تزداد الأزمة الإنسانية في قطاع غزة تدهورًا يومًا بعد يوم، نتيجة إمعان السلطة الوطنية وحكومة الاحتلال في فرض الإجراءات العقابية، بذريعة عدم منح حماس فرصة “التمكّين” بالنسبة للسلطة، واستمرار إطلاق بالونات حارقة باتجاه المستوطنات المُحاذية لقطاع غزة بالنسبة لحكومة الاحتلال.
وكمؤشر إيجابي قُوبل على أنه مؤشر لتحركات دولية وإقليمية في سبيل تحقيق انفراجة لقطاع غزة الذي يقاسي الويلات، وصل الخميس 2 من أغسطس/آب، وفد من حركة حماس برئاسة صالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، إلى القطاع، بعد لقائه وزير المخابرات المصرية.
في الحقيقة، يكاد وصول الوفد الذي يترأسه شخص مُدرج على قوائم الاغتيال “الإسرائيلية”، يحمل دلالة وجود توافق إقليمي ـ دولي على صياغة سيناريو جديد لحلحلة الوضع في قطاع غزة بمعزلٍ، نسبيًا، أو ربما عبر استخدام أسلوب الضغط على السلطة الوطنية التي ما زالت ترفض الإقدام على إجراءات فعلية لتثبيت المصالحة، لرغبتها في تمكين ركائز حكمها بالكامل في القطاع.
تلك الذريعة التي يُمكن تفسيرها على أنها رغبة واضحة من السلطة الوطنية لإنهاء ملفات قد تبقى كأوراق ضغط لدى حماس على السلطة، في حال أقدمت على نقل ذات النموذج الأمني الفاعل في الضفة الغربية إلى القطاع، والاستئثار بالتحكم في ملفات القضية الفلسطينية، وربما أبرز هذه الملفات ملفا الموظفين وسلاح المقاومة.
وفي إطار سرد بعض المؤشرات الأخرى عن احتمال وجود انفراجة، يُذكر إلغاء رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتياهو، جولته إلى أمريكا الجنوبية، للنظر في جوانب المعادلة المُطروحة من المبعوث الأممي نيكولاي ميلادينوف، حيث يُمكن اعتبار هذه الخطة أيضًا أحد المؤشرات المذكورة.
وتشمل “خطة ميلادينوف” صياغة مشاريع تنموية للقطاع بقيمة 600 مليون دولار، تتضمن تعاونًا دوليًا من أجل رفع الحصار عن غزة.
تبدو “خطة ملادينوف” جاذبة لمصر، لما توفره لها من فائدة اقتصادية، نتيجة دخول أغلب الموارد عبرها
إن تفاقم الوضع الإنساني وانضمام الاحتلال الإسرائيلي إلى معادلة فرض عقوبات على قطاع غزة، بالإضافة إلى الأولويات الدولية المُوجهة صوب مناطق جغرافية أخرى كسوريا والعراق واليمن، ومع التوجه الأمريكي نحو الضغط على إيران التي تُعد “ظهيرًا” للمقاومة الفلسطينية بشكلٍ عام، وغيرها مع العوامل، دفعت بحماس نحو تحرك واقعي انعكس باختيارها لطريق صياغة توافق إقليمي ـ دولي، لإنهاء الحالة التي تُخيّم على القطاع.
فالأمور لا تحتمل سوى انفراجة وليس تصعيدًا برزت بعض ملامحه مؤخرًا، وعلى ما يبدو، قد شكل التصعيد الأخير دفعة أكبر نحو فتح صياغة معادلة إقليمية ـ دولية جاءت بتحركٍ من الأمم المتحدة وقطر ومصر تحت اسم “خطة ملادينوف” لحل أزمة القطاع التي انعكست بشكل واضح من خلال زيارة المبعوث الأممي نيكولاي ميلادينوف ووزير المخابرات المصرية عباس كامل، لرام الله، حيث مقر الرئاسة الفلسطينية، بالإضافة إلى فتح مصر معبر رفح بشكل يومي منذ بداية شهر رمضان الماضي، وتبدو “خطة ملادينوف” جاذبة لمصر، لما توفره لها من فائدة اقتصادية، نتيجة دخول أغلب الموارد عبرها.
وعلى الصعيد الاقتصادي للخطة، يُمكن الإشارة إلى أنه في حال تم تجاوز السلطة الفلسطينية في حل قضية الأزمة، فإن هناك أموالاً يتم جبايتها على شكل رسوم تنبع من المعابر، وأخرى على شكل ضرائب، تُقدر بمليار دولار، ومع فتح باب التبادل التجاري مع مصر، قد تفوق هذا الرقم، ما يعني عنصر ضغط سياسي اقتصادي قوي ضد السلطة الذي يشكل ذلك لها خسارة كبيرة، وقد يدفعها على المدى البعيد، للانخراط في عملية الحل.
لكن على صعيد إستراتيجي، تحمل هذه الصيغة مخاطر جمّة، أبرزها ترسيخ حالة الانقسام الجغرافي والسياسي للشعب الفلسطيني، لذا قد تتجه حماس نحو تكرار تجربتها السابقة التي تمت عبر التقارب من جناح القائد الفتحاوي محمد دحلان، للضغط على السلطة الوطنية، ومن ثم أظهرت تجاوبًا مع السلطة، عندما رضخت لهذه الضغوط.
لكن هذه المرة قد تطول ضغوط حماس على السلطة الوطنية، بحيث قد تصل إلى درجة الإتمام الفعلي لحل أزمة القطاع، وهذا ما يُشكل، على الأرجح، عائقًا كبيرًا أمام الخطة، فالسلطة الوطنية الممثل الشرعي للفلسطينيين على صعيد دولي، ولا بد من إشراكها في خطوات الحل، ويبدو أنه في حال لم تستجب السلطة الوطنية للضغوط الدولية، قد لا تسير الأمور على ما هو مرسوم لها من قبل حماس التي قد تضطر للنظر في تقديم تنازلاتٍ جديدةٍ لجذب السلطة نحو التعامل مع الخطة.
بات أمر رفع الحصار عن غزة وحل أزمتها، مشكلة أمنية تأتي في إطار السياسات العليا لحماس، ولا تقتصر على كونها مشكلة اقتصادية تأتي في إطار السياسات الأقل أهمية
وعلى الأرجح، قد تشمل هذه التنازلات التخلي عن عدد من الموظفين وبالأخص في الجناح الأمني، لا سيما في ظل رفض ميلادينوف إشمال رواتب مُوظفي حماس بالخطة، وقد بدا واضحًا من إقدام القاهرة على تعديل “الورقة المصرية” للمصالحة الفلسطينية، بأخذ ملاحظات حركة فتح والرئيس محمود عباس بعين الاعتبار، لتصبح محاكية لبرنامج الرئيس عباس القائم على 3 مراحل: المرحلة الأولى تشمل عودة الوزراء ورؤساء الهيئات والسلطات الحكومية لمزاولة عملهم في قطاع غزة خلال 5 أسابيع، ومن ثم وجود وفد أمني يمثل السلطة الفلسطينية، للقاء وفد أمني من حركة حماس في القاهرة، يليها تشكيل لجنة وطنية تراقب تنفيذ اتفاقي القاهرة لعامي 2011 و2017.
أما المرحلة الثانية التي تستغرق 4 أسابيع، فتتضمن تسليم الجباية على أرض الواقع لوزارة المالية في حكومة التوافق، مع النظر لصرف رواتب موظفي حكومة حماس، خصوصًا المدنيين، وأخيرًا تشمل المرحلة الثالثة النظر في إعاد بناء وهيكلة منظمة التحرير الفلسطينية، بما يتضمن مشاركة حماس والجهاد الإسلامي، وهذا ما يشكل ضغطًا على حماس بما يعني إمكانية تنفيذ جزء من خطة ميلادينوف، لكن ليس وفقًا لطموحها.
وفي ذات السياق، تحمل زيارة الوفود الألمانية التي ساهمت مسبقًا في حل ملف اختطاف الجندي جلعاد شاليط، المُتكررة إلى غزة، مفاوضات تتعلق بالجنود المفقودين في قطاع غزة بعد حرب 2014.
ويبدو أن هذا الملف أيضًا قد يُشكل عائقًا أساسيًا أمام الخطة المطروحة للتنفيذ، فقد ربط اجتماع حكومة الاحتلال الأمني المُصغر تنفيذ الخطة باستعادة جثماني الجنديين المختطفين لدى حماس، ويبدو أن “الصبر الإستراتيجي” الذي يعني سياسة النفس الطويل لكسب الوقت هو الكفيل بحل الأزمة، ويمكن أن يتم ذلك من خلال موافقة الأمم المتحدة على خططها وتحميل مسؤولية تفاقم الأزمة للأطراف الأخرى، مع الاستمرار في الاحتجاجات الشعبية التي لا يبدو في الأفق بديلًا فاعلًا لها.
في الختام، بات أمر رفع الحصار عن غزة وحل أزمتها، مشكلة أمنية تأتي في إطار السياسات العليا لحماس، ولا تقتصر على كونها مشكلة اقتصادية تأتي في إطار السياسات الأقل أهمية، فارتفاع حدة الأزمة واستمرارها على ذلك، يعني اضطرارها لتقديم تنازلات على حساب عقيدة مشروعها القائم على المطالبة بتحرير الأراضي الفلسطينية بالكامل، وهذا ما يدفعها للميل نحو النظر في كل السيناريوهات المُمكنة التي لا يبدو تنفيذ أي منها قد يسير على النحو الذي ترنو إليه بالضبط.