، رغم قيام المقاومة بتنفيذ عدة عمليات تمثلت في عمليات قصف صاروخي واستهداف بقذائف الهاون عدة مرات.
لفهم إصرار نتنياهو على احتلال محور فيلادلفيا.. يجب العودة إلى 2005
استراتيجية المقاومة
ترتكز المقاومة في استراتيجيتها في التعامل مع تواجد الاحتلال في محورَي نتساريم وفيلادلفيا على قاعدة رفع تكلفة هذا البقاء، وجبي ثمن دموي لهذا التمركز، بحيث يتحول كل يوم من البقاء في هذه المحاور إلى أيام من الاستنزاف المستمر للجنود والقوات المتمركزة.
إضافة إلى تثبيت فكرة إشغال أكبر عدد ممكن من الألوية في الجهود التأمينية والعمليات المحيطة بهذه المحاور، ما يضاعف من كلفة هذا التمركز ويجعل من فاتورة استدامة عمله والتمركز فيه فاتورة باهظة في التكلفة المادية والبشرية.
ومن المتوقع أن يتصاعد نمط ونوعية هذه العمليات مع طول مدة تواجد القوات في هذه المحاور، بحيث يؤدي الثبات في تواجد القوات إلى خلق بيئة عملياتية تسمح بعمليات أكثر نوعية وتأثيرًا في القوات المتمركزة في هذه المحاور.
وهذا ما كان واضحًا في عدد من الكمائن المتقدمة التي استهدفت محور نتساريم، رغم تسخير الاحتلال لكل وسائل التأمين والعمق الجغرافي لمنع وقوع عمليات مشابهة، وهو ما يجعل الفترة القادمة مرشّحة لعمليات أكثر نوعية وتأثيرًا لرفع هذه الكلفة واستنزاف جيش الاحتلال، خصوصًا أن تركيز النيران على القوات المتمركزة في المحاور بات سمة العمل المشتركة لجميع الأذرع العسكرية في قطاع غزة.
وأمام حالة الفشل القائمة في ملف المفاوضات وتعنُّت نتنياهو حول الانسحاب من المحورين، في الوقت الذي يرى فيها قادة المؤسسة الأمنية والعسكرية بأنه لا حاجة إلى البقاء فيهما، يمكن القول إن المقاومة قد تدفع نحو عمليات أكثر كثافة خلال الأسابيع المقبلة.