أعادت عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول القضية الفلسطينية إلى بؤرة الضوء وأعطتها زخمًا عالميًا، بالتزامن مع مفاجأة المقاومة في عمليتها، وهول الإبادة في وحشيتها، لكن التعاطف ظل دائمًا بحاجة إلى قاعدة يستند عليها وتمنحه المزيد من الدعم للمواصلة والتكاثف، هذه القاعدة هي السردية الفلسطينية التي تخوض صراعها في ساحات العقول والتاريخ من منطلقات مختلفة، كالحق والباطل، والمهزوم والمنتصر، والحضارة والهمجية.
ورغم أن منطلق السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان تحقيق الفعل وتحرك الميدان دون إيلاء كثيرٍ من الاهتمام للسردية، لا سيما أن أصحاب الصواريخ والأنفاق والأشرعة متفقون فيما بينهم على سردية واحدة، منطلقون منها دون اكتراث بالغ لما قد يتبناه الآخرون من سرديات، فإن أول ما استدعته مفاجأة المقاومة هو “فلسطين من النهر إلى البحر” كسرديةٍ أسقطت سهوًا أو قهرًا من قصة فلسطين على يد أوسلو قبل 30 عامًا.
في المقابل كانت سردية الضحية التي أعادت دولة الاحتلال إلى مربع استعمارها الأول، في مواجهة نفسها أولًا وفنائها المتجدد، رغم تبجح قادتها قبل أسابيع فقط من أن “قوتها وحدها” كانت السبب في إخضاع العرب من حولها لتطبيع بلا ثمن سوى التطبيع نفسه والمصافحات والاستباحة الإسرائيلية للأراضي والدول العربية.
وعلى مدى 11 شهرًا منذ بداية الحرب تقلبت سردية كل طرف على وقع ما يجري في الميدان وكواليسه، بل وتشظت لتغدو لكل طرف سردياته المتداخلة والمتنوعة التي يعيد استخدامها وتأكيدها أمام كل منعطف أو زاوية للتأكيد على موقفه ودوافعه وأحقيته فيما يقوم به.
ومن هذه الفسيفساء تنطلق السطور التالية في بحثها عن سردية كل طرف للسابع من أكتوبر/تشرين الأول، ومساعيه للسيطرة على الميدان العالمي المصغي للسرديات وفرض روايته في مواجهة الآخر، ومكامن القوة والضعف في كلٍ منهما.
لحظة البداية
رغم أن الفلسطينيين عمومًا يعيدون السردية الفلسطينية إلى النكبة والتهجير الأول عام 1948، فإن منابتها الأولى تعود لبداية الهجرة اليهودية لفلسطين وما ارتبط بها من مخاوف ضياع البلاد وتغير هويتها واستلابها تحت ذرائع القانون والبيع والشراء، نهاية حقبة الإمبراطورية العثمانية ومطلع الانتداب البريطاني.
ونتيجةً للظهور المبكر لهذه السردية فقد احتملت عناصر واضحة من الأرض والإنسان والتاريخ والهوية والمسار، ولكل من هذه العناصر تشكيلاته المختلفة وفقًا لآنية السردية وحالتها، فالأرض الفلسطينية تبدأ من الأرض الأم، ثم الأرض المفقودة، ثم الأرض المصادرة والمقسمة ما بين النكسة والاستيطان والتهويد، وتتخذ إحالات مختلفة مع كل ظرف، فالخيمة أرض، والشتات أرض، والسجون أرض كذلك.
أما الإنسان فتشكل أيضًا بتعدد كثيف ما بين المهجّر اللاجئ والمهجّر النازح والمقاوم والمطارد والجريح والأسير، يعكس ذلك أيضًا تنوع وجوده في الأدب الفلسطيني فقد يكون فردًا كما في “المتشائل” و”الطنطورية” و”عائد إلى حيفا”، وقد يكون جماعة كما في “رجال في الشمس” و”زمن الخيول البيضاء” و”المشوهون”، وقد يكون أرضًا وبلدةً ومدينة كما في “أرض البرتقال الحزين” و”باب الشمس”.
يُلازم التنوع أيضًا مفهوم التاريخ الذي يحمل لكل حقبة من الحقب ملامحه الخاصة، وكثيرًا ما تحبذ السردية الفلسطينية تحقيق مقاربات بين الحقب كالتوأمة ما بين النكبة والإبادة، أو حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وعملية طوفان الأقصى 2023، في تأكيد على أن التاريخ يعيد نفسه ولو بأشكالٍ أكثر تطورًا.
على صعيد الهوية فهناك التباس قوي يتداخل مع التاريخ ومع ادعاءات الصهيونية بغياب كيان إداري يحكم الفلسطينيين كشعب، وهو ما يبررون به اعتبار الفلسطينيين بمرتبة أقل من المفهوم السسيولوجي لمعنى “شعب”، رغم ذلك يجد الفلسطينيون في هويتهم روابط دينية (متعددة) وقومية عربية، فيما يعتبرونها نقاط قوة في سرديتهم.
بينما يعبّر المسار عن جسر العبور الذي اختاره الفلسطينيون لتجاوز مرحلةٍ ما في وجودهم، ويتراوح ما بين المسار السياسي والمسار الشعبي والمسار المقاوم، ولكل مسار كبوته وتألقه وبدايته ونهايته التي حتى الآن تتجاوز قدرة الفلسطينيين على السيطرة على نتائجه.
هذه العناصر المجتمعة كونت السردية الفلسطينية وتم استعارتها وفق ما يتناسب مع الظرف الخاص والعام للإشارة إلى فلسطين كقضية أو إشكالية أو حالة تحرر على المستوى الفردي والجمعي، لكنها بقيت محصورة في الفلسطينيين وعالمهم العربي والمتضامنين التاريخيين معهم.
نقطة التحول الكبرى في السردية الفلسطينية جاءت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وحملت أوجهًا عدة؛ أولًا بوجودها كمضاد للسردية اليهودية، وثانيًا بأنسنتها العميقة لمعالم الحياة غير الاعتيادية تحت الإبادة، وهذه النقطة تحديدًا كسرت الطوق حول السردية الفلسطينية وحولتها إلى حالة دولية وأممية عابرة للشعوب والقارات.
لحظة الانعتاق
إن القوة الحقيقية لعملية طوفان الأقصى لا تُقاس من منطلق عسكري ولا سياسي، إنما تقاس بإعادة ترتيب السردية الفلسطينية داخليًا وما ترتب على ذلك لاحقًا من عولمةٍ لها، وهو الحد الذي ظل الفلسطينيون عاجزين لعقود عن الوصول إليه، انطلاقًا من التصنيفات الدولية التي تستثنيهم من أي اهتمام قد يشد دول العالم الأول، فهم عرب ومسلمون ومن الشرق الأوسط الذي يعج بالاضطراب والفقر والفساد، وتربطهم علاقات وتعاطف مع كيانات مرفوضة دوليًا وتدور حولها حكايات الإرهاب وتجارة السلاح وتغيب عنها حقوق مجتمعية تحتل المرتبة الأولى في اهتمام الأوروبي.
هذا المزيج من التصنيفات كان كافيًا لإشاحة العالم وجهه عنهم وعن قضيتهم وسرديتهم، في مقابل سردية الإسرائيلي المشابه – إن لم يكن المطابق – للوجه الغربي ببشرته وشعره ولون عيونه ولغته المتعالية وتصنيفاته الأكاديمية والعلمية المتقدمة وديمقراطيته المتجددة وعلاقات التوأمة والوصولية التي تجمعه بالغرب ككل.
تحررت السردية الفلسطينية من كل ذلك لتغدو سماتها أكثر وضوحًا في معنى “الإنسان في مواجهة الموت على أرضه”، أما على المستوى الغربي فالتحرر والانعتاق اتخذا شكلًا آخر، هو “إعادة اكتشاف” الآخر للفلسطيني كإنسان يعيش حياته اليومية البسيطة لكنه رغم ذلك مهدد بالموت قصفًا أو قنصًا أو تعذيبًا أو جوعًا أو عطشًا.
في إطار إعادة الاكتشاف الغربي للفلسطيني تصدرت الرواية والأدب الفلسطيني المشهد من جديد، من غسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإدوارد سعيد وناجي العلي، وأعيدت ترجمتها والإشارة إليها بالتزامن مع دخول فاعلين جدد مثل هبة أبو ندى ورفعت العرعير ومريم حجازي وسليم النفار وغيرهم.
إضافة أخرى من السابع من أكتوبر/تشرين الأول للسردية الفلسطينية تمثلت في كسر نمطية الفلسطيني الضحية والفلسطيني الخانع، إلى الفلسطيني المقاتل والشجاع، وهذا الكسر قدمته فيديوهات المقاومة التي أظهرت الفلسطيني عاري القدمين رث الثياب سريع الخطى أمام دبابات الاحتلال وآلياته، قادرًا على الاختراق والإحراق بسرعة ودهشة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الكسر جاء بعد نقلة في الوعي العالمي الذي تفاعل مع السابع من أكتوبر/تشرين الأول من منطلق رافض للفعل الفلسطيني التحرري، سواءً لمصالحه الخاصة أم نتيجة ما فاجأه من انقلاب الفلسطيني الضحية وتمرده وكسره للحدود والحواجز التي اعتبرت مسلمات.
من مكاسب السردية أيضًا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول تبنيها بشكل أوسع من المنظومة الإنسانية الأممية والمنظومة البحثية الغربية، مثل الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ومقرري الأمم المتحدة ألكسندرا زانثاكي، وفريدة شهيد، وكليمنت نياليتسوسي فول، وإيرين خان، أما أبرزهم فهي المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز.
التحرر والمكاسب المستجدة لم تأتِ بناءً على تخطيط فلسطيني أو مأسسة واضحة، وإنما جاءت رد فعل على حجم الإبادة وحاجة الفلسطينيين لإيقافها، من خلال تسليط الضوء على حياتهم وألمهم لدفع المجتمع الدولي لمساندة حقهم في الحياة، وهو ما تجاهله القادة الدوليون على العكس من شعوبهم.
وبالاستعانة بأدوات الإعلام الجديد وبالشحيح من الإمكانيات وبالصدق والإرادة استطاع الفلسطيني أن يعيد رسم سرديته بنفسه، وأن ينزع عن نفسه أنماطًا وأوصافًا ويضيف خلائق ووشائج لم تكن موجودة قبلًا، فأمام الفلسطيني الذي باع أرضه ظهر الفلسطيني الصامد في بيته المتهاوي بفعل القصف، وأمام الجاهل والمتأخر ظهر الأكاديمي والطبيب والإنسان.
حتى في مضمار الهزيمة والنصر تم إعادة نسج السردية الفلسطينية لتصبح المعاناة والألم والصمود نصرًا وصمودًا، وهو الأمر ذاته الذي أكدته مستويات سياسية وعسكرية غربية وإسرائيلية في اعتبار أن “القضاء على المقاومة الفلسطينية” مستحيل وغير ممكن، نتيجة ارتباطها بالفلسطيني نفسه، لا بألوانه الحزبية أو السياسية.
أعيدوا هند، أشعار رفعت، الطبيب عدنان برش، الحاجة هادية، المقاتل الأنيق، الممرضة الشجاعة، وآلاف القصص والصور لأطفال وشيوخ ونساء وشبان تبعث في كل يوم مزيدًا من الحياة في السردية الفلسطينية عالميًا، وتحبس أنفاس الوقت بينما تتكامل السردية الفلسطينية حتى يصل صاحبها إلى خاتمة تليق به.
إعادة استحضار الهولوكوست
ربما تكون العودة للبدايات محفزًا لتصحيح الطريق، أو دافعًا لقوة أكبر، لكنها بالنسبة للاحتلال لم تكن إلا هزيمة نفسية محققة بدأت من لحظة علوٍ كامل وقدرة مكتسحة على التأثير داخليًا وخارجيًا في أكثر من 22 دولة عربية مجاورة، دون أن تستطيع تدارك مقتلتها التي جاءت من خاصرتها الجنوبية.
عادت السردية الإسرائيلية خلال ساعات إلى محطتها الأولى وقلقها المؤكد، لا سيما أن ما جرى حوّلها من مارد إلى فأر بحاجةٍ للكثير من التضامن والطبطبة والاحتضان الدولي والعسكري، وبعد 11 شهرًا والكثير من الإصرار أن “إسرائيل” ليست تابعة لغيرها إلا أن مشهد رئيس وزرائها المنهار على كتف الرئيس الأمريكي بايدن إبان طوفان الأقصى كان موازيًا في الوعي الداخلي لآثار الهولوكوست.
في عمق الرواية كان التضامن والعزاء لحظة انتصار إسرائيلي، لا سيما أن ردود الفعل الدولية تراوحت بين الدعم الصريح والواضح واللامحدود لـ”إسرائيل”، أو مساندتها ودعوتها إلى ضبط النفس، أو المطالبة بحل الدولتين لإنهاء العنف، وجميعها كانت تصب في مصلحة الاحتلال وسعيه لحربٍ انتقامية لا تبقي ولا تذر.
وقد اعتمدت السردية الإسرائيلية تاريخيًا على عناصر عدة، أولها الترابط الثقافي والتاريخي والعرقي مع العالم الغربي، وثانيها تأكيد الحق اليهودي في أرض فلسطين بمزاعم توراتية وانجيلية، وثالثها صورة الدولة المتطورة الديمقراطية المنعمة بالرفاه المعيشي والاقتصادي وسط محيطٍ عربي فاسد وفقير وجاهل، وأخيرًا القوة العسكرية الضاربة التي تثير إعجاب الحلفاء وخوف الأعداء.
وعلى الرغم من أن الترابط مع الغرب يستدعي نفي الارتباط اليهودي مع فلسطين تاريخيًا وثقافيًا وعرقيًا – فكيف يمكن الترابط مع الشرق والغرب في آن واحد؟ – وأن الحق اليهودي في فلسطين مثار جدل بين اليهود أنفسهم، والدولة الديمقراطية قائمة في “يهوديتها” على مبدأ عنصري خالص، فإن العنصر العسكري في السردية بقي ناصع البياض بلا أي خلل تكنولوجي أو أمني.
كان هذا هو واقع الحال حتى “السبت الأسود” حين سقط هذا العنصر لتختل معه بقية العناصر، وتدخل الكيانية الإسرائيلية وما يستتبعها من سردية في أزمة وجودية سعت دوائرها لإهمالها وتجاوزها لعقود، وهو ما عكسته حالة الشتات “الديسابورا” الانفعالي والمجتمعي المتواصل حتى اليوم.
وخلال أسبوعين بعيد السابع من أكتوبر/تشرين الأول انقلبت سردية الاحتلال من الكولونيالية المتغطرسة للاستجداء الكاذب، وحاصرها رعب الفناء دافعًا إياها لفتح النار عن آخرها في وجه الفلسطينيين وارتكاب المجازر تلو المجازر في ظل تلكؤ العالم واكتفائه بالدعوة لـ”ردٍ منضبط”.
هذا الرد المنفلت ترك نتائج دموية بين الفلسطينيين بالغة العمق على كيانهم ومجتمعهم ووعيهم، لكنها في المقابل قلبت صراع السردية لصالحهم وأسقطت السابع من أكتوبر/تشرين الأول من الدافع الشعبي العالمي.
فيما ظل أكتوبر/تشرين الأول حاضرًا في الوعي الإسرائيلي، بآليات الإبادة والتجويع والإعدام والتعذيب، ما دفع الاحتلال لتفعيل منظومة الدعاية “الهسبراة” في محاولة للإبقاء على صور الديمقراطي المتحضر والمقاتل الشرس قويةً أمام خيبة الهزيمة ونكران السقوط.
سردية ملطخة بالدماء
رغم ذلك وجد الإسرائيليون أنفسهم في أزمة سردية، فالتركيز على السابع من أكتوبر/تشرين الأول بوصفهم ضحايا يُظهر ضعفهم وقلة حيلتهم وانكسارهم عسكريًا وأمنيًا ويخرج خوفهم الأبدي في “هشاشة وجودهم” من قمقمه، أما التركيز على فعلتهم العسكرية فيظهرهم وحوشًا جزارين ويتنافى مع مفاهيم “الحضارة في مواجهة بربرية الفلسطيني”.
أزمة أخرى تمثلت في غياب الزخم الإعلامي المنافس واقتصار مواده على التعبئة العسكرية التي تجاوزت الإنساني لتغدو مواد إعلامية توثق المجازر والإعدام وحرق البيوت والتفاخر بالقتل، وهو ما دفع منظومة الهسبراة للتراجع عن اعتماد المواد البصرية والتركيز على البيانات الرسمية والتقارير الإعلامية الموجهة وتجاهل وجود الفلسطيني.
ونتيجة لذلك وبالتزامن مع تراكم الكذب في عدة شهادات عن السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والانكشاف الفاضح للمنظومة السياسية والإعلامية الغربية الداعمة للاحتلال والمرتكزة على أمنه بوصفه نقطة مراقبة غربية في بحر ثروات عربي، سقطت سردية الاحتلال في مواجهة شهادة الفلسطيني وحياته اليومية.
بل أصبح من العسير الدفاع عن السردية الإسرائيلية دون التلطخ بإجرامها وإبادتها الجماعية، وهو ما دفع المتعاطفين معها للانكفاء على أنفسهم والتوجه إلى التأثير في أباطرة المال والإعلام والتكنولوجيا والسياسة، باعتبارهم مفاتيح للتحكم بالتوجه الشعبي الدولي وتوجيهه أو تجريمه.
وخلال الأشهر الأخيرة تضاعفت الأزمة لتصل إلى النخاع الإسرائيلي، حين أصبح من عناصر السردية المضادة تغليب المصلحة على الروح الإنسانية أو الإسرائيلية، وهو عنصر فرضه الحراك الشعبي الإسرائيلي الداعي إلى صفقة تنقذ رهائنهم من يد المقاومة، مع تصريحهم بإمكانية مواصلة الحرب بعدها دون اعتراض.
تلتبس الرؤية أكثر حين يغدو هدف مواصلة الحرب أولى من الروح الإسرائيلية حينًا، وهدف تحرير بضعة رهائن أولى من أرواح أكثر من 80 فلسطينيًا، وهو ما جعل كُلًا من عقيدة هنيبعل وعقيدة الأرض المحروقة عنصرين يضافان إلى السردية الإسرائيلية ويعملان على إسقاطها.
هذه الأزمات والعناصر الانتحارية في السردية الإسرائيلية التي تؤسس لها وتنفيها في الوقت نفسه ارتدت سريعًا على السرديات الغربية، بدءًا من السردية الأوكرانية وحتى السردية الأمريكية، وتسببت في انهيار مفاهيم الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، وحتى زعزعة ثقة الشعوب بقادتها وتاريخها وخياراتها.
ونتيجةً لذلك حصل انقلاب في الجولات الانتخابية الأخيرة في أوروبا، فيما شكلت حملة “غير ملتزم” عبئًا كبيرًا على المسار الانتخابي الأمريكي، بينما كان يُنظر للسردية الفلسطينية في مواجهة السردية الإسرائيلية أصبحت الأولى تواجه السردية الغربية بكل قوة وبالكثير من نقاط القوة.
تقول الكاتبة رضوى عاشور في روايتها “الطنطورية”: “هل يمكن قراءة المستقبل في وجوه صبية يمشون في جنازة؟”، اليوم أصبح بالإمكان قراءة المستقبل في وجوه متظاهرين يرفعون السردية الفلسطينية في غير ساحتها بمواجهة السردية الإسرائيلية الغربية وبكثيرٍ من الشواهد والحقائق.
أما السردية الفلسطينية في ساحتها، فإن توقفت هذه الحرب يومًا ما فسنشهد سردية تحمل في داخلها رواية الجرح ورواية الحرب ورواية الموت في مواجهة الحياة، وحينها قد تكون هذه السردية مشروعًا سياسيًا أو جبهةً مقاتلة في حربٍ أخرى أو روايةً في كتاب، ربما لأن الحرب والموت هما ما منحا الفلسطيني سرديته المتفردة وقدرتها على التوسع والبقاء.