لا تزال أصداء تغريدة الخارجية الكندية التي طالبت فيها بالإفراج عن النشطاء المعتقلين بالمملكة تلقي بظلالها على أجواء العلاقات بين البلدين، إذ تصعد الرياض من رد فعلها الذي لم يقف عند حاجز استدعاء سفيرها لدى أوتاوا، وتوصيف السفير الكندي لديها بأنه “شخص غير مرغوب فيه”، معتبرة أن ما حدث “تدخلًا صريحًا وسافرًا في الشؤون الداخلية للبلاد”، فضلًا عن تجميد العلاقات الاقتصادية والاستثمارية معها ووقف الرحلات الجوية، وصولًا إلى سحب طلابها المبتعثين في كندا.
رد الفعل السعودي أثار موجة من التساؤلات وذهب بالبعض إلى ما هو أبعد من مجرد تغريدة أثارت غضب دولة بأكملها، لا سيما أن العديد من الانتقادات الدولية قد وجهت لملف حقوق الإنسان بالمملكة دون أي موقف يذكر، آخرها البيان الصادر عن مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية الذي قال فيه: “طلبنا من حكومة المملكة العربية السعودية معلومات إضافية بشأن احتجاز العديد من النشطاء”.
التزامن بين الحملة السعودية ضد كندا وتوتر علاقات الأخيرة مع الولايات المتحدة خلال الأشهر الماضية كان بدوره علامة استفهام جديدة، فهل جاء التصعيد السعودي وما تلاه من دعم عربي وخليجي وإسلامي استجابة لضغوط أمريكية بهدف ابتزاز الحكومة الكندية؟ أم أن ولي العهد محمد بن سلمان – كعادته – يواصل عزفه على أوتار مغازلة حليفه دونالد ترامب بمثل هذا الموقف الذي بلا شك يتماشى مع نهج الرئيس الأمريكي؟.
تصعيد وتهديد
الموقف السعودي من كندا تجاوز مرحلة التنديد بما وصفته المملكة “تدخلًا في شؤونها الداخلية” إلى ما أشبه بالحملة الضارية التي سخرت فيها الرياض كل أسلحتها الإعلامية والدبلوماسية، حيث تبنت بعض العواصم العربية والإسلامية موقف الرياض من أوتاوا على رأسها الإمارات والبحرين والسودان والسلطة الفلسطينية ورابطة العالم الإسلامي.
هذا بخلاف الرسائل الضمنية التي بعثت بها المملكة عبر أذرعها الإعلامية على السوشيال ميديا ما أثار ضجة بين رواد تلك المواقع، ففي تعليق وصفه البعض بـ”السقطة” أحدث تصميم نشره حساب إنفوغرافيك السعودية تعليقًا على الأزمة حالة من الجدل، حيث وجهت اتهامات للرياض بتهديد كندا بما يشبه هجمات 11 من سبتمبر/أيلول ضد برجي التجارة في نيويورك عام 2001.
التصميم الذي حذفه الحساب فيما بعد بدعوى أنه “غير موفق” ظهر فيه صورة لطائرة مدنية كندية تحلق باتجاه برج “سي إن” في تورنتو مع عبارتي “يحشر أنفه فيما لا يعنيه” بالإضافة لـ”المثل العربي يقول من تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه”، وعلى الفور جاءت تعليقات المغردين منددة بتلك الرسالة التي اعتبروها تهديدًا واضحًا للكنديين.
المغرد الكندي ديك فاندن بوستشيه قال تعليقًا على المنشور: “إنفوغرافيك السعودية تهدد كندا بهجمات إرهابية على طراز 11/9″، فيما قال مغرد آخر “25 كنديًا قتلوا في هجمات سبتمبر التي نفذها 15 سعوديًا.. اختيار غير حكيم للصورة”.
@Infographic_ksa threatens Canada with a 9/11 style terrorist attack. #SaudiArabia #KSA #canada #toronto #onpoli #cdnpoli pic.twitter.com/iBd4va3mZ6
— Dick Vandenbussche🍁 (@Instigators_) August 6, 2018
https://twitter.com/MyPetGloat/status/1026511525559721985
https://twitter.com/CitizenWR/status/1026515682576359427
فيما أعادت كندا تمسكها بموقفها المدافع عن حقوق الإنسان كما جاء على لسان وزيرة خارجيتها كريستيا فريلاند التي قالت: “سأكون واضحة جدًا.. كندا ستدافع دومًا عن حقوق الإنسان في كندا وأنحاء العالم، وحقوق النساء هي من حقوق الإنسان”.
ازدواجية مخادعة
تفاعلت وسائل الإعلام الدولية مع الأزمة السعودية الكندية، حيث وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية طرد الرياض لسفير كندا وقطع العلاقات معها بأنه عمل لا يقوم به إلا “الطغاة المتخلِفون”، معتبرة الادعاءات السعودية بتدخل كندا في شؤونها خداعًا، لكون المعتقلة سمر بدوي حاصلة على الجنسية الكندية.
الصحيفة في عددها الصادر اليوم الثلاثاء أكدت أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عاد ليقوض مرة أخرى الإصلاحات التي بدأها لتحديث المملكة، من خلال العمل بشكل استبدادي مع رجال دين وتجار وأثرياء ونشطاء حقوق إنسان، مضيفة “ليس غريبًا أن ترفض الدول الانتقادات الخارجية، ولكن هذا الانتقام السعودية عدواني وليس له أي داعٍ، وهو فعل يهدف بالدرجة الأولى لتخويف من يفكر بانتقاد السعودية”.
أكبر انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات السعودية تشمل القتل غير الشرعي، بما في ذلك الإعدامات دون الالتزام بالإجراءات القانونية اللازمة، والتعذيب والاعتقالات والتوقيفات التعسفية للمحامين والحقوقيين والمعارضين والمعتقلين السياسيين
كما انتقدت ما أسمته “الصمت الغربي” إزاء ما فعلته السعودية ضد كندا، قائلة “مثل هذا الفعل سابقًا كان لا يمر بصمتٍ كما يجري الآن، في حين لم نسمع حتى اللحظة سوى تذمر محدود”، وبحسبها فإن السعودية لم تقدِم أي تفسير لاحتجاز السيدة سمر بدوي، التي كان زوجها السابق – وهو محامٍ – مسجونًا أيضًا.
الصحيفة كذلك رفضت ادعاءات السعودية بشأن التدخل في شؤونها، واصفة ذلك بالخداع؛ لكون بدوي وعائلتها يقيمون في كندا كلاجئين سياسيين، وتم منحهم الجنسية الكندية، لافتة إلى أن المملكة من إحدى الدول الموقعة على الميثاق، وعضو في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي تتمثل مهمته في تعزيز وحماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
علاوة على ذلك فقد اتهمت الرياض بالتدخل في شؤون دول عربية كاليمن والبحرين وقطر، كذلك سعت إلى التأثير في صفقة الرئيس السابق باراك أوباما مع إيران بخصوص البرنامج النووي الإيراني، منتقدة موقف واشنطن من رد الفعل السعودي.
الإخوة والأخوات المبتعثين والدارسين على حسابهم الخاص
إشارة إلى الأمر السامي الكريم القاضي بإيقاف كافة برامج التدريب والابتعاث والزمالة إلى كندا،
وعدم بقاء أي مبتعث أو متدرب بنهاية صيف هذا العام 1439هـ،
— الملحقية الثقافية السعودية بكندا (@SaudiBureau) August 6, 2018
أمريكا تنتقد كذلك
في أول تعليق لواشنطن على توتر العلاقات بين السعودية وكندا قال بيان الخارجية الأمريكية إن كلا البلدين حليفان مقربان مضيفًا “نواصل تشجيع حكومة السعودية على احترام الإجراءات القانونية ونشر معلومات بشأن وضع القضايا القانونية”.
التعليق الأمريكي على التصعيد السعودي اعتبره البعض كاشفًا لازدواجية الرياض في تعاملها مع الاتهامات التي توجه إليها، متسائلين: لماذا أثارت تغريدة كندا قلق السعوديين إلى هذا الحد بينما لم يحرك أحد ساكنًا حيال الانتقادات الأمريكية المتواصلة التي وصلت في بعض الأحيان إلى المطالبة بفرض عقوبات عليها كما جاء على لسان بعض أعضاء الكونغرس قبل ذلك؟
وفي أبريل الماضي أصدرت أمريكا تقريرًا عن حالة حقوق الإنسان في السعودية، أشارت فيه إلى أن الاعتقالات المستمرة للناشطين المدنيين والحد من حرية التعبير من القضايا الأهم في المملكة، وجاء فيه أن أكبر انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات السعودية تشمل القتل غير الشرعي، بما في ذلك الإعدامات دون الالتزام بالإجراءات القانونية اللازمة، والتعذيب والاعتقالات والتوقيفات التعسفية للمحامين والحقوقيين والمعارضين والمعتقلين السياسيين، والتدخل التعسفي في الحياة الشخصية وتقييد حرية التعبير عن الرأي، بما في ذلك في الإنترنت، وتجريم الكذب وتقييد التجمع السلمي والتجمهر وتقييد حرية المعتقد وحرمان المواطنين من إمكانية اختيار الحكومة عبر انتخابات حرة وعادلة، وتجارة البشر واستخدام العنف ضد النساء والتمييز الجنسي وتجريم النشاطات الجنسية لأحد الجنسين، رغم إعلان مبادرات جديدة في مجال حقوق النساء.
فريق آخر ربط بين تزامن الهجمة السعودية وحلفائها ضد كندا من جانب وتوتر العلاقات بين كندا والولايات المتحدة من جانب آخر، في إشارة إلى أن موقف المملكة كان استجابة أو مجاملة للموقف الأمريكي في محاولة لممارسة المزيد من الضغط على الحكومة الكندية بعد انتقاداتها الحادة مؤخرًا ضد سياسات ترامب
الخارجية الأمريكية لفتت في تقريرها إلى أن الرياض تمارس بصورة واسعة اعتقالات النشطاء دون توجيه أي تهم رسمية لهم وعقد جلسات المحاكمة بقضاياهم ومنعهم من الاتصال بالمحامين، وتحتجزهم في السجون لأسابيع بل أشهر، مبينة أن الجهات الأمنية تتجاوز في استخدام القوانين الخاصة بمكافحة الإرهاب، وتطبقها أحيانًا في التعامل مع الناشطين السياسيين والحقوقيين والصحفيين.
وبعد شهر واحد فقط من التقرير السابق، جددت واشنطن موقفها المندد بالانتهاكات الحقوقية السعودية، حينما أعربت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر ناويرت عن قلق بلادها من سلسلة اعتقالات الناشطين في السعودية، قائلة إن واشنطن تتابع عن كثب هذه القضية.
ورغم الانتقادات الأمريكية المتواصلة لمنظومة حقوق الإنسان في المملكة فإن الأخيرة لم يصدر عنها أي تعليق أو إجراءات مضادة على عكس ما حدث مع كندا، ما أثار حالة من الجدل دفعت ببعض المحللين إلى القول إن الأزمة الأخيرة سياسية بامتياز على عكس المعزوف عليه إعلاميًا.
رغم انتقادات أمريكا المتكررة لم تحرك الرياض ساكنًا
تبعية أم استقلالية؟
تباينت التأويلات بشأن ماهية رد الفعل السعودي غير المتوقع من وجهة النظر البعض، والتصعيد الخطير الذي ربما يهدد بإحداث شروخات قوية في العلاقات بين البلدين، حيث ذهب المحلل السياسي الروسي سيرغي ديميدينكو إلى أن تصرفات السعودية تحمل طابعًا سياسيًا بحتًا.
ديميدينكو لفت في تصريحات لـ “القدس العربي” إلى أن أيًا من البلدين لن يتكبد خسائر اقتصادية ملموسة بسبب هذه التطورات، لأنهما لا تمثلان أولوية في مجال التجارة بالنسبة لبعضهما بعضًا، خاصة أن حجم التبادل التجاري بينهما يصل نحو مليار دولار فقط، وكندا منافس أكثر منها حليف للمملكة بسبب دورها في سوق النفط.
المحلل الروسي يرى أن السلطات السعودية تسعى لعرض مواقفها الحاسمة والحازمة في جميع الاتجاهات لا سيما في فترة الإصلاحات الجارية في البلاد حالًًّا، قائلًا: “على الرياض أن تظهر أن كل شيء يجري على ما يرام، والسلطة مركزة بشكل صارم في أيدي عائلة آل سعود لدرجة تدفعها إلى الالتزام بمواقف أكثر حزمًا في السياسة الخارجية”، وتابع: “تمثل كندا في هذا السياق جهة أكثر ملاءمة بالنسبة للسعودية، لأن الرياض لن تخسر أي شيء اقتصاديًا وستستفيد من هذا الوضع سياسيًا”.
فريق آخر ربط بين تزامن الهجمة السعودية وحلفائها ضد كندا من جانب وتوتر العلاقات بين كندا والولايات المتحدة من جانب آخر، في إشارة إلى أن موقف المملكة كان استجابة أو مجاملة للموقف الأمريكي في محاولة لممارسة المزيد من الضغط على الحكومة الكندية بعد انتقاداتها الحادة مؤخرًا لسياسات ترامب.
استمرار الهبة السعودية ضد كندا وإن كانت تضيف عدوًا جديدًا إلى قائمة الأطراف التي تختلف معها في الرؤى والمواقف السياسية، فإنها وضعت العديد من التساؤلات بشأن ازدواجية السياسة الخارجية السعودية
في يوليو الماضي هاجم مستشارون كبار في البيت الأبيض رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بعد يوم من وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب له بأنه “مخادع للغاية وضعيف“.
المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض لاري كودلو وعقب تراجع دونالد ترامب عن تأييد البيان الختامي لقمة مجموعة الـ7 التي عقدت في كندا مؤخرًا، اتهم ترودو بخداع الرئيس الأمريكي عبر إدلائه ببيانات وصفها بأنها مثيرة للاستقطاب بخصوص سياسة الولايات المتحدة التجارية، مشيرًا إلى أن مثل هذه التصريحات ربما تظهر ترامب ضعيفًا عشية قمته التاريخية مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون.
كودلو الذي يعمل مديرًا للمجلس الاقتصادي الوطني الذي رافق ترامب في قمة الدول الغنية، في برنامج “حالة الاتحاد” الذي تبثه شبكة “سي.إن.إن” قال: “لا شك أنه (ترودو) طعننا في الظهر”، ما أثار حفيظة الكنديين بصورة كبيرة بخلاف تعاطف بعض الدول الأوروبية كألمانيا وفرنسا اللتين دخلتا على الخط بدورهما وانتقدتا سياسات ترامب بشكل كبير.
وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند ردت على هجوم البيت الأبيض بقولها إن الهجوم الشخصي لن يفيد، وإن كندا سترد على الرسوم الجمركية الأمريكية بطريقة محسوبة جيدًا وعلى أساس المعاملة بالمثل، مضيفة أن بلادها ستكون دوما مستعدة للحوار، مؤكدة أن بلادها “لا تمارس دبلوماسيتها من خلال تبادل الانتقادات الشخصية.. وحين يأتي الهجوم من حليف مقرب نترفع بصفة خاصة عن مثل هذه الإهانات الشخصية”.
استمرار الهبة السعودية ضد كندا وإن كانت تضيف عدوًا جديدًا إلى قائمة الأطراف التي تختلف معها في الرؤى والمواقف السياسية، فإنها وضعت العديد من التساؤلات بشأن ازدواجية السياسة الخارجية السعودية التي انتفضت ضد أوتاوا وغضت الطرف عن انتقادات واشنطن، هذا بخلاف ما أثير بشأن تبعية ابن سلمان لترامب ومساعيه للتودد إليه طمعًا في مباركته لخلافة والده على كرسي العرش، حتى لو كانت استقلالية القرار السعودي هي الثمن.