تتعمّد “إسرائيل” منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، اتّباع سياسة القتل الممنهج لعائلات بأكملها، فتمسحها من السجل المدني تمامًا، أحيانًا ينجو شخص واحد من المحرقة التي استهدفت العائلة، ليكون شاهدًا على الحكاية بالكامل، وليروي تفاصيل مواجهة الموت من مسافة صفر، واللحظات الأخيرة لكل فرد من العائلة.
نحكي هنا مع ناجون، يُقال إنهم نجوا من الموت لكنهم لا يرون كذلك، ليخبرونا عن عائلاتهم التي أُبيدت بالكامل، وذكرياتهم ما قبل الإبادة وفيها، وعن شعور الناجي الوحيد في حرب طالت الحجر والبشر.
“سامحينا يا بنتي”
الناجية الوحيدة آسية ملكة من حي الزيتون بقطاع غزة، سافرت قبل بدء العدوان الإسرائيلي بشهرين فقط لتخطو أول خطواتها نحو حلمها، ولتلتحق بكلية الطب في مصر، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول. تحققت أمنية العائلة بالفعل وصار والدها يُنادى بـ”أبو الدكتورة”، وبعد أيام قليلة انقلبت الحياة رأسًا على عقب.
لم تستوعب آسية ما جرى في السابع من أكتوبر، تمنت لو أنها لم تغادر غزة وقالت: “ياريت ما طلعت، لو موتت معهم”. في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 قتل الجيش الإسرائيلي عائلتها بالكامل والديها وأشقائها.
تقول آسية لـ”نون بوست”: “قبل استشهادهم بيوم كنت أبكي بشكل جنوني، أشعر بألم لم أعهده من قبل في القلب، حتى أنني لم أستطع الوقوف على قدمي من كثرة البكاء، كان يراودني شعور بأن شيئًا ما سيحصل، لكن لم أتوقع أن أفقد كل العائلة دفعة واحدة”.
في غمرة المشاعر الغريبة التي اجتاحتها أرادت سماع صوت والدتها، فاتصلت اتصالًا دوليًا نظرًا إلى انقطاع شبكة الإنترنت آنذاك: “ردت على المكالمة أمي الحنونة، اطمنت علي أكلتي شربتي والأسئلة المعتادة، بس كنت أبكي كتير لهي بتحكيلي سامحينا يا حبيبتي، وقتها حسيت بإشي ولا عمري حسيته بحياتي ولا رح أحسه، صرت أصرخ واحكيلها على شو أسامحكم، أنتو مخلين حياتي حلوة وأعطت التلفون لأخويا برضو حكالي سامحينا”.
تجزم آسية أن عائلتها كان ينتابها شعور بأن الرحيل عن الدنيا قد أزف، لم يتسع لها الوقت أن تحكي أكثر وتعبّر لهم عن مشاعرها، لتسمع منهم الأحاديث الليلة كما اعتادت، لم يحكوا عن خوفهم ولا عن أي شيء، انقطع الاتصال وللأبد، وبقيت في نوبة البكاء والهلع التي أصابتها حتى اليوم التالي.
كانت ليلتها عصيبة، والقلق ينهش قلبها على مهل، فقررت عدم الولوج لشبكة الإنترنت ومتابعة الأخبار، وستذهب لجلب الهدايا التي أرسلها لها الأهل قبل بدء العدوان، فتضيف: “كنت أود أي شيء من رائحة عائلتي ليطمئنني، لأشعر بهم معي، احتجت أن ألمس كل الهدايا التي وصلتني لعلّ ذلك يهدئ من روعي، لكن كل هذا لم يجدِ نفعًا، جلست في حديقة الجامعة ولأول مرة في حياتي أقرر أن أسمع نغمة هاتفي التي تغني عن الأم كاملة، دبّت رجفة في قلبي، وشعور الخوف يأكلني، فقررت أن أصعد لغرفتي وإذ بي أفاجأ بزميلاتي يقفن أمام الباب”.
“إسرائيل” قتلت كل العائلة
لم يعرفن زميلات آسية كيف يقال للمرء إن بيت عائلتك قد أضحى ركامًا، وكل العائلة الممتدة بالكامل بداخله، وجميعهم تحت الأنقاض ولم ينجُ منهم أحد، فتكمل: “أعطتني زميلتي هاتفها لأقرأ الأخبار، وإذ بخبر “استهداف منزل عائلة ملكة في شارع النديم”، لم أعرف كيف ركضت من الطابق الثالث حتى الأول لأتصل على عائلتي، رنَّ الهاتف، فقلت لزميلاتي: “برن يبقى عايشين”.
ورغم كلمات الطمأنة التي وجهها كل أصدقاء آسية لها، لكنها لم تصدق أيًا منها، شعور يغمرها بأن العائلة كلها قد أُبيدت، فقدت الوعي بالكامل إثر نوبة الهلع التي أصابتها، وحينما استيقظت قالوا لها: “إمك وأبوك وأخواتك وكل حدا كان بالبيت بطلعوا فيهم من تحت الركام، بس عايشين ما تقلقي”.
تكمل لـ”نون بوست”: “لم أصدق أحد، صدقت إحساسي وحده، لم أدرك ما الذي عشته ذاك اليوم بالضبط، أخبروني لاحقًا أن فور كل استيقاظ لي أصرخ وأبكي ثم يتمّ حقني بإبرة مهدئة لأنام، كل هذا عشته ولم يقلها أحد في وجهي صراحة أن كل أهلك قد قتلتهم “إسرائيل”.
عاشت آسية لمدة شهرين بعد استشهاد عائلتها الممتدة المكونة من الأب والأم والأشقاء وزوجة شقيقها وجنينها، والأعمام والعمات وأولادهم، حالة نفسية صعبة للغاية، بقيت شهرين لا تعلم الليل من النهار، لم ترَ ضوء الشمس، تعيش على المسكنات والمهدئات، حتى زارتها والدتها في المنام.
تضيف آسية لـ”نون بوست”: “رأيت وجه أمي الذي أحب في منامي، كانت سعيدة جدًا، تضحك لي، قالت لي: قومي يما يا حبيبتي قومي إنتِ قدها”، استيقظت من نومي أبحث عنها شعرت بها بجانبي، صوتها كان يتردد في أذني، بكيت كثيرًا وقتها وأقسمت أن أحقق حلم الطبيبة الذي تخليت عنه حزنًا وألمًا، سأعود من جديد لأكون جديرة بأم كأمي وأب كأبي، وأفخر بلقب ابنة الشهداء”.
بعد مرور 10 أشهر على حرب الإبادة الجماعية، لم تنسَ آسية وجوه والديها ولا أخوتها، تقلب في صورهم كل ليلة وتظل تحكي عنهم لكل الأصدقاء، “فهذا عبد الرحمن، مريم، خديجة، فاطمة، عائشة، وزوجة شقيقي بتول وجنينها”. وها هي الآن تعيش في القاهرة لتكمل دراستها.
تنهي حديثها لـ”نون بوست” بالقول: “هضل أحارب لآخر نفس، أنا بنت الشهدا وأخت الشهدا، ما كان في نفس أدرس لكن مع هيك مرضت وكملت، هصير دكتورة عشانك يابا، ويا إمي لو راحت كل الدنيا وضليتك معي أنتِ بس”.
وحسب صحفية “صنداي تايمز”، فإن “إسرائيل” قتلت 3 أجيال من العائلة الواحدة بغزة وذلك في وقت وجيز، وأن عائلات كاملة تباد وتمسح من السجل المدني جراء حرب الإبادة الجماعية منذ السابع من أكتوبر.
في حين قال رئيس لجنة التوثيق والمتابعة بالدفاع المدني في غزة محمد المغير: “إن الدفاع المدني وثّق إزالة أكثر من 500 أسرة بشكل كامل من السجل المدني، بسبب تعمد الاحتلال استهدافهم بشكل مباشر، ولا تزال عملية توثيق العائلات التي اُستشهد كافة أفرادها مستمرة رغم فقدان 20% منها بسبب القصف والنزوح، واستهداف طواقم الدفاع المدني”.
ناجي من تحت الركام
أما المصور الصحافي فراس الشاعر فقصف الجيش الإسرائيلي منزله القابع في رفح على رأس العائلة كلها المكونة من الوالدين والخالة والأخوين والأختين، وأطفال أخته الثلاثة، وجميعهم كانوا في الطابق السفلي نائمين وهو لوحده في الطابق الرابع، كان معتادًا أن ينام على سطح المنزل حتى إن حدث قصف قريب يغطي الحدث ويلتقط الصور، لكن تلك الليلة كانت طائرات الاستطلاع قريبة بشكل مخيف، فقرر المبيت في شقته، وإخفاء معدّاته الصحافية تحت الأغطية الشتوية الثقيلة على غير عادته.
في 20 أكتوبر/ تشرين الأول، وبعد الساعة الـ 12 ليلًا بقليل، شعر فراس بأن الأرض تهتز تحته، فوقع من الدور الرابع للأسفل وانطبقت الأسقف عليه، ظنَّ في البداية أنه كابوس من كوابيسه الليلية المعتادة.
يقول لـ”نون بوست”: “أسبوعان من تغطية العدوان وتصوير المجازر كانا كفيلَين بجعلي أحلم بكوابيس كل ليلة، فظننت في بداية القصف أنه حلم، لكن عندما تحركت ولم أستطع أدركت أن الانفجار كان داخل بيتنا، حاولت إنقاذ نفسي لكن لم أفلح، لم أستطع التنفس أبدًا، وكنت على يقين بحكم عملي، أن طواقم الدفاع المدني لن تستطع إخراجي من تحت الركام، وحتى إن وصلت ستصل متأخرة وسأكون قد استشهدت، فظللت أنطق الشهادتين، حتى سمعت صوتًا من بعيد ينادي، فصرخت بأعلى صوتي حتى وجدوني، وبدأت عملية الحفر بأدوات بسيطة لإنقاذي”.
لطالما ظنت العائلة أن فراس سيقضي شهيدًا في الحرب، لكن في الواقع لم يحدث ذلك، الكل استشهد إلا هو، يكمل: “كانت والدتي تمنعني من الخروج لتصوير المجازر التي تحدث في رفح وخصوصًا في الليل، قائلة: “بدي أياكِ عايش بديش تموت”، وكذلك أخوتي، أما أبي كان يخبرهم: “وشو يعني بصير أبو الشهيد ونيالي”، وأنا كنت دائمًا أظن أنني الأول في الرحيل من أهلي، ولم أتخيل أبدًا أن يسبقوني هم للشهادة”.
أما عن لحظة تلقيه خبر فقدان العائلة، في البداية قالوا له إن والديه حيَّين، فقال: “الحمدلله”، لكن سرعان ما جاء زميل لفراس يناوله سبحة والده التي كانت بيديه عند استشهاده، وأخبره أن كل من في البيت استشهدوا، ثم طُلب منه التعرُّف على سيدة ترتدي ملابس صلاة، فقال: “أعتقد خالتي، أمي لم ترتدي رداء الصلاة وقت النوم”.
ونظرًا إلى إصابته صوروها له، فشاهدها، فردَّ: “هذه الغالية أمي التي كان دعاؤها اللهمَّ استرني فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك.. فأجاب الله دعاؤها واستشهدت بالشكل الذي تحب”.
يكمل: “لم تكن جثث عائلتي غير قابلة للتعرّف، كلهم كانوا بكامل أجسادهم، ما عدا أمي وأبي كان جسداهما مفتتَين قليلًا لكن الوجه ظاهرًا إلى حدّ ما، دفنتهم بيدي كلهم في قبر منفصل في مقبرة رفح، والآن بعد اجتياح المدينة لا أعلم أن بقيت القبور على حالها أم تم نبشها وسرقة الجثث”.
الكل قُتل وبقيَ الشقيق
ماذا عن الموقف الأخير مع الوالدة؟ يجيب فراس لـ”نون بوست”: “أخبرتني قبل استشهادها بساعات أنها تشتاق لابني محمد، فوعدتها أن أجلبه لها الليلة مع زوجتي القاطنة عند بيت أهلها، لكني انشغلت بتغطية مجزرة عائلة ظهير، وذهبت للبيت متأخرًا، فقلت لأمي سأجلبه في صباح الغد، لكن الصباح لم يأتِ علينا، وحينما أجلس مع نفسي وأفكر وأقول ماذا لو كانت زوجتي الحامل وابني في البيت، هل كانوا سيستشهدون مع كل العائلة وأخسرهم جميعهم؟”.
أما عن والده فيخبرنا أنه كان صديقه الصدوق والأول، فيقول بتنهيدة عميقة حملت بداخلها ألمًا كبيرًا: “آخ شو بدي أحكي عن الحج.. خسارتي كبيرة كتير في أبوي”.
فقدَ فراس لبنى وأطفالها وبلال وإسماعيل ولمى وأشقائه، فكان فقدهم بمثابة صدمة عظيمة، فكان عوضه شقيقه الناجي الذي كان لحظة قصف المنزل في بيت عمه، لكنه أُصيب أيضًا في قصف منفصل.
يكمل: “شقيقي الناجي والباقي لي من الأهل، أصيب إصابة خطيرة وبقي بالمشفى لمدة طويلة، ولم أخبره باستشهاد الأهل إلا بعد مرور أكثر من شهر، وقد أخبرته الخبر بالتدريج حتى لا يؤدي ذلك إلى تراجع حالته الصحية”.
يختم بالقول: “كتير كنت أتخيل وأنا بصور بالمشفى الشهداء وأهاليهم.. أهلي داخلين عليا شهدا ومصابين، كان عندي هاجس كبير أنه ممكن بيوم وأنا أشتغل يصير مجزرة بالبيت، بكل طلعة على الشغل كنت ألفّ وجهي على البيت اطلع فيه وحاسس أنه هينقصف، وبعد مجزرة بيتنا بضل أقول ياريت استشهدت معهم أهون عليا من اللي عشته”.
من الجدير ذكره أنه لا توجد إحصائية دقيقة جدًا للعائلات التي أبيدت بالكامل بسبب تواصل العدوان الإسرائيلي، ويوميًا ترتكب “إسرائيل” المجازر بحق الغزيين، وما زال العديد من العائلات والشهداء في عداد المفقودين، فقد بلغ عددهم أكثر من 13 ألف مفقود، بينما وصل عدد الشهداء والجرحي إلى 40 ألفًا و861 شهيدًا و 94 ألفًا و398 جريحًا.