ترجمة وتحرير: نون بوست
في 28 آب/أغسطس، أطلقت إسرائيل “عملية المخيمات الصيفية”، وهي أكبر عملية اجتياح عسكري يشهدها شمال الضفة الغربية منذ أكثر من عقدين. تحركت القوات الإسرائيلية في البداية إلى مدينة جنين قبل أن تفرض حصارًا شاملًا على مخيم اللاجئين في غضون ساعات، ونفّذ الجيش في الوقت نفسه عمليات في طوباس ونابلس ورام الله وطولكرم.
منذ سنة 2021، استهدف الجيش الإسرائيلي مخيم جنين مرارًا وتكرارًا بحجة محاربة جماعات المقاومة المسلحة، وذلك وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، وكان معظم ضحايا هذه الاعتداءات من المدنيين الفلسطينيين غير المقاتلين والقُصّر.
يقول السكان المحليون والصحفيون الفلسطينيون إن الهجوم الحالي هو الأشد والأعنف منذ سنوات، حيث قُتل ما لا يقل عن 19 فلسطينيًا في جنين من بينهم قُصّر. ويأتي ذلك وسط زيادة كبيرة في العمليات العسكرية الإسرائيلية وعنف المستوطنين في جميع أنحاء الضفة الغربية بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، التي أسفرت عن مقتل ما يقارب 700 فلسطيني في الأراضي الفلسطينية – 185 في جنين وحدها – بطرق وحشية.
وتفيد التقارير الأخيرة بأن الجيش الإسرائيلي أطلق النار على توفيق قنديل البالغ من العمر 83 سنة في مخيم جنين في 30 أيلول/سبتمبر، وتركه في الشارع ليموت دون الحصول على الرعاية الطبية. وقد انتشر مقطع مصوّر على وسائل التواصل الاجتماعي بعد يومين يظهر المركبات العسكرية الإسرائيلية وهي تدهس جثة قنديل.
قنابل وجرّافات ورصاص
يدعي الجيش الإسرائيلي أنه يحارب كتائب جنين وحركات المقاومة الفلسطينية الأخرى، إلا أن العملية الحالية دمرت مساحات واسعة من البنية التحتية المدنية في مخيم اللاجئين في شكل واضح من أشكال العقاب الجماعي.
قالت خيرية خراينة البالغة من العمر 72 سنة لـ 972+: “نسفوا منزلنا، نسفوه!”، بعد لحظات فقط من إجبارها على إخلاء منزلها بالقرب من الحي الشرقي لمخيم جنين للاجئين.
بعد أربعة أيام من بدء العملية، أصبحت المدينة أشبه بمدينة أشباح إلى حد كبير بينما تحوّل المخيم إلى ساحة معركة. أُجبر الفلسطينيون على البقاء داخل منازلهم بينما حوّل الجنود الإسرائيليون المباني إلى قواعد عسكرية ونشروا القناصة على أسطح المنازل المختلفة، وحُرم المدنيّون، بمن فيهم الأطفال وكبار السن والمصابون بأمراض مزمنة، من الحصول على الماء والغذاء والدواء كجزء من الحصار الشامل على المخيم.
قالت خراينة باكيةً وهم محاصرون بين القنابل والجرّافات والرصاص الحي: “لم يُسمح لنا حتى بكوب من الماء”. بالكاد هربت خراينة وابنتها الصغيرة من منزلهم تحت تهديد السلاح، ولم تكن تحمل معها سوى حقيبة سوداء صغيرة فيها بطاقات الهوية وجوازات السفر
أخذ الجيش الإسرائيلي أبناءها الثلاثة (أصغرهم يبلغ من العمر 16 سنة) وزوجها كجزء مما وصفه شهود عيان من داخل المخيم في حملة اعتقالات جماعية تستهدف رجال وفتيان جنين. يعاني زوج خراينة من مرض السكري ويحتاج إلى رعاية طبية مستمرة، أما ابنها الأكبر البالغ من العمر 41 سنة فيصارع مرض السرطان. تتذكر خراينة وهي تحبس دموعها بينما كان الدخان يتصاعد من أنقاض منزلها الذي يبعد بضعة أمتار فقط: “كان قد أنهى للتو جلسة علاج كيميائي”.
على الرغم من منع الصحفيين من الوصول إلى المخيم، إلا أن أصوات الانفجارات وإطلاق النار من الرشاشات كانت تتردد في جميع أنحاء جنين. كانت أعداد كبيرة من الجرّافات الإسرائيلية من طراز “دي-9” وناقلات الجنود المدرعة وسيارات الجيب المدرعة تتحرك في شوارع المدينة، وكانت سماء المخيّم تعج بالطائرات المسيرة، ولم يكن من الواضح ما إذا كانت هذه الطائرات طائرات مراقبة أو طائرات “كواد كابتر” الفتاكة التي تنشرها إسرائيل عادة في كل من غزة والضفة الغربية.
تمكّن بعض الفلسطينيين من الفرار من المخيم، معظمهم من النساء والأطفال، وغالباً ما تم طردهم تحت تهديد السلاح من قبل الجنود الإسرائيليين الذين اقتحموا منازلهم واعتقلوا الرجال والصبية الصغار. ووصف أولئك الذين فرّوا شراسة التكتيكات العسكرية الإسرائيلية خلال الأسبوع الماضي: القنابل اليدوية المضادة للدبابات التي تدمر البنية التحتية المدنية؛ والكلاب الهجومية التي أطلقتها إسرائيل ضد العائلات؛ والمعتقلين الفلسطينيين الذين استُخدِموا كدروع بشرية؛ والذخيرة الحية التي أطلِقت بشكل عشوائي ومتهور.
حصار المستشفيات وسيارات الإسعاف
في الوقت الذي اشتدت فيه العملية العسكرية داخل المخيم، لم يسلم سكان المدينة وضواحيها من آثار الحصار. فمع تجول الجيش في الشوارع وإطلاق النار على السيارات، يخضع الفلسطينيون في جنين لحظر تجول صارم، كما أن الوصول إلى المدينة من الخارج مقيد للغاية.
وقال سعيد سوكي، من حي البطل في الضواحي الجنوبية الشرقية لجنين، في حديث مع +972: “نحن محبوسون في منازلنا منذ أيام. لم نتمكن من الحصول على أبسط الأشياء الأساسية مثل الدقيق وأغذية الأطفال منذ أيام” وقد تم التعامل مع أي محاولة لتجاوز الحصار بوحشية: ففي 1 أيلول/سبتمبر، قصف الجيش الإسرائيلي وقتل ثلاثة أطفال فلسطينيين من سيلة الحارثية غرب جنين بينما كانوا يقودون دراجتهم النارية بعد أن أوصلوا الخبز إلى سكان جنين.
لم تتمكن حتى سيارات الإسعاف من عبور المدينة للوصول إلى مخيم اللاجئين. ووفقًا لرئيس الهلال الأحمر الفلسطيني في جنين، محمود السعدي، فقد تم “إطلاق النار على سيارات الإسعاف ومنع المسعفين من الدخول إلى جنين حتى لانتشال جثث القتلى الفلسطينيين، رغم حصولهم على تصاريح بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي”.
كما فرض الجيش في بداية العملية حصارًا كاملاً على مستشفى جنين الحكومي، وهو المستشفى العام الوحيد في المدينة. وكُلفت شرطة الحدود الإسرائيلية (ماغاف)، بمهمة السيطرة على الدخول إلى المستشفى والخروج منه، وأعلنت المنطقة المحيطة به “منطقة عسكرية مغلقة”. واستمر المستشفى الحكومي في استقبال المرضى عبر سيارات الإسعاف، ولكن فقط بعد أن يتم إيقافهم وتفتيشهم من قبل ضباط “ماغاف”، الذين أجبروا المرضى في بعض الأحيان على الخروج للتحقق من هوياتهم.
من خارج المدينة، يمتلئ الطريق إلى جنين بنقاط التفتيش وحواجز الطرق التي يفرضها الجيش، مما يعيق الحركة ليس فقط للفلسطينيين بل أيضًا للصحفيين والعاملين في المجال الطبي. ومع اتساع نطاق العمليات الإسرائيلية في جميع أنحاء الضفة الغربية، أصبحت مغادرة جنين بنفس خطورة البقاء فيها.
تقول هدى بدران، الممرضة في مستشفى الأمل المجاور لمخيم جنين، في حديثها لـ972+: “أنا هنا منذ أربعة أيام، ولم أتمكن من العودة إلى منزلي بسبب الأحداث الجارية”. وقالت بدران، وهي من مدينة طولكرم – 60 كم جنوب غرب جنين – إن هذه هي المرة الأولى منذ 18 سنة من عملها في العيادة التي لا تستطيع فيها العودة إلى منزلها لمدة أسبوع تقريبًا. وأوضحت: “لا يمكن التنبؤ بما سيحدث. أواجه مخاطر ليس فقط في المغادرة من هنا، بل في العودة إلى المنزل أيضًا”، نظرًا للعملية العسكرية المتزامنة في طولكرم.
ويقول الجيش الإسرائيلي إن جماعات المقاومة الفلسطينية كانت الهدف الرئيسي للهجوم على طولكرم. ومن بين القتلى الذين سقطوا في الأيام الأخيرة أحد مؤسسي كتيبة طولكرم، محمد “أبو شجاع” جابر، إلى جانب المقاتلين مجد داوود ودوسوم سروجي
ولكن كما هو الحال في جنين، وُضع سكان مخيمي نور شمس وطولكرم تحت الحصار، مع منع وصول وسائل الإعلام أو العاملين في المجال الطبي. وبعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من المخيمات في طولكرم في 30 آب/أغسطس، خلّف الجيش الإسرائيلي وراءه دمارًا كبيرًا، حيث قُتل ثلاثة أشخاص على الأقل وأصيب العشرات.
جدّد الجيش هجومه على المخيمين في 2 أيلول/سبتمبر، وقتل قاصرًا واحدًا على الأقل، وهو محمد كنعان البالغ من العمر 15 سنة، وأصاب والده برصاصة في الخصر. ولم يكتف الجيش الإسرائيلي هذه المرة بعرقلة وصول الصحفيين فحسب، بل استهدف الإعلاميين بشكل مباشر.
“إنها نسخة أخرى من غزة”
لا يزال من غير الواضح إلى متى ينوي الجيش الإسرائيلي مواصلة “عملية المخيمات الصيفية”. وتفيد التقارير بأن محافظ جنين، كمال أبو الرب، حاول تنسيق وقف إطلاق النار مع الجيش للسماح بدخول المساعدات العاجلة إلى مخيم اللاجئين، لكن جهوده قوبلت بالرفض. وقد اشتدت العمليات الإسرائيلية بعد أن قتلت كتائب جنين جنديًا إسرائيليًا في كمين مشترك في اليوم الرابع من الحصار. وقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي في بيان له: “ليس لدينا أي نية للسماح للإرهاب… برفع رأسه. لهذا السبب، تتمثل المبادرة في الانتقال من مدينة إلى مدينة، ومن مخيم لاجئين إلى آخر”.
مع ذلك، لم تؤد هذه الهجمات العسكرية الإسرائيلية إلا إلى تعميق الاستياء بين السكان المدنيين الفلسطينيين – الذين يتحملون العبء الأكبر من الهجمات – وزيادة التجنيد في صفوف جماعات المقاومة.
قال أ.أ وهو شاب يبلغ من العمر 30 سنة من سكان جنين طلب عدم الكشف عن هويته خوفًا من حملة الاعتقالات الجماعية التي تشنها إسرائيل: “ماذا تعتقد أنهم يفعلون؟ إنهم يضغطون من أجل التصعيد حتى يتمكنوا من تهجيرنا بالكامل”. وأوضح أ.أ “إنهم يجعلون الحياة لا تطاق بالنسبة لنا. وهذا الأمر يدفعنا بطبيعة الحال نحو المواجهة، وعندما نفعل ذلك، يكثف الجيش الإسرائيلي من ممارساته التعسفية”.
وفي الوقت الذي تحدث فيه أ.أ إلى +972، كانت القوات الإسرائيلية قد أضرمت النار في سوق المزارعين في جنين، وجرفت ما لا يقل عن 70 بالمائة من الشوارع داخل المخيم والمناطق المحيطة به، وقطعت المياه عن المخيم بالكامل وعن 80 بالمئة من مدينة جنين. ومع تخطيط إسرائيل حسب التقارير لاعتبار الضفة الغربية بأكملها “منطقة قتال”، يُحذّر المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون من أن “عملية جنين ليست سوى البداية”.
ويؤكد أ.أ: “هل تعرفون ما هي جنين؟ إنها نسخة أخرى من غزة، وغزة هي فلسطين. لا يمكننا أن نستمر في الفصل بينهما، لأن المعتدي يستهدفنا كفلسطينيين، وسيستخدم المنطق نفسه هنا وهناك لمواصلة إبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم”.
وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يستجب لطلبات 972+ للتعليق حتى وقت نشر هذا التقرير، وستتم إضافة تصريحاتهم في حال ورودها.
المصدر: +972