في ظل تواتر الحديث عن السيناريوهات التي تنتظر محافظة إدلب، كآخر محافظة سورية تقع تحت سيطرة المعارضة السورية، قدمت تركيا في 22 من يوليو/تموز، إلى روسيا ورقة أسمتها “الورقة البيضاء” بشأن الحل النهائي في إدلب ومحيطها الذي يُطلق عليه اسم منطقة خفض التصعيد الرابعة.
وتضمنت الورقة المذكورة التي جاءت قبل مؤتمر آستانة 10، إعادة التيار الكهربائي والمياه وعودة المرافق الخدمية، وفتح طريق حلب ـ دمشق، وإزالة السواتر الواقعة في الطريق الواصل بين منطقة دارة عزة وحلب الجديدة، وتُرسخ هذه النقطة توجه تركيا نحو مخاطبة ود روسيا الراغبة في إعادة تفعيل الطريق الدولي الرابط لتركيا بالأردن، حيث يعمل هذا الطريق على إعادة تعويم النظام اقتصاديًا، ويُسهل عملية فتح ملف إعادة الإعمار.
كما شملت الورقة دعوة تركيا جميع الفصائل والهيئات في مناطق سيطرة المعارضة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام والائتلاف الوطني السوري والحكومة المؤقتة، إلى مؤتمر عام يُعقد في أنقرة لمناقشة مستقبل إدلب، وتؤسس هذه النقطة لسيناريو تركيا في محاولتها لتعويم هيئة تحرير الشام، بما يجعله، أو يجعل تيارها المعتدل، معومًا ضمن هيئات إدارية قد تحظى بقبولٍ شعبي ودولي.
فعلى الرغم من جميع الضغوط الدولية التي تعرضت لها تركيا بشأن ملف حفاظها على وجود الهيئة داخل إدلب، فإنها ما زالت تمسك بها، على ما يبدو، كورقة تضغط بها ضد روسيا أو النظام والقوات الإيرانية، في حال أقدموا بالهجوم على إدلب دون التنسيق المُسبق معها.
إدلب تحفظ لتركيا، في حال بقيت تحت سيطرتها غير المباشرة، ورقة ضغط ضد الأطراف الأخرى
ووفقًا لما أشارت إليه صحيفة الشرق الأوسط، فإن المصادر المُطلعة شددت على أن تركيا ستطلب من الجميع تسليمها السلاح الثقيل والمتوسط لتخزينه لديها، على أن يتم إعلان تأسيس “الجيش الوطني” من جميع الفصائل المُسلحة، وفي هذه النقطة إشارة واضحة لمحاولة تركيا ترسيخ سيناريو السيطرة غير المباشرة على إدلب، سواء بقيت قوتها العسكرية في إدلب أم خرجت.
إدلب تحفظ لتركيا، في حال بقيت تحت سيطرتها غير المباشرة، ورقة ضغط ضد الأطراف الأخرى، وتكفل لها استمرار نفوذها السياسي والأمني في عملية التسوية النهائية للأزمة السورية، وتأمن الحيلولة دون تقديم روسيا يد العون لكردستان العراق فيما يتعلق بملف تصدير نفطه عبر ممرات بديلة لتركيا أو إيران، ويأخذ بها نحو إمكانية موازنة القوتين الروسية والإيرانية على صعيد استراتيجي، لا سيما في ظل وجود ملامح تغير الموقف الروسي على وجه الخصوص بعد إتمام التسوية، كاحتمال اتجاهه نحو تقديم دعم للدول المنافسة لتركيا، اليونان وقبرص اليونانية ومصر، في حوض شرق البحر المتوسط، حيث حقول الغاز.
وعند الانتقال من قراءة ما بين سطور النقاط الخاصة بالورقة، إلى التمعن في دلالتها، يُلاحظ أن الورقة تعكس طموح تركيا في تثبيت نفوذها، سواء المباشر أم غير المباشر، في إدلب ومحيطها، وما يزيد من رسوخ هذا السيناريو عدة مؤشرات إعلامية وميدانية ظهرت على النحو التالي:
ـ تلويح الرئيس أردوغان بانسحاب بلاده من محادثات الأستانة، في حال لم تُراعى مصالح بلاده في الشمال السوري.
ـ تأكيد الجيش التركي على أن “قواعد الاشتباك” الخاصة بوجوده في إدلب، ستبقى على حالها وفقًا لما ورد في محادثات أستانة، وفيما يمكن تفسير “ستبقى على حالها” على أنها جملة إصرار سياسي على البقاء في إدلب، يمكن تفسيرها على أنها رسالة تحدي لاتخاذ إجراءات وقائية ضد أي تحرك معادٍ.
الملف السوري بات ملفًا روسيًا بحتًا، لذا إذا أرادت كل من ألمانيا وفرنسا تبادل المصالح فعلًا مع تركيا، فإنها قد تضغط على روسيا في سبيل كبح أزمة اللاجئين، والإبقاء على تركيا كموازن للقوتين الروسية والإيرانية
ـ إعلان تركيا أن الحدود مع سوريا “مناطق أمنية” لمدة 15 يومًا، وزيادة الدوريات الأمنية، مع إرسال تعزيزات عسكرية للقوات الموجودة في سوريا، ورفع مستوى تحصين النقاط المنتشرة داخل سوريا.
ـ اتجاه الفصائل السورية نحو إعادة توحيد ذاتها تحت لواء “جيش الفتح” الذي يبلغ قوامه 70 ألف جندي.
ـ إقرار محادثات أستانة 10 ببقاء إدلب تحت السيطرة التركية، بشرط إحكام تركيا سيطرتها على الفصائل الموجودة في ريف اللاذقية، التي تشكل خطرًا إستراتيجيًا ضد القواعد الروسية هناك، لا سيما قاعدة حميميم.
ـ إجراء دورات تدريبية فيما يتعلق بنُظم الحكم المحلي.
ـ التحضير لقمة رباعية تضم تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا.
دلالات القمة الرباعية
تكمن دلالات القمة في الدول المشاركة، وتوقيت القمة، أما فيما يتعلق بالدول المشاركة، فإن وجود تركيا وروسيا في هذه القمة، يأتي في سياق طبيعي نابع عن كونهما دول ضامنة لعملية التسوية في سوريا.
منذ تولي الرئيس الفرنسي الحاليّ إيمانويل ماكرون، وهو يسعى للعب دور حيوي في منطقة الشرق الأوسط، انطلاقًا من مشروع يُسمى “توحيد شطري المتوسط”، الذي يعني بدوره أن تستعيد فرنسا الدور الفاعل في منطقة الشرق الأوسط
أما ألمانيا، فقد أصبحت، بشكلٍ عرفي وضمني، تُمثل رأس الاتحاد الأوروبي، لذلك رغبت أنقرة بضمها للقمة، لتشكل قوة دبلوماسية داعمة بحزم للرؤية التركية بشأن ضرورة التوصل إلى تسوية بعيدًا عن الصدام المباشر الذي قد يؤدي إلى أزمة للاجئين جديدة عارمة، لا سيما في ظل وجود رغبة دولية لحل أزمة اللاجئين الموجودة أصلًا، بعيدًا عن خلق أزمات جديدة.
أيضًا، يربط ألمانيا الكثير من العلاقات الاقتصادية الوثيقة بروسيا، حيث تُعد شريكها الثاني اقتصاديًا، وهو ما دفع تركيا، على الأرجح، لأن ترى فيها أداة ضغط ممكنة على روسيا.
بخصوص فرنسا، منذ تولي الرئيس الفرنسي الحاليّ إيمانويل ماكرون، وهو يسعى للعب دور حيوي في منطقة الشرق الأوسط، انطلاقًا من مشروع يُسمى “توحيد شطري المتوسط”، الذي يعني بدوره أن تستعيد فرنسا الدور الفاعل في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في المناطق الموازية للاتحاد الأوروبي من جهة المتوسط كسوريا ولبنان وليبيا.
كما أنه يتسم بالفكر الليبرالي على صعيد السياسة الدولية، ذلك الفكر الذي يعتمد على إنشاء تكتلات سياسية اقتصادية اتحادية، وهذا ما يجعله يتحرك مع جهات محالفة في عدة ملفات، منها الملفين السوري والعراق.
ورأت تركيا في فرنسا دولة مهمة جدًا كونها تحاول استعادة دورها، في ظل غياب أو انعزال، نوعًا ما، الولايات المتحدة، وفي ظل إعلانها استخدام ورقة إعادة الإعمار كأداة ضغط على النظام السوري من أجل إتمام بعض المعادلات السياسية، ولعبها دورًا حيويًا في إيصال المساعدات لعدد من المناطق في سوريا، ومنافستها للتمدد الروسي في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما سوريا وليبيا، فبينهما خلاف إستراتيجي جسيم في سوريا وليبيا وكردستان العراق، كبديل، نوعًا ما، عن الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الملف السوري بات ملفًا روسيًا بحتًا، لذا إذا أرادت كل من ألمانيا وفرنسا تبادل المصالح فعلًا مع تركيا، فإنها قد تضغط على روسيا في سبيل كبح أزمة اللاجئين، والإبقاء على تركيا كموازن للقوتين الروسية والإيرانية، وبالتالي دعم الوجود التركي في إدلب.
وبخصوص التوقيت، فإنه يتزامن مع وجود توجه دولي عام نحو إنهاء ملف الأزمة السورية التي استنزفت الدول ذات العلاقة دون تمكن إحداهم من إحراز تغلب كامل على الأخرى.
في الختام، فإن تركيا أرادت من خلال طرح “الورقة البيضاء” استباق التحركات الإقليمية والدولية، من أجل توجيه رسالة مفادها “لن نخسر بقعة جغرافية تُشكل أهمية إستراتيجية بالنسبة لنا من حيث أمننا القومي، لا سيما في ظل احتمال حدوث أزمة لجوء جديدة، لا سيما في ظل حاجتكم لي”.