عقب قرار الرئيس الأمريكي في الـ8 من مايو/أيار الماضي، الانسحاب الكامل من الاتفاق النووي مع إيران، أصدرت وزارة المالية الأمريكية قائمة عقوبات ضمن جدول زمني لإعادة فرض العقوبات، ليس على إيران فحسب، بل على الشركات والدول التي تقيم علاقات تجارية معها، علاوة على إطلاق التهديدات بحق كل الدول للتوقف عن شراء النفط الإيراني، وإلا فستواجه بلا استثناء عقوبات أمريكية جديدة.
ومع استمرار التلويح بسلاح العقوبات بحق كل دولة تقيم علاقات ثنائية مع إيران، مضافًا إليها التهديدات من جانب مسؤولي السعودية والإمارات حيال أي دولة تتعاون مع إيران، خرجت الكثير من الشركات الأوروبية الكبيرة، كشركات فرنسية من قبيل “توتال” أو شركات أخرى مرتبطة بالنفط منها قطاع السيارت كشركة “بيجو”، لكن لكل قاعدة استثناء.
فإذا كانت القاعدة هي الابتعاد عن إيران، فإن عُمان الاستثناء، فعلى الرغم من حفاظها على قنوات اتصال قوية مع إيران، يمكن القول إن السلطان قابوس أفلت ببلاده من أي قرار يعصف باستقرارها السياسي، سواء من جانب السعودية أم الإمارات، الأمر يدعو للتساؤل عن الدوافع وراء حفاظ عُمان بقدر من الاستقرار يحميها من أي قرارات عاصفة من جانب أمريكا أو الدول الخليجية التي تقف في موقف مناهض لإيران التي تتمتع مسقط بعلاقات قوية معها.
السير على حبال الجميع
مع تواصل الحملات الهجومية الواسعة من جانب ترامب لحصار إيران عن طريق الوسائل المختلفة، سرعان ما تجد مثل هذه الدعوات صداها، فعند تكثيف الإدارة الأمريكية ضغوطها على حلفائها لوقف عمليات شراء الإمدادات النفطية من إيران بالكامل، لاقت هذه القرارات احتفاءً خليجيًا، وبالأخص من جانب السعودية والإمارات.
وبحسب وكالة بلومبرج الأمريكية، يريد ترامب أن يتوقف الحلفاء عن استيراد النفط الإيراني تمامًا بحلول 4 من نوفمبر/تشرين الثاني 2018 كموعدٍ نهائي دون أي استثناءاتٍ أو تأخير، حتى تستهدف شريان الحياة الاقتصادي لإيران بفرض عقوباتٍ على برنامجها النووي.
وزير الخارجية الإيراني مع نظيره العماني
لكن دولة خليجية أخرى لم تعبأ بهذه التهديدات، واستمرت سلطنة عُمان في استيراد الغاز والنفط، فكانت النافذة الخليجية الوحيدة للاستيراد من طهران، والاستثناء من بين دول الخليج كافة التي لم تعلق استيرادها للنفط الإيراني، وتركت الأمر مفتوحًا أمام الاحتمالات كافة.
وبالتوازي مع تهديدات ترامب بملاحقة أي علاقة ثنائية مع طهران، نمت العلاقات ذاتها بين إيران وعُمان عبر اجتماعات ثنائية جمعت مسؤولي البلدين على مدار العام الماضي، ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اجتمع قائد القوات الجوية العُمانية مع نظيره في طهران كجزء من لجنة عسكرية مشتركة، كما زار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مسقط لمناقشة خط أنابيب مقترح لنقل الغاز الإيراني إلى الهند.
وعلى الصعيد الاقتصادي توجد روابط شديدة القوة بين البلدين؛ إذ يُقدَّر التبادل التجاري بينهما بنحو مليار دولار سنويًا، فقد أبرمت عُمان اتفاقًا مع إيران يقضي باستيراد 10 مليارات متر مكعب من الغاز الإيراني بشكل سنوي، كما دُشن بالفعل خط ملاحي يربط بين البلدين، وهو ما سيزيد من حجم التبادل التجاري بينهما في الفترة القادمة.
لم تقف وسائل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين عند التعاون العسكري فقط، فقد امتد الأمر لزيادة التعاون التجاري بين البلدين برغبة عُمانية
ورغم الضغوطات الأمريكية، كان للجانب العسكري نصيب، فقد عقد وزير الدفاع الإيراني العميد أمير حاتمي، اجتماعًا عسكريًا، في طهران، مع وفد عسكري من سلطنة عُمان برئاسة مساعد رئيس هيئة الأركان المسلحة العُمانية العميد البلوشي، وكان رئيس الجامعة العليا للدفاع الوطني العميد أحمد وحيدي، قد أعلن مؤخرًا، أن مناورات بحرية مشتركة ستبدأ قريبًا بين إيران وسلطنة عُمان في مياه الخليج، معتبرًا أن المناورات جاءت لتبرهن قدرة البلدين على حماية المنطقة من دون تدخل خارجي.
لم تقف وسائل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين عند التعاون العسكري فقط، فقد امتد الأمر لزيادة التعاون التجاري بين البلدين برغبة عُمانية، وذلك في يونيو/حزيران من العام الحاليّ عبر تنظيم لقاء بين وزير التجارة والصناعة العُماني علي بن مسعود السنيدي، وعدد من رجال الأعمال الإيرانيين في مسقط؛ من أجل بحث كيفية زيادة الاستثمار المتبادل بين البلدين.
كما لا تقف العلاقات القوية والمدهشة بين الدولة المؤسسة في مجلس التعاون الخليجي وإيران عند هذا الحد، فعُمان تمثل طهران في البلدان التي لا يوجد لها تمثيل دبلوماسي بها مثل كندا، وفي هذا الإطار نذكر بأن قابوس كان أول زعيم عربي يزور إيران بعد تولي روحاني السلطة عام 2013.
.اتخذت سلطنة عُمان الحياد شعارًا لها في مواقفها الرسمية
هل الحيادية تفعل كل هذا؟
ربما تكون الكلمة المفتاحية في حياة قابوس الشخصية هي “الوحدة”؛ فقد كان الابن الوحيد لوالده، وحتى هذا الرابط الحميمي بينه وبين والده قرر أن يتخلص منه حين قام بانقلاب ناجح عليه بدعم من بريطانيا 1970، لكنه أجاد صفة أخرى، وهي “الحياد”، حتى أصبح كل الخصوم يجتمعون على أرضه، حتى أصبح المحايد المستفيد دائمًا.
لكن السلطان قابوس ليس محايدًا كما يبدو، فبعد ساعات فقط من إعلان السعودية والإمارات والبحرين قطع العلاقات مع قطر، كان وزير الخارجية العُماني بقطر في زيارة غير مُعلنةقالت عنها الخارجية العُمانية – لكي لا تُغضب السعودية وحلفاؤها – إنها ضمن ترتيبات الوزير قبل قطع العلاقات.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه إيران فتح خطوطها الجوية لكسر الحظر الجوي أمام الطائرات القطرية، سارعت عُمان لفتح خطين ملاحيين تابعين لها بين ميناء حمد ومينائي صحار وصلالة لكسر الحظر البحري.
ورغم أن السعودية والإمارات لم تقطع أي منهما علاقتها بعُمان، فإن مبررات مسقط للانحياز نحو قطر تبدو واضحة؛ فعُمان في نظر السعودية ارتكبت أخطاءً ربما أكثر من الدوحة؛ فهي رفضت علانية إنشاء الاتحاد الخليجي، وألمحت بصورة غير مباشرة إلى إمكانية خروجها من مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى اعتذارها عن استضافة القمة.
حمل قرار مسقط بالانضمام للتحالف الإسلامي العسكري لمواجهة الإرهاب أكثر من دلالة، أهمها استعداد عُمان لتحوُّل سياسي وعسكري واقتصادي نحو الغرب
كما أن السلطان قابوس لم يحضر ردًا على تجاهل الملك سلمان له خلال الجولة الخليجية؛ لذا لم يكن غريبًا أن تدعم عُمان قطر؛ لأنّها تدرك أنه من الممكن أن يتكرر السيناريو عليها، وحتى الآن فمسقط باتت غير قادرة على الاستغناء اقتصاديًا عن طهران، في الوقت الذي يغيب سلطانها عن حضور القمم الخليجية منذ عام 2011.
هكذا اتخذت سلطنة عُمان الحياد شعارًا لها في مواقفها الرسمية، لكن خُطواتها الفعلية كانت أبعد من ذلك بكثير، ففي خطوة غير متوقعة للدولة التي انسحبتْ في السابق بطريقة حيادية مُبررة، جاء قرار مسقط بالانضمام لتحالف الرياض الذي يحمل اسم “التحالف الإسلامي العسكري لمواجهة الإرهاب”، ليحمل أكثر من دلالة، أهمها استعداد عُمان لتحوُّل سياسي وعسكري واقتصادي نحو الغرب، وأن السعودية أصبح لها اليد العليا في المنطقة.
ومع ذلك، ترى الكاتبتان دينا إسفندياري الباحثة والزميلة بمركز دراسات العلوم والأمن بقسم الدراسات الحربية في كلية كينجز كوليدج لندن، وآرياني طباطباي المتخصصة بالدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون، في مقال بمجلة “فورين أفيرز” الأمريكية، أن التحرك الأخير لا يمثل تغيرًا في الموقف السياسي العُماني، بل هو في الحقيقة استمرار لإستراتيجية مسقط التي تتبعها منذ سنوات طويلة في الموازنة بين السعودية وإيران.
وفي الواقع تستفيد عُمان كثيرًا من علاقتها القوية بإيران، فمن ناحية تؤمن بذلك حركة مرور السفن في مضيق هرمز الذي تشترك فيه مع إيران، ويمر منه 40% من نفط العالم الذي ينقل عبر البحر، وتؤمن كذلك مصالحها في حقول الغاز الطبيعي المشتركة بينهما.
كانت عمان مركز المفاوضات النووية السرية بين الدبلوماسيين الأمريكيين والإيرانيين
هل ما زال دور الوسيط الدبلوماسي للسلطان ميزة؟
بالنظر إلى السياسة الأمريكية في عهد أوباما، تقول شخصيات بارزة في إدارة أوباما بمن فيهم وزير الخارجية جون كيري، إن عددًا قليلاً فقط من الأشخاص سهلوا أهداف أمريكا في الشرق الأوسط خلال فترة ولايتهم أكثر من السلطان قابوس والمقربين منه، فبعد مرور أسابيع قليلة على بدء الولاية الأولى للرئيس أوباما، زار مبعوثو السلطان واشنطن وقالوا إنهم سيكونون بمثابة خط دبلوماسي مع إيران.
وقد ثبُت حسن نية مسقط في أكثر من أزمة، ومنها ضمان الإفراج عن ثلاثة من المتجولين الأمريكيين الذين اعتقلتهم أجهزة الأمن الإيرانية عام 2009، كما ساعدت عُمان على تأمين عودة الأمريكيين المحتجزين من المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، فضلاً عن كونها مركز المفاوضات النووية السرية بين الدبلوماسيين الأمريكيين والإيرانيين ابتداءً من منتصف عام 2012.
أما في عهد ترامب، ربما لم يعد الدور السابق للسلطان قابوس كباني جسور مع طهران ميزة، فتلك الصيغة لم تعد مقبولة لدى المُفاوض الأمريكي بعدما غادر أوباما وحل محله ترامب في البيت الأبيض، بسياسة خارجية جديدة قائمة على التشدد مع طهران، ورفض فكرة التفاوض مع الطرف الإيراني، وإطلاق وعوده تجاه كُل من يتعامل معه.
وفي هذا السياق، قال مسؤول أمريكي رفيع المستوى: “يتمّ إجبار الدول الخليجية بشكل متزايد على الانحياز إلى طرف ما في النزاع السعودي – الإيراني”، مضيفًا أن “سلطنة عُمان لا تُستثنى من ذلك” ـ فعلى سبيل المثال، فرضت الرياض والإمارات حصارًا اقتصاديًا على قطر في العام الماضي، وعاد ذلك جزئيًا إلى العلاقات الودية التي تجمع هذه الأخيرة بطهران.
في الوقت الذي كانت عُمان فيه تحصل على أفضل المعدات العسكرية من الغرب، كانت تتجه شرقًا بحثًا عن انطلاقة اقتصادية مع إيران والهند
وفي الأشهر الأخيرة، كانت كل من الرياض ودولة الإمارات وواشنطن تضغط على مسقط لوقف تدفق الأسلحة الإيرانية التي يُزعم أنه يتمّ تهريبها إلى الحوثيين عبر أراضي عُمان ومياهها الساحلية، وعليه، فقد نفى المسؤولون العُمانيون جميع هذه الاتهامات، حيث صرح وزير الخارجية يوسف بن علوي لصحيفة “عكاظ” اليومية السعودية في أكتوبر/تشرين الأول قائلاً: “الأسلحة لا تمر عبر حدودنا”.
انعكاسات هذا التحول الأمريكي في النظر لدور عُمان كبانية للجسور وقناة دبلوماسية خلفية ترتب عليه بالتبعية تحريض سعودي إماراتي بشكل صامت تمثل في عدم إدراج عُمان في أي زيارة خارجية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال العامين الأخيرين، فضلًا عن توتر ملموس بين الإمارات وعُمان تمثل في النزاع بينهما في المسألة اليمنية، خصوصًا أن هذا النزاع جاء بعدما كشفت عُمان شبكة من الجواسيس تعمل لصالح الإمارات العربية المتحدة، وكانت مهامها تتمثل في التجسس على الحكومة والجيش العُماني.
يُرجح أيضًا من احتمالية استمرار علاقة عُمان مع إيران، ورهانها على البقاء وسيطًا دائمًا مع طهران في القضايا الإقليمية هو تمسك وزارة الدفاع الأمريكية بوجهة النظر القائمة على الحوار والتفاوض، وليس الحرب المفتوحة؛ مما يعزز استمرار هذه الصيغة التي أسستها السلطنة كقناة دبلوماسية خفية تروج لها دومًا في المحافل الدبلوماسية.
هكذا انحاز السلطان الهادئ للجميع، بدليل أنه حصل على مكاسب متساوية؛ ففي الوقت الذي كانت عُمان فيه تحصل على أفضل المعدات العسكرية من الغرب، كانت تتجه شرقًا بحثًا عن انطلاقة اقتصادية مع إيران والهند، وهي لم تنس سياسة الحياد التي نجحت في إجادتها، فهي الدولة الوحيدة التي تجمع إيران وواشنطن، كما تقوم بتدريبات عسكرية مع طهران والسعودية، لذلك فإن قابوس يدرك أنه ترك إرثًا ثقيلًا لخليفته الذي لم يظهر بعد؛ لأن سياسة “الحياد” التي أجادها طوال 47 عامًا ربما لن ينجح فيها خليفته الذي أصبح سرًا يُقلق الجميع.