تلعب أنشطتنا وسلوكياتنا اليومية دورًا مهمًا في تحديد هويتنا وثقافتنا ومعتقداتنا، ويشمل ذلك عاداتنا الغذائية المبنية في الأساس على مجموعة مختلفة من العوامل، ففي غالبية المجتمعات يشكل الطعام جزءًا مهمًا من الشعائر والطقوس الروحانية التي تعبر عن الهوية الدينية لكل طائفة، وفي الوقت ذاته يمثل بطاقة تعريفية عن الخلفية الاجتماعية للأشخاص وأصولهم العرقية.
كيف أصبح الطعام رمزًا من الرموز الدينية؟
تختلف الخيارات الغذائية من ديانة إلى أخرى
ارتبط الطعام بالدين منذ آلاف السنين، بدايةً من أساطير الحضارات القديمة التي اعتادت التضحية بالكثير من المحاصيل والأطعمة مثل الحليب واللحوم والعسل للآلهة، من أجل أن تبقى على قيد الحياة وتزداد قوة وعظمة، إذ سارت الشعوب القديمة – اليونانية والسومرية والفرعونية – على هذا النهج من أجل تشجيع التواصل بين البشر والآلهة وتعزيز هوية المجتمع الدينية، وبذلك بات الطعام أحد الرموز الدينية المهمة في تشكيل هوية مجتمع ما؛ بناءً على استخدام الغذاء كشكل من أشكال الوساطة مع الإلهة والتواصل مع الموتى.
جنبًا إلى ذلك ومع تطور المفاهيم الدينية وظهور الديانات السماوية وغيرها، أصبحت العلاقة بين الطعام والدين أكثر تنظيمًا وتوسعًا، إذ أصبح الطعام طريقة للتعبير عن المعتقد الديني للمجتمع ككل، وأداة مهمة في قياس درجة تدين أفراده ومدى استعدادهم لتخلي عن هذه الشهوة الدنيوية مقابل احترامهم للأحكام الدينية.
مثال على ذلك، الديانة اليهودية التي تمتلك قائمة معقدة من القواعد والمحظورات الغذائية باسم “الكوشر” التي تعني كل ما هو مناسب وشرعي وتلزم أتباع هذا الدين بتطبيق تعليماتها الخاصة بالطعام منذ عملية شراء المستلزمات إلى طريقة الطهي والأكل.
لا يستخدم اليهود نفس الأدوات في طهي منتجات اللحوم والألبان
ومن الأمور التي يحرمها الدين اليهودي على سبيل المثال هي الخلط بين اللحوم ومنتجات الحليب، حيث تقسم الوجبات الغذائية إلى قسمين: الأول باسم “حلفي” أو Milky أي كل ما يشمل منتجات الحليب، والثاني “بسري” أي Meaty وتعني منتجات اللحوم، واتباعًا لهذه القوائم يحظر على المؤمنين بهذه الديانة أن يخلطوا بين النوعين، كما لا يمكنهم استخدام نفس الأدوات التي استعملوها في أثناء إعداد الطعام.
الأمر نفسه ينطبق على الديانة المسيحية والإسلامية، إذ يعتبر لحم الخنزير واحدًا من أبرز التناقضات الغذائية التي تجمع بين الديانتين، إذ تبيحه الأولى وتحرمه الأخيرة بشكل قاطع لاعتبارات صحية، وهذا إضافة إلى اختلافات أخرى مثل شرب الكحول الذي تسمح به المسيحية بكمية محدودة وتحرمه الشريعة الإسلامية كليًا.
ظهر مبدأ الصوفية في الاستغناء عن الطعام بهدف التعبير عن زهد وكمال المتصوف، اتضح هذا السلوك في شعائر الصيام التي تعلم الصائم الشعور بالآخرين، ومن هنا تتضح القيمة الأخلاقية للطعام في الممارسات الدينية
تنطبق هذه القواعد الصارمة على الديانات غير التوحيدية مثل الهندوسية والبوذية، فعلى سبيل المثال تعتمد القوانين المتعلقة بالطعام في الهندوسية على الطائفة التي ينتمي إليها الشخص، فالبراهميون الذين ينتمون للطبقة العليا ينتمون إلى النظام النباتي الذي لا يستطيع أن يأكل أي شيء فيه روح على اعتبار أنه “جثة ملوثة”، ولذلك يستبعدون اللحوم والأسماك والبيض من وجباتهم الغذائية.
وبالنسبة للطبقات السفلى، يمكنها تناول لحوم الدجاج والماعز والضأن، أما المنبوذون منهم فيمكنهم أن يأكلوا أي نوع من اللحوم بشرط أن يموت الحيوان بسبب المرض أو الشيخوخة. وبهذا تكون هذه العادات الغذائية بمختلف أنواعها أداة تعريفية مهمة في تحديد الميول الدينية للمجتمعات.
وإذا تركنا هذه التابوهات الغذائية جانبًا، فسنرى أن الأديان جميعها اهتمت بآداب الطعام وكيفية تناوله، على سبيل المثال، شدد الإسلام على جانب الاعتدال ونهى عن الإسراف والمفاخرة بهذه النعم، وعلى هذا الأساس ظهر مبدأ الصوفية في الاستغناء عن الطعام بهدف التعبير عن زهد وكمال المتصوف. اتضح هذا السلوك في شعائر الصيام التي تعلم الصائم التحكم بغرائزه والشعور بجوع وحاجة الآخرين، ومن هنا تبرز القيمة الأخلاقية للطعام في الممارسات الدينية.
الطعام من جانب ثقافي
يتمتع الطعام بعلاقة وثيقة مع الثقافة أكثر مما نظن، مع العلم أن هذه العلاقة لم تنم بسهولة، فالحفاظ على المأكولات التقليدية من الضياع والتغيير والسرقة ليس أمرًا سهلًا في ظل موجات الهجرة الواسعة والنزاعات السياسية بين شعوب العالم.
حيث تكمن أهمية هذه العلاقة في الرمزية الوطنية والهوية الثقافية التي يحملها كل طبق، فغالبًا ما يعبر الأفراد عن فخرهم وقوميتهم تجاه وطنهم من خلال إعداد المأكولات الفريدة التي يشتهر بها بلدهم ويعكس من خلالها تاريخهم وقيمهم وعاداتهم.
على سبيل المثال، يقدس الشعب الصيني الحيوية في كل جوانب الحياة تقريبًا وينطبق ذلك في مطبخهم، حيث يستخدمون نكهات مختلفة (مالحة، حارة، حامضة، حلوة، مرة) في طبق واحد، كما أنهم يبذلون جهدًا كبيرًا في تزيين الأطباق وإضفاء ألوان مختلفة إليها، وهذا كله يعكس نظرتهم إلى الحياة وجعلها أكثر جاذبية ونبضًا.
أما المطبخ الأمريكي الذي يعج بمأكولات صينية ومكسيكية يدلل على التنوع العرقي الكبير وتدفق المهاجرين إلى الأراضي الأمريكية؛ ما أثر بشكل ملحوظ على ثقافتها الغذائية وغنى مطبخها.
يستغل الطعام كأداة تاريخية بين الدول التي تعاني من نزاعات سياسية، مثل خلاف اليونانيين والأتراك في إثبات هوية “الجوزلميه” نوع من المخبوزات الذي تشتهر به البلدان
كما يستغل الطعام كأداة تاريخية بين الدول التي تعاني من نزاعات سياسية، مثل خلاف اليونانيين والأتراك في إثبات هوية “الجوزلميه” نوع من المخبوزات الذي تشتهر به البلدان، ومن جانب آخر يدلل به كأداة وطنية أيضًا مثل سرقة دولة الاحتلال الإسرائيلي عدة أطباق فلسطينية ونسبها إلى تاريخها وهويتها.
ورغم أن العولمة والرأسمالية غيرت من بعض هذه التقاليد الغذائية بسبب سياسة الانفتاح، إلا أن الخطوط العريضة لا تزال تحدد أصناف الطعام المباحة والمحظورة في كل ديانة وتذكر بالأصول العرقية والتاريخية لكل طبق.