قد تكون قدرتنا على تخريب أنفسنا وتدمير ذواتنا من أكثر الأمور الغريبة في الحياة. فبطريقةٍ أو بأخرى، كلنا فعلنا أشياء وأتينا بسلوكياتٍ كنّا نعرف مسبقًا أنها سيئة لنا وستأتي بتبعاتٍ سلبية، بدءًا من التجاوزات الصغيرة مثل الإكثار من الشوكولاتة أو غيرها من أنواع الطعام الضارّة بصحتنا والمدمّرة لنظامنا الغذائي، إلى تصرفاتٍ أكثر تدميرًا وتعقيدًا مثل التورّط في علاقة نعرف أنها ستنتهي بطريقةٍ سيئة أو أنّها لن تعود علينا سوى بالألم والمعاناة. ناهيك أصلًا عن التصرفات الأكثر تدميرًا للذات مثل الإدمان ومحاولة إيذاء النفس جسديًا أو تعريض نفسك عن طيب خاطر لعنف شخص آخر، أو حتى الانتحار.
ومع ذلك، فإن هذه السلوكيات، التي يمكن التعرف عليها والوعي بها بشكلٍ صارخ، ليست أكثر أشكال التدمير الذاتي شيوعًا وانتشارًا، فهناك الكثير من السلوكيات الخفية التي لا يعي لها الفرد على الإطلاق ويسلكها مرارًا وتكرارًا دون أيّ انتباهٍ أو شعور، مؤثرةً بشكلٍ كبير على حياته اليومية ورفاهيته وصورة ذاته.
تتعدّد أساليب التدمير الذاتي مثل اضطرابات نهم الأكل والإدمان ومحاولة إيذاء النفس والانتحار
فعلى الرغم من أنّنا نعتقد أنفسنا واعين لسلوكياتنا وتصرفاتنا، إلا أننا نواصل القيام بتلك السلوكيات وتكرار الأخطاء نفسها دون أن نعرف ذلك. وهذا هو تمامًا ما جاء به وأكّده فرويد؛ أنّ سلوكياتنا وأفكارنا الواعية أشبه بقمّة جبل الجليد العائم في المياه القطبية، إذ لا يبرز منه سوى جزء يسير جدًا، بينما الجزء الغالب مختفٍ ومغطىً تحت سطح الماء، وهو يشبه اللاشعور واللاوعي في عدم ظهوره وفي ضخامته.
هناك مجموعة أخرى من السلوكيات التي يمكن تصنيفها كسلوكيات مدمّرة للذات، مثل المماطلة والانسحاب والشكوى الزائدة. وعلى الرغم من أنها تبدو ليست بذلك السوء، إلا أنها تعمل بشكلٍ متكرّر دائم حتى تصبح جزءًا من الحياة اليومية يصعب التخلّص منه أو حتى تغيب عن الوعي والإدراك.
لكن لماذا نفعل ذلك؟ لماذا نختار من وقت إلى آخر ما هو سيّء لنا، أو نختار بعض مسارات الحياة التي نعرف أنها ستكون عائقًا في طريق نموّنا وتطوّرنا؟ ولماذا نجد أنفسنا محاصرين في العديد من الدوائر غير الصحية والمدمّرة، سواء كان ذلك في المشاعر أو السلوكيات أو العلاقات أو الأفكار؟ فلو فكّرنا بالأمر لوجدنا أنه ليس من المنطقيّ أبدًا أن نأتي بشيءٍ يزيد من معاناتنا النفسية، لكننا ومع ذلك نأتي بالكثير من تلك الأشياء. إذن فلماذا؟
يقترح فرويد أنّنا جميعًا محكومون بمجموعتين من الغرائز المتضاربة: غريزة الحياة التي تسعى للنموّ والتطور، وغريزة الموت التي تسعى إلى تدمير النفس وتخريبها وفنائها.
التكرار القهري: تدمير الذات عن طريق الحنين للألم والمعاناة
يمكن أن يساعدنا فرويد في فهم هذا الصراع أكثر. إذ يقترح لنا أنّنا جميعًا محكومون بمجموعتين من الغرائز المتضاربة: غريزة الحياة التي تنطوي على الدوافع المؤدية للنموّ والتطوّر النفسي، مثل الغراز الجنسية والإبداعية والرغبة بالاستمرار والبقاء. ومن جهةٍ ثانية، فثمة غريزة الموت؛ أو القوة المعارضة التي تسعى إلى تدمير النفس وتخريبها وفنائها.
طور فرويد مفهوم “غريزة الموت” من خلال مراقبته وتحليله لبعض السلوكيات الفردية مثل ” الماسوشية”، أو ما سمّاه أيضًا بمصطلح “التكرار القهري” الذي يمكن تعريفه بكونه “الحنين إلى حالة الأشياء كما اعتادناها في السابق”، لكنّ فرويد ركّز على الجانب السلبي من التكرار، حيث يلجأ الناس لتكرار ماضيهم السيء أو الأليم باستمرار على غير هدى معتقدين أنه ليس في الإمكان غير هذا، وهو ما يُعرف “بالانقياد للموت أو “الرغبة في عدم الوجود”. وبكلماتٍ أخرى، هو الإلزام اللاواعي الذي يقود الشخص إلى وضع نفسه بشكل متكرر في مواقف مؤلمة أو مليئة بالمعاناة.
يلجأ الناس لتكرار ماضيهم السيء أو الأليم باستمرار على غير هدى معتقدين أنه ليس في الإمكان غير هذا، وهو ما يُعرف “بالانقياد للموت أو “الرغبة في عدم الوجود”
قد يظهر السلوك المدمّر أيضًا في محاولتك لإبعاد أصدقائك أو حبيبك عنك. فضعف ثقتك بذاتك على سبيل المثال، قد يجعلك ترى أنّ تاخر صديقك بالرد على رسائلك أو مكالماتك الهاتفية كنوعٍ من التجاهل واختلاف المشاعر، فتقوم بدورك بالابتعاد عنه وتخريب الصداقة دون وعيك بالأسباب الحقيقية. أو قد تشعر بالخوف من فقدان علاقتك العاطفية وخسارتها حين وصولها لأوجها، فتقوم ببعض السلوكيات المزعجة والمؤذية بحقّ الطرف الآخر، حتى يقوم بنفسه برفضك وإنهاء العلاقة.
السلوك نفسه قد يتكرّر في أيّ علاقة لاحقة. فعلى الرغم من أنك لا تريد التصرّف على هذا النحو، إلا أنّ تجاربك السابقة التي خلقتها بنفسك تدفعك للتصرف على هذا النحو المألوف لديك مرارًا وتكرارًا، فيصببح التصرف العقلاني الإيجابيّ غريبًا في حين أنّ التصرّف المألوف وإنْ كان سلبيًا أو ضارًا لكَ وللأخرين هو سيّد الموقف، وهذا ما عناه فرويد بالتكرار القهري.
ويقودنا الأمر إلى السؤال الذي قد نسأل أنفسنا إياه كثيرًا: لماذا قد يتزوج أحدنا أو يدخل في علاقة مع شخصٍ يشبه والديْه، خاصة إذا كانا يمتلكان صفاتٍ سيئة أو سلبية، أو لماذا يبحث في شريكه الجديد عن ما يشبه آخر قديم انتهت علاقتهما؟ جميع هذه الأسئلة تودي بنا إلى سلوك “التكرار القهري” ورغبتنا بتكرار الماضي ومعاناته وأحداثه المؤلمة من خلال إعادة تمثيل الحدث أو وضع النفس في المواقف التي من المحتمل أن يحدث فيها الحدث مرة أخرى.
تكرارنا للمعاناة وتدمير الذات قد يكون سببه رغبتنا في الحفاظ على الخبرة المعاصرة المرتبطة بها، بدلًا من تذكّرها كشيءٍ حدث في الماضي وانتهى
يدرك جميع البشر -بالخبرة- أنّ الحياة تنطوي بشكلٍ أو بآخر على درجة من المعاناة والألم؛ بدءًا من الجهد الذي نبذله للوصول إلى أهدافنا وتحقيق متعنا وآمالانا، ومرورًا بالتجارب الصعبة والأليمة من فقدٍ وخسارة وخيبات الأمل والفشل والرفض التي يمكن أنْ نمرّ بها بين الفترة والأخرى. لذلك فتكرارنا للمعاناة وتدمير الذات قد يكون سببه رغبتنا في الحفاظ على الخبرة المعاصرة المرتبطة بالمعاناة، بدلًا من تذكّرها كشيءٍ حدث في الماضي وانتهى.
كما يعود السبب أيضًا في سعينا للراحة فيما هو مألوف ويمكن التنبؤ به، حتى لو كان هذا يعني تكرار المعاناة وتدمير الذات أكثر وأكثر، خاصة في نطاق العلاقات العاطفية. فتكرار المألوف في العلاقة قد ينتج عن الرغبة في إعادة التاريخ والماضي من أجل تغيير النتيجة في الحاضر والمستقبل، وبالتالي القدرة على التحكّم فيما لم نتمكن من التحكّم به سابقًا. وبحسب تعبير فرويد، “الرغبة في العودة إلى حالة سابقة من الأشياء.
إعادة السيناريوهات الأليمة من ماضينا قد تكون بدافع الأمل في أن نتعامل مع الأمر هذه المرّة بشكلٍ صحيح
أي أنّ إنّ إعادة السيناريوهات الأليمة من ماضينا قد تكون بدافع الأمل في أن نتعامل مع الأمر هذه المرّة بشكلٍ صحيح. فقد نظّن أنه إذا تصرفنا بشكل أفضل أو عثرنا على الكلمات المناسبة أكثر أو تعاملنا بطريقةٍ مغايرة، فإنّ الشريك أو الأب/ الأم لن يرفضنا أو يسيء معاملتنا، وبدون إدراك أو بدون وعي، نبقى نعتقد أنّنا نملك القدرة والقابلية على إرضاء ذلك الشخص وبالتالي الحصول على حبه وقبوله.
كيف يمكن التخلص من سلوكيات التدمير الذاتي؟
تقترح العديد من أنواع العلاجات النفسية مثل “العلاج السلوكي المعرفي” و”العلاج السلوكي الجدليّ” أنّ إعادة تشكيل نماذج التفكير التي أدت إلى اعتياد مثل هذه السلوكيات يمكن أنّ تكون حلًا ناجعًا في الكثير من الحالات والمواقف، حيث يكون الهدف منها توجيه الوعي لتلك التشوهات في المعتقدات عن النفس والآخرين عن طريق تصحيح مسارات الفكر والتفكر والنظر في الأمور من خلال تعرّف الفرد على الأفكار والأفعال المضرة ونبذها بحرية. كما يمكن للعقل حينها أن يستعيد قدرته على تشكيل أفكار جديدة بناءة وعقلانية وإيجابية تقوده لخيارات وسلوكيات أكثر ملائمة وصحةً، وهنا يأتي دور المعالِج النفسي الذي يساعد في توجيه الوعي واكتساب تلك الأفكار.
يمكن أن يساعد العلاج النفسي على تحقيق التوازن بين ازدواجية غريزة الحياة وغريزة الموت، مما يخفف من الزخم المدمر للذات. ومن المهم إدراك أن هذا العلاج ليس سهلًا للغاية؛ فالأفكار والسلوكيات المدمّرة للذات تكون ثابتة وعنيدة في شخصية الفرد، وتحتاج الكثير من الوقت لتغييرها وفهمها، لكنّ الأمر ليس مستحيلًا بالنهاية.