من منظور نفسي – علم نفس النمو – يكتمل بناء الشخصية وتستقر أركانها في المرحلة العمرية التي نقضيها في الجامعة (18 – 22)، ويعتقد علماء النفس أن إحداث تغييرات جوهرية في الشخصية فيما بعد هذه المرحلة أمر شديد الصعوبة، إذ تتعاضد العوامل الجينية والبيئية والسلوكية والعصبية واللغوية معًا، مؤطرة حدود الشخصية وكاشفة هويتها، بشكل يسمح بقدر كبير من التنبؤ بخطوات الشخص المستقبلية.
ومن منظور اجتماعي، الالتحاق بالجامعة جرس إنذار شخصي ينذر باقتراب تحمل الفرد مسؤوليته كاملة وحده، والمشاركة في تحمل مسؤولية أفراد آخرين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الصعبة التي تعاني منها منطقتنا، هل يبعث الأمر على القلق؟ حسنًا، ثمة فرص تلوح في الأفق، سنحاول اقتناصها!
لقد غيرت الموجة الحضارية الرابعة، أو حقبة ما بعد الحداثة، كثيرًا من المفاهيم الكلاسيكية التي تخص العمل والتعليم والنجاح، فلم تعد هذه الأمور متمركزة حول سلطة حكومية تدور في فلكها أحلام الشباب أو تتوقف عليها مصائرهم، لقد تفككت كل السرديات القديمة وحل محلها كل ما هو “سائل” ومرن وسريع ومحوسب، وظائف جديدة بزغت: التصوير الفوتوغرافي – إعداد المحتوى – التسويق – السوشيال ميديا – الموارد البشرية – العلاقات العامة – البرمجة ومشتقاتها، ولم تعد الوظائف حكرًا على مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص، وأضحى بإمكان كل فرد – وأي فرد – تأسيس عمله الخاص، وأن يجني أرباحًا خيالية، أيضًا لم تعد المعرفة حكرًا على الدولة، فقد صار العلم متاحًا للجميع بالمجان وفي أي وقت وبأفضل المستويات، والآن، وتأسيسًا على ما سبق، فلنجب عن سؤال المقالة الرئيس عبر الإجابة عن بعض الأسئلة الفرعية:
كيف ندرس في الجامعة؟
مبدئيًا فلنستخدم مفردات “المقررات – الدورات – الكورسات” بدلًا من المركب الإضافي: “المواد الدراسية”، ربما لا يكون ثمة اختلاف دلالي بين المفردات السابقة، إذا ما نظرنا إليها من ناحية اشتقاقها اللغوي، ولكن ثمة اختلاف بين من ناحية الدلالة العرفية والاصطلاحية والذهنية، ففي الوقت الذي تحمل مفردة “المواد الدراسية” دلالات إيحائية مكثفة من مجال دلالي ممل ورتيب وتقليدي ومركزي، تحمل “الكورسات” دلالات مناقضة تمامًا.
لابد أن تعي أن المال المستهدف في أول عامين من الجامعة هو المال الذي يسد احتياجاتك الأساسية ويمنحك قدرًا من الاستقلال، على أن تكون الوسيلة التي تحصل من خلالها على هذا المال هي “تخصصك” و”مهاراتك”
ألا تتفق معي في أن “كورس” إنجليزي مكثف أكثر فائدة وجاذبية – في الوجدان الجمعي – من دراسة نفس “المادة” من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية (12 عامًا)؟ ليس الأمر في التسمية بلا شك؛ ولكن ماذا سيحدث لو تعاملنا مع “موادنا” الدراسية على أنها “كورسات – مقررات”؟
خلال 12 أسبوعًا تقريبًا ينبغي لك الإلمام بأهم القضايا التي تتناول مبحثًا ما، مثلًا الشعر الجاهلي، كان المطلوب منا منهجيًا في الجامعة أن نعرف خطوطه العريضة: السياق الثقافي والاجتماعي الذي أنتجه ومعجم ألفاظه وأهم شعرائه وأمثلة تطبيقية، وذلك خلال مدة زمنية معينة لا تتجاوز أبدًا الـ12 أسبوعًا وقد تكون أقل من ذلك، المطلوب منك في الجامعة هو الإلمام برؤوس الأقلام في كل مقرر دراسي، وعلى قدر إلمامك تكون علاماتك!
ثم بعد الجامعة تختار مبحثًا دقيقًا في واحد من هذه المقررات، وفقًا لعلاماتك وتفضيلك الشخصي، وتتوسع في البحث فيه “الدراسات العليا”، فتجد رسائل جامعية في موضوعات شديدة التخصص مثل: “الفلسفة في شعر المتنبي” أو “تطبيق المنهج النفسي على الإنتاج الشعري لأبي العلاء” وقس على ذلك! تحتاج فقط لبعض مهارات التجريد والتنظيم التي تتطلب وقتًا وممارسة لصقلها.
كيف تحصل على المال في أثناء الدراسة؟
في هذا الصدد لا بد أن تعي أن المال المستهدف في أول عامين من الجامعة هو المال الذي يسد احتياجاتك الأساسية ويمنحك قدرًا من الاستقلال، على أن تكون الوسيلة التي تحصل من خلالها على هذا المال هي “تخصصك” و”مهاراتك”، فالأفضل والأنفع ألا تبتعد عن هاتين النقطتين كثيرًا، كل ساعة عمل وخبرة ومهارة تكتسب في سنوات الجامعة وتضاف إلى سيرتك الذاتية سوف تترجم إلى أموال لاحقًا، لذا لا تهدر وقتك في وظائف غير تخصصية “Hard Skills”، ولا تقلل من شأن الوظائف التي تعتمد على المهارات القابلة للنقل “Soft Skills”: العمل الجماعي والتواصل الفعال والقيادة والتحدث أمام الجمهور، ابتعد عن العمل في شركات الأمن فهي وظيفة بسيطة يمكن لأي أحد القيام بها ولا تتطلب مهارات تقنية أو قابلة للنقل، وأجورها زهيدة جدًا.
يعتقد علماء النفس أن حجر الزاوية في تكوين علاقات ناجحة هو قدرة الشخص على التحلي بالذكاء العاطفي
شخصيًا فضلت العمل مع أحد المراكز العلمية الخارجية التي توفر للطلبة المراجع والمواد التي يطلبها المحاضرون، فكنت أدرس المقررات – بفضل هذا الأمر – عدة مرات، أحد الأصدقاء الذين يجيدون “التصميم” ولم يحالفه الحظ في دراسته أكاديميًا، استطاع الحصول على وظيفة في المجال الذي يهواه ويجيده – التصميم – وجمع بينه وبين الدراسة التخصصية في مجال آخر “الهندسة الكهربائية”، يمكن أيضًا الاستفادة من مساحات العمل الافتراضية – فريلانسينج – لا سيما المنصات الأجنبية: “-Upwork – Freelancer Fiver”.
أعظم ما تقدمه هذه المنصات أنها تدر دخلًا بالدولار، بعض الشباب حققوا مكاسب بآلاف الدولارات عبر تقديم خدماتهم التخصصية لمئات العملاء من كل دول العالم، وكلما أجدت في عملك كلما ازداد تقييمك وازداد الطلب عليك وارتفع ثمن خدمتك التي تقدمها، ولمن يجد صعوبة في التعامل مع المنصات الأجنبية، يمكنه العمل مع المنصات العربية مثل: “مستقل” أو “خمسات”.
المهارات والعلاقات والخبرات.. كيف تنميها؟
يعتقد علماء النفس أن حجر الزاوية في تكوين علاقات ناجحة هو قدرة الشخص على التحلي بالذكاء العاطفي “Emotional Intilligence”، وهو مصطلح صكه عالم نفس أمريكي يدعى دانيال جولمان، وأهم ما يوسم به من يتمتع بهذا الذكاء هو قدرته على الوعي الذاتي “Self- Awareness”، فيستبصر الشخص نقاط قوته وضعفه وخبرات الماضي الإيجابية والسلبية وتأثيرها على نظرته للأمور وسلوكياته بالتبعية، الشق الثاني هو قدرته على الوعي بالآخرين والتعاطف معاهم وقبولهم قبولًا غير مشروط، طالما أن هذا الآخر يتمتع بالحد الأدنى من مقومات التعايش الإنساني السوي.
بالنسبة للخبرات، لا سيما تلك المرتبطة بمجال التخصص، فيمكن توجيهها وتهذيبها وزيادتها عبر الدورات المجانية – أو رخيصة الثمن – المتاحة على الإنترنت
أما المهارات لا سيما تلك القابلة للنقل “Soft Skills”، وهي مهارات لا تقل أهمية أبدًا عن المهارات التقنية، بل تقوم عليها – وحدها – مهن كبيرة مثل الموارد البشرية والعلاقات العامة، أو لا بد من التمتع بها مع المهارات التخصصية للحصول على وظيفة في مجالات أخرى مثل التدريس، يمكن اكتساب هذه المهارات وصقلها عبر المشاركة في الأنشطة الطلابية “Student Activities” والعمل التطوعي، وتشجع الجامعات هذا النوع من الأنشطة عبر منح الطلاب المشاركين علامات إضافية ومزايا ترفيهية، ولا تخلو سيرة ذاتية احترافية CV لمقدم على وظيفة من قسم خاص بالأنشطة اللامنهجية، هذا النوع من الانشطة، وعلى غير الشائع، عامل جذب رئيس لا يمكن الاستغناء عنه في البحث عن وظيفة مناسبة.
وبالنسبة للخبرات، لا سيما تلك المرتبطة بمجال التخصص، فيمكن توجيهها وتهذيبها وزيادتها عبر الدورات المجانية – أو رخيصة الثمن – المتاحة على الإنترنت، استفد من المنصات العالمية مثل: “Coursera” و”Udemy” وإذا لم تستطع فبعض المنصات العربية مثل: “رواق” و”إدراك” يمكن أن تفي بالغرض.
امتيازات جامعية أخرى لا تضيعها
لا شك أن مستوى الخدمات الجماهيرية عامة والتعليمية خاصة ليست على ما يرام في الوطن العربي، وكل جامعاتنا تقريبًا خارج أي تصنيف دولي معتبر، ولكن ذلك لا يعني قتامة المشهد كاملًا، فثمة فرص جامعية متاحة بالمجان، ولا يعلم عنها معظم شباب الجامعة شيئًا، ولا يستفد منها إلا قلة قليلة من المحظوظين، فلم لا تكن منهم؟
سأتكلم هنا عن مصر من خلال خبرات حديثة عايشتها بنفسي أو أطلعني عليها بعض المقربين، ويمكن عبرها توقع أنشطة مشابهة أكبر حجمًا وأفضل تنظيمًا، خاصة إذا استحضرنا حقيقة أن مصر الآن من أفقر الدول العربية، وأن معظم البلاد العربية أفضل حالًا منها من الناحية الاقتصادية، مثلًا تخصص وزارة الشباب والرياضة حصة من موازنتها سنويًا لدعم رحلات ترفيهية صيفية وشتوية بأسعار رمزية، تنشيطًا للسياحة الداخلية وتثقيفًا للشباب وتشجيعًا للأنشطة الاجتماعية، شخصيًا ظفرت برحلة إلى شرم الشيخ 3 أيام، شاملة الانتقالات والطعام “وجبتين” والإقامة “مبيت الشباب”، ولم تكلفني سوى 100 جنيه مصري منذ عامين!
أيضًا بالتعاون مع وزارة الصحة توفر الجامعات رعاية صحية مجانية – أو شبه مجانية – لطلاب الجامعة، صديق مقرب استفاد من هذه الخدمة عقب إصابة رياضية خطيرة، حين أجرى له المستشفى الجامعي 5 أشعة رنين مغناطيسي، كلفتهم خارج الدعم 10 آلاف جنيه مصري ولكنه لم يدفع شيئًا! وقطعًا هذه الأمور أفضل وأيسر في معظم البلاد العربية، فاستفد بها.