ترجمة وتحرير: نون بوست
لسوء الحظ؛ تُعد صحيفة نيويورك تايمز، بلا شك، واحدة من أهم وسائل الإعلام الأمريكية التي تغطي أخبار إسرائيل وفلسطين، وتستمر تأثيراتها في الزيادة. أما الصحف الأمريكية الإقليمية، فتشهد حالة من الركود أو الانكماش حيث أغلقت العديد منها مكاتبها الإخبارية في الشرق الأوسط منذ فترة طويلة.
وتستمر وسائل الإعلام الإخبارية عبر سلسلة قنوات الكيبل الأمريكية في محاولة السير على نهج صحيفة نيويورك تايمز، وإن كان ذلك بشكل متواضع، مع وجود استثناءات ملحوظة لبعض الصحفيين مثل أيمن محيي الدين وعلي فيلشي في قناة إم إس إن بي سي.
لذلك، فقد حان الوقت لإجراء تحليل مُفصل ومُحدّث للتحيز المستمر في تغطية صحيفة نيويورك تايمز. لنبدأ بالنظر في تقريرها الصادر في 30 آب/ أغسطس حول تفشي مرض شلل الأطفال في غزة؛ حيث ويبدأ التقرير بـ: “لطالما تداخلت آثار الحرب والمرض بشكل مأساوي منذ أن بدأ البشر المواجهة في ساحات المعارك. وفي قطاع غزة، يلاحق مرض شلل الأطفال الآن سكان القطاع، الذين عاشوا لما يقرب من 11 شهرًا في حالة من الفرار المستمر من القصف المتواصل”.
لاحظ كيف يتم التركيز على “شلل الأطفال” – وليس الجيش الإسرائيلي القاتل – باعتباره القوة التي “تطارد السكان”. بل إن بداية الجملة أكثر إشكالية: “لطالما تداخلت آثار الحرب والمرض بشكل مأساوي منذ أن بدأ البشر المواجهة في ساحات المعارك…”؛ فلا يُشار في هذا السياق إلى التدمير المتعمد الذي قام به الجيش الإسرائيلي لنظام الرعاية الصحية في غزة على مدى ما يقرب من سنة، ولا يُذكر كيف أن الجيش الإسرائيلي قد عمد إلى حرمان المدنيين من الغذاء والماء، مما أدى بالتأكيد إلى تقليص قدرتهم على مقاومة الأمراض. ويتضمن التقرير لاحقًا بعض الانتقادات المبطنة للإجراءات الإسرائيلية، رغم أنه لا يقدم أي تفسير حول سبب استغراق الأمر ستة أسابيع بعد اكتشاف المرض لتنفيذ وقف قصير لإطلاق النار من أجل استئناف حملات التطعيم.
لقد تم تحديد نغمة التقرير منذ الجملة الأولى: إن تفشي شلل الأطفال في غزة على هو بشكل أو بآخر كارثة طبيعية لا يلام عليها أحد.
دعونا ننتقل الآن إلى كيفية تغطية صحيفة نيويورك تايمز للهجوم العسكري الإسرائيلي الضخم المستمر في الضفة الغربية المحتلة في فلسطين، والذي بدأ في 28 آب/ أغسطس. وكان أحد التقارير الأولى التي نشرتها الصحيفة يمكن أن يُعتبر مثيرًا للسخرية لولا كونه مأساويًا للغاية، وهذا العنوان الرئيسي للتقرير هو:
من أين نبدأ؟ أولاً: من هم الذين قُتلوا؟ هل هم جنود إسرائيليون، مقاتلو المقاومة الفلسطينية، أم مدنيون فلسطينيون؟ يبدو أن كاتب العنوان في صحيفة نيويورك تايمز قد تعمد إخفاء تفاصيل من قتل من. وبعد ذلك، ماذا تعني كلمة “وسط” في هذا السياق؟ وهل تعني أن هذه الوفيات (غير المحددة) كانت نتيجة لحوادث عارضة؟ وأخيرًا، لماذا تم حذف عبارة “الضفة الغربية المحتلة في فلسطين”؟
وإليك عنوانًا دقيقًا، باستخدام نفس عدد الكلمات: “إسرائيل تقوم باجتياح الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة وتؤدي إلى مقتل 10 فلسطينيين. وقد يكون الضحايا من المدنيين”.
وبعد ذلك، استخدم باتريك كينغسلي، مدير مكتب الصحيفة في القدس، الهجوم الإسرائيلي على الضفة الغربية كجزء من تحليل طويل يبدو إما أنه غير كفء بشكل جسيم أو أنه يتضمن معلومات مضللة عمدًا. ويشير كينغسلي إلى أن الهجوم الإسرائيلي الكبير يُضاف إلى الصراع الحالي في غزة، وكذلك إلى الاشتباكات على حدود إسرائيل الشمالية مع حزب الله، غير أن الحقيقة المذهلة هي أن اسم “بنيامين نتنياهو” لم يظهر سوى مرة واحدة فقط في تقريره، وبطريقة عابرة.
في الوقت نفسه، يجادل العديد من النقاد، سواء في إسرائيل أو في أماكن أخرى، بأن نتنياهو يسعى فعليًا إلى إثارة حرب أوسع نطاقًا من أجل جذب انتباه الولايات المتحدة وصرف الأنظار عن إخفاقاته السياسية. وإحدى وجهات النظر تشير إلى أن نتنياهو قد حاول التحريض على شن هجوم أمريكي على إيران خلال العقد الماضي، وذلك للحد من تهديدها النووي المتزايد المزعوم. وفي الآونة الأخيرة، لم يتردد المعلقون الإسرائيليون في الإشارة إلى أن نتنياهو يخشى أن تؤدي نهاية الصراعات الحالية إلى تصفية حسابات سياسية، مما قد يتسبب في خسارته هو وائتلافه اليميني المتطرف في الانتخابات المقبلة وبدء (محاكمته) بتهم الفساد. (ويُشار إلى أن إسرائيل قد سجنت بالفعل رؤساء وزراء مدانين في قضايا فساد).
إن إخفاق باتريك كينغسلي في هذا المقال يُعتبر أحدث مثال على كيفية قيام صحيفة نيويورك تايمز بتبييض أو تقليل أهمية الانتقادات الحادة لبنيامين نتنياهو التي تُوجه داخل إسرائيل. وهذا يُفسر لماذا قد يُفاجأ قراء الصحيفة، بل يُصابون بالذهول، من رد الفعل في إسرائيل على خبر العثور على ستة رهائن قتلى في غزة يوم أمس. فقد شهدت شوارع تل أبيب تجمع مئات الآلاف من المتظاهرين المناهضين لنتنياهو، كما نفذ اتحاد العمال في البلاد إضرابًا عامًا احتجاجًا على الوضع.
وفي الأيام الأخيرة، بدأت صحيفة نيويورك تايمز أخيرًا تعترف بشكل غير مريح بعدم قدرة الصحيفة على تجاهل عدم شعبية نتنياهو. ومع ذلك؛ وخلال معظم فترة الصراع، الذي يوشك الآن على دخول شهره الثاني عشر، كانت الصحيفة تأخذ تصريحات نتنياهو على محمل الجد بشكل ظاهري، وتترك تأكيداته غير الدقيقة دون أن تتحداها.
إليكم المفاجأة الأخيرة، في 20 آب/ أغسطس، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالًا مطولًا بقلم ليندا كينستلر بعنوان: “الصراع المرير حول معنى ‘الإبادة الجماعية'”. كان المقال، الذي نُشر في مجلة الأحد، تاريخيًا إلى حد كبير، حيث استشهد بأمثلة سابقة مثل صربيا/البوسنة ورواندا والخمير الحمر الكمبوديين. ومع ذلك، كان المقال بالكاد يلتفت إلى الوضع في إسرائيل وغزة، متجنبًا بشكل شبه كامل تناول الأحداث الجارية هناك.
غير أن هناك إغفال مذهل؛ حيث يعتبر عمر بارتوف، وهو إسرائيلي المولد وأستاذ في جامعة براون، بلا شك واحدًا من أبرز المرجعيات الأكاديمية الرائدة في العالم في مجال دراسة الإبادة الجماعية. لقد كتب 11 كتابًا حول هذا الموضوع، بالإضافة إلى عدد لا يُحصى من المقالات. والأكثر من ذلك، أن عمر بارتوف أصبح صريحًا بشكل متزايد بشأن ما يشهده في إسرائيل. وهذا هو العنوان الرئيسي لمساهمته الأخيرة في صحيفة الغارديان البريطانية: “بصفتي جنديًا سابقًا في الجيش الإسرائيلي ومؤرخًا للإبادة الجماعية، شعرت بانزعاج عميق من زيارتي الأخيرة لإسرائيل”.
ولم يُذكر البروفيسور عمر بارتوف في أي مكان في مقال صحيفة نيويورك تايمز، ولم يُقتبس منه أو يُستشهد به. إن هذا يعد بمثابة تجاهل لأحد أبرز المفكرين في مجال الإبادة الجماعية، وهو ما يمكن مقارنته بكتابة مقال عن النظرية النسبية دون الإشارة إلى ألبرت أينشتاين؛ فما هو العذر المحتمل لهذا الخطأ الصحفي الكبير؟
المصدر: موندويس